في الساعة الثامنة من مساء السبت 13 من أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2012، موكب مؤلف من سياراتي دفع رباعي تحملان لوحات أجنبية، تسيران على طريق غير معبدة بسرعة فائقة، بإحداهما كان يوجد رجلان ملثمان.

وعلى بعد 65 كلم شمالي العاصمة الموريتانية نواكشوط قرب منطقة «أطويلة» (طريق نواكشوط – أكجوجت) كانت مجموعة من مشاة الطيران الموريتاني تُجري مناورات عسكرية في المنطقة، وقد تفاجأ قائد السرية المسؤول عن تأمين المنطقة بالسيارتين فاعترض طريقهما، هو وأحد مساعديه، وأمرهما بالتوقف، لكنهما زادتا من سرعتهما فأطلق رصاصة تحذيرية ثم قام بإطلاق النار على إحدى السيارات والتي كانت تحمل الرجلين الملثمين، فأصاب أحداهما، ليتضح بعد توقف السيارتين أن المصاب هو الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبدالعزيز، الذي كان قادمًا من منتجعه الرئاسي حيث يقضي عطلة نهاية الأسبوع.

جرى بعدها نقله على وجه السرعة إلى المستشفى العسكري في نواكشوط، أحاط به أفواج من الحرس الرئاسي المدججة بالسلاح، ليجري الرئيس بعدها عملية جراحية ويخرج في تصريح مقتضب على التلفزة الرسمية يخبر الشعب أن عملية إطلاق النار جرت بالخطأ من قبل عناصر من الجيش، قبل أن يتم نقله على وجه السرعة إلى مستشفى بيرسي في باريس، ولعل هذه الحادثة الغامضة هي من سترسم فيما بعد مسار انتقال السلطة في موريتانيا سنة 2019.


ولاء المؤسسة العسكرية قيد الاختبار

على سرير مرضه ظل ولد عبد العزيز الذي فقد جزءًا كبيرًا من وزنه بعد عدة عمليات أجراها، يتابع بشكل قلق الوضع السياسي في موريتانيا بتوجس، وما عرف حينها بمظاهرات الرحيل المتأثرة بالربيع العربي والتي بدأت قبل شهور من تعرضه لإصابته.

وبدأت تتسرب أنباء عن عجز الرئيس عن القيام بمهامه مع غيابه لما يقارب 45 يومًا عن موريتانيا، والتي شهدت عدة انقلابات بيضاء أثناء غياب الرئيس عن أرض الوطن[1]، لكن المؤسسة العسكرية رفضت إقحامها في هذا السجال خصوصًا أن خطاب مظاهرات المعارضة المتأثر بالربيع العربي كان يرفع شعار إسقاط حكم العسكر، ويتحدث زعماؤها (أي المظاهرات) عن المزايا غير المسبوقة التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية[2]، التي كانت فعليًا هي من تدير البلاد أثناء غياب الرئيس للعلاج.


بديل ولد عبد العزيز ومرشح المؤسسة العسكرية

مع نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر للميلاد، وفي الصحراء الموريتانية الشاسعة، على كثبانها الذهبية، دارت رحى معركة هي الأشرس في التاريخ الموريتاني بين قبائل بني حسان العربية المهاجرة والقبائل الصنهاجية أصحاب الأرض، انتهت بهزيمة مؤلمة للقبائل الصنهاجية، وكانت من نتائجها فرض لهجة الحسانية في ربوع الصحراء الموريتانية وتجريد القبائل الصنهاجية من سلاحها.

ودون الدخول في تفاصيل تلك المأساة انشغلت تلك القبائل بطلب العلم الشرعي وانزوت على نفسها، وصار في موريتانيا تقسيم قبلي بين قبائل الزوايا (من انشغلوا بالعلم والفقه)، والعرب (وهم قبائل بني حسان ومن ولاهم)، وفي عام 1959 في منطقة بومديد في ولاية العصابة شرقي البلاد، ولد الجنرال محمد ولد الغزواني لعائلة صوفية كبيرة من قبائل الزوايا، تلقى تعليمه الشرعي ليلتحق بالقوات المسلحة سنة 1979، ويتدرج في مناصبها ليصل إلى قائد كتيبة المدرعات في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع. شارك ولد الغزواني رفقة صديقه ولد عبدالعزيز بالإطاحة بالرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع لتبدأ شراكة الرجلين، التي توجت بالانقلاب عام 2008 على أول رئيس موريتاني مدني منتخب، سيدي ولد الشيخ عبدالله.

وبعد نجاح انقلاب السادس من أغسطس/ آب لعام 2008 تسلم الجنرال محمد ولد عبدالعزيز دفة الأمور في جو أزمة سياسية، حيث رفضت العديد من الدول الأوروبية والأفريقية الانقلاب، وتشكلت جبهة داخلية ضمت أغلب أحزاب المعارضة وعرفت بالجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية، مما دفع المجلس العسكري لقبول توقيع اتفاق مع المعارضة عُرف باتفاق دكار، نصّ على عودة شرفية للرئيس المعزول سيدي ولد الشيخ عبدالله إلى منصبه وتوقيعه على تعيين حكومة انتقالية تشرف على انتخابات، تُجرى في 18 يوليو/ تموز من عام 2009.

