على مر العقود الماضية ساهمت التكنولوجيا في اختصار الوقت وفي تسهيل العديد من المهام الصعبة، وكان هنالك انتقال تدريجي إلى إحلال الآلة محل العنصر البشري في العمل، أو ما يُعرف بـ «الأتمتة» Automation، وذلك في بعض الوظائف.

ولكن بعد ظهور وباء كورونا وما نتج عنه من تداعيات اقتصادية على المستوى العالمي والإقليمي، وما صاحبه من تسريح عمالة للبعض والعمل عن بُعد من المنازل بالنسبة للبعض الآخر، أثار العديد من التساؤلات بالنسبة لمستقبل الوظائف الحالية، والشكل الذي ستتخذه سواء في اختزال بعض تلك الوظائف أو الاستبدال بها آلة تقوم بمهامها، أو حتى التخلي عن تلك الوظيفة نهائيًّا؛ حيث من المحتمل أن يُفضِّل الناس الذهاب إلى أماكن تضم عددًا أقل من العمال وآلات أكثر، لأنهم يشعرون أن بإمكانهم تقليل المخاطر الإجمالية، وسيكونون أكثر حذرًا من احتمالات الإصابة بأي عدوى تؤثر عليهم صحيًّا.

مدى تأثر الوظائف بأزمة كورونا

في أواخر تسعينيات القرن الماضي كتب الاقتصادي «جيريمي ريفكين» كتابه المثير للجدل «نهاية العمل»، الذي تنبأ بالتأثير المدمر للتكنولوجيا على القوى العاملة العالمية، مما سيؤدي إلى خروج ملايين الأشخاص من العمل، وقدَّر أنه في حين أن أصحاب الشركات والمديرين، إلى جانب العاملين في مجال المعرفة، سيستفيدون، فإن موظفي الياقات الزرقاء وتُجَّار التجزئة والجملة سيعانون من خسارة واسعة وصعوبة في العمل بأجر مناسب.

ومنذ عام 2000 انخفضت وظائف التصنيع الأمريكية بنسبة 30% أو 5 ملايين عامل، وفي الوقت نفسه، فإن المهن الأربعة الأكثر شيوعًا في الولايات المتحدة، والمتمثلة في: مندوب مبيعات التجزئة، والصرَّاف، والموظف في خدمات الأطعمة والمشروبات، وموظفي المكاتب، وهي المهن التي تمثل 10% من جميع العمال بعدد يصل إلى أكثر من 15 مليون شخص، هم الأكثر عرضة للتغير التكنولوجي. ويصادف أن تكون بعض هذه الوظائف هي الأقل أجورًا، تاركة هؤلاء العمال على قيد الحياة مقابل أجر مناسب.

وفي ذلك السياق، تعتبر أزمة كورونا هي الأشد منذ الحرب العالمية الثانية، فوفقًا لمنظمة العمل الدولية، توقف عن العمل نحو 81% من القوى العاملة العالمية، والتي يبلغ عددها حوالي 3.3 مليار شخص، كما أدت القيود المفروضة على الحياة اليومية إلى إغلاق العديد من الشركات وتسريح الموظفين، إما بشكل دائم أو مؤقت.

وقد قدرت منظمة العمل الدولية عدد الذين يمكن أن يتحولوا إلى عاطلين جُدد بسبب الإغلاق الاقتصادي المفروض، كجزء من الإجراءات الاحترازية لمحاصرة فيروس كورونا عالميًّا، بنحو 25 مليون شخص؛ وهذا العدد يتجاوز من فقدوا وظائفهم في الأزمة المالية العالمية عام 2008، والذين بلغوا 23 مليون شخص.

وقد استجابت الحكومات لمحاولة التخفيف من حدة تلك الأزمة على العمالة المحلية، ففي أمريكا مثلًا طُرحت برامج لدعم رواتب العمالة، تتيح مساعدة الشركات المتضررة من أزمة كورونا على سداد رواتب موظفيها، وفي فرنسا أعلن وزير المالية خطة لتأميم الشركات المهددة من أجل مساعدتها، وغيرها من سياسات تعويضية تكفلت بها الحكومات لصالح المؤسسات والشركات وموظفيها.

ووجدت الشركات التي طبقت نظام العمل عن بعد أنه يرفع الإنتاجية ويُقلل تكاليف الانتقال والسفر واستئجار المقرات، ويقلل البصمة الكربونية للموظفين؛ ونتيجة لذلك ستُقاس الإنتاجية بالمخرجات والنتائج (الكيف)، وذلك بدلًا من عدد ساعات العمل (الكم)، بغض النظر عن مدى إنتاجيتها، وسيكون للموظفين استقلالية أكبر في إدارة وقتهم.