قام محمد ولد عبدالعزيز بالاستقالة من المجلس العسكري، ليتسلم رئاسته رفيقه في الانقلاب الجنرال محمد ولد الغزواني في الثامن عشر من أبريل/ نيسان 2009، الضابط الستيني الغامض، الذي لا يُعرف عنه الكثير إلا بعض الشائعات عن حياته الشخصية، كانت تطلقها دوائر قريبة من سلطة ولد عبدالعزيز، حين طرْحه بديلًا (زواجاته وطلاقاته)، وسجل الرجل يكاد يخلو من أي مما يحسب مواقف سياسية، على عكس بقية زملائه من القيادة العسكرية، وهذا ما يجعله مقبولًا لدى دوائر من المعارضة الموريتانية.

كذلك يتمتع بنفوذ كبير داخل مؤسسة الجيش، فهو الرجل الأول داخل المؤسسة الذي تزيد مدة خدمته على 11 عامًا، وقام بعملية تحديث واسعة للجيش الموريتاني لتصبح قيادة الأركان في عهده مكافئًا لكتيبة الحرس الرئاسي (بازيب)، يد ولد عبدالعزيز الضاربة التي شكلها على عينه ليقود بها انقلاب 2005 وانقلاب 2008 الذي أوصله إلى الحكم.


المحاولة الأخيرة لتعديل الدستور

بعد انتخاب ولد عبد العزيز لمدة رئاسية ثانية في 21 يوليو/ تموز 2014 تعددت تلميحات وزراء في حكومته تحت قبة البرلمان وفي الصحافة عن عدم قدسية المادة 22 من الدستور الموريتاني، التي لا تسمح للرئيس بالترشح لأكثر من مدتين رئاسيتين، لكن المؤسسة العسكرية قابلت هذه التصريحات ببرود، سيما أنه منذ عام 2009 يوجد اتفاق ضمني أن ترعى هي انتقال السلطة بين العسكريين.

وعلى الرغم من نفي ولد عبدالعزيز المتكرر لوقوفه خلف هذه المبادرات التي تدعو لتعديل الدستور، لكن هذه المبادرات وصلت لذروتها في الثاني عشر من يناير/ كانون الثاني 2019 عندما قدم مجموعة من نواب برلمانيين يتزعمهم ابن عم الرئيس عريضة تدعو لتغيير المادة الدستورية التي تمنع الرئيس من الترشح، وهو ما أثار حفيظة مجموعة كبيرة من النواب البرلمانيين الداعمين للرئيس والمحسوبين على قيادات من الجيش للاعتراض على ما سموه عبثًا بالدستور وأسس الاستقرار، وهو ما أجهض هذا الحراك في مهده.

ليقوم الرئيس محمد ولد عبد العزيز بإصدار بيان على وجه السرعة من الإمارات في 15 يناير/ كانون الثاني عبّر فيه عن شكره المتمسكين بنهجه، وعبر عن ثقته بحسن نواياهم، لكنه دعاهم للتوقف عن أي مبادرات لتغيير الدستور الذي أقسم عليه.


ترتيبات الساعات الأخيرة

كان من الملفت للانتباه أنه في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 جرى تعيين محمد ولد الغزواني وزيرًا للدفاع، هذا المنصب الذي ظل في غالب الوقت لا يشغله إلا مدني أسوة بالنظام الفرنسي، مما أثار تكهنات حول محاولة الرئيس إبعاد صديقه اللدود عن مكان نفوذه (الجيش)، لكن هذه التكهنات سرعان ما تبددت بإعلان ولد عبدالعزيز في المجلس الوزاري الأسبوعي دعمه هو وحزبه ترشيح صديقه اللدود، الذي قاسمه السلطة منذ انقلاب 2008، وكان موقفه حاسمًا بعد إصابة الرئيس وسفره للعلاج في الخارج.

لكن ولد عبدالعزيز في الشهور الماضية أصدر عددًا من قرارات الترقية لعسكريين محسوبين عليه، خصوصًا وأنه صرح في أكثر من محفل بأنه وإن كان سيغادر منصب رئيس الجمهورية، فلن يغادر الساحة السياسية ومنطقة التأثير فيها، مما يعني أن شراكة السلطة ستستمر بين الرجلين اللذين جمعتهما العسكرية والصداقة لأكثر من 30 سنة.

وفي يوم الجمعة الماضي الأول من مارس/ آذار وجه محمد الغزواني خطاب ترشحه للشعب، معلنًا ملامح برنامجه الانتخابي بحضور زوجة الرئيس المنتهية ولايته محمد ولد عبدالعزيز وعدد من رجال الدولة.


[1] انقلاب عام 1984 الذي قاده العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطايع على الرئيس محمد خونه ولد هيدالة أثناء حضوره قمة أفريقية فرنسية في بروندي، ليطاح بمعاوية ولد سيد أحمد الطايع هو الآخر بنفس الأسلوب أثناء سفره للسعودية لحضور عزاء الملك فهد في الثالث من أغسطس/ آب 2005.[2] أجنحة النظام: المتصارعون على السلطة في موريتانيا، محمد بون العثماني، إضاءات، أغسطس 2018.