آلات أكثر كفاءة من البشر؟

تقوم شركات التكنولوجيا الكبرى بتوسيع استخدام الذكاء الاصطناعي، وتعتمد عدة شركات مثل Facebook و Google على الذكاء الاصطناعي في عدة مهام، كإزالة العديد من المشاركات غير اللائقة، حيث لا يستطيع مشرفو المحتوى البشر في الشركات مراجعة أشياء معينة من المنزل؛ كما يجري تطوير الذكاء الاصطناعي الذي يمكن أن يحل محل معلمي المدارس ومدربي اللياقة البدنية والمستشارين الماليين؛ ويمكن أن يتحقق ذلك بشكل أسرع لأن عمليات الإغلاق التي أعقبت الأزمة جعلت البشر أكثر راحة لفكرة الاتصال عن بُعد، ولا يحتاج المدرب أو المستشار الموجود على الشاشة إلى أن يكون شخصًا حقيقيًّا، بل يحتاج فقط إلى التفكير والتصرف مثل البشر.

ولا يعني -كما يجادل البعض- أن إنتاج تكنولوجيا جديدة يؤدي بالضرورة إلى إحلال الآلات محل الوظائف التقليدية، فمثلًا في بداية فترة استخدام الجرار لتسهيل مهام الزراعة، كان 80% من البشر يضطرون إلى العمل في الأرض لإطعام إجمالي الـ 100%، ولكن على الرغم من ذلك استمرت وظيفة الفلاح موجودة، مثلها مثل غالبية الوظائف كرجال الدين والجنود، وذلك بشكل أساسي لأن الآلة لا تستطيع استبدال البشر بشكل كلي، وهو جزء من الطبيعة البشرية لخلق فرص العمل.

فالعنصر البشري له أهميته الخاصة في العملية الإنتاجية، خاصة في المهام التي لا تتطلب جهدًا ماديًّا، بينما من السهل على التكنولوجيا أن تستبدل أخرى، ويُشار إلى ذلك بمصطلح التكنولوجيا التخريبية Disruptive Technology، وهو ابتكار يُغيِّر بشكل كبير الطريقة التي يعمل بها المستهلكون أو الصناعات أو الشركات، عن طريق استحداث نظام أو اختراع يحل محل القديم لأنه يتميز بسمات متفوقة بشكل ملحوظ.

ومثال واضح على ذلك النوع من التكنولوجيا في الوقت الحالي هي الطباعة ثلاثية الأبعاد، وهي إحدى تقنيات التصنيع، حيث يتم تصنيع القطع عن طريق تقسيم التصاميم ثلاثية الأبعاد إلى طبقات صغيرة جدًّا باستخدام برامج الحاسوب، ومِن ثَمَّ تُصنَّع باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد عن طريق طباعة طبقة فوق الأخرى حتى يتكون الشكل النهائي، وهي في العادة أسرع وأوفر وأسهل في الاستعمال من التكنولوجيات الأخرى للتصنيع، وتستعد لاستبدال بعض الصناعات في المستقبل.

والجدير بالذكر أن الوظائف الأعلى أجرًا هي الأقل عرضة للاستبدال، حيث إنه وفقًا لتقرير مشترك صدر عن مؤسسة سيتي Citi وجامعة أوكسفورد مارتن Oxford Martin School، بعنوان Technology at Work وذلك في عام 2016، تم توضيح أنه من ضمن 483 وظيفة مختلفة في الولايات المتحدة، يمكن أن يُؤدَّى 113 منها عن بُعد، وهي غالبًا وظائف لا تعتمد على مجهود أو وجود بدني، وأغلبها ذات دخل مرتفع، وشاغلو تلك الوظائف هم أكثر احتمالًا بنسبة خمس مرات للعمل خلال الوباء مقارنة بشاغلي الوظائف التقليدية.

نموذج شركة أمازون

تمتلك أمازون Amazon بالفعل أكثر من 200 ألف روبوت متنقل يعمل في مستودعاتها، وتقوم تلك الروبوتات بتسليم رفوف المنتجات إلى العمال الذين يقومون بتعبئة الأغراض في صناديق للشحن، حيث تلغي الروبوتات حاجة العمال للسير بين الرفوف للعثور على المنتجات. ويتوقع أن تشمل المرحلة التالية من الأتمتة الصناعية لأمازون الروبوتات التي يمكنها اختيار وتعبئة الأغراض، هذه العملية أكثر تعقيدًا لأنها تتضمن الذكاء الاصطناعي ورؤية الكمبيوتر وتقنيات الإمساك.

أتاحت أمازون من خلال تقنية Just Walk Out للمتسوقين الدخول ببساطة إلى المتجر والحصول على ما يريدون والذهاب فقط، وتستخدم أمازون في ذلك مجموعة من التقنيات الكاميرات والحساسات داخل المتجر، والتي تقوم برصد كل غرض يُوضَع في الحقيبة من قبل المتسوق، وإضافته تكلفته تلقائيًّا على حسابه المسجل على تطبيق Amazon Go، وسيساعد ذلك في إنهاء مشكلة الزحام والوقوف في الصف لدفع الحساب. ويمكن أن يواجه ذلك النموذج بالانتقادات، لأنه يسمح بتسجيل البيانات الشخصية للعملاء، وتُرسَل الفاتورة إلى إيميل العميل.

مستقبل الوظائف بعد كورونا

لقد كشفت الأزمة الراهنة عن جوانب لم ينتبه إليها البشر من قبل في أساليب أداء العمل، وقد يكون ذلك هو الأمر الحاكم في سياق هذا التحول في المستقبل؛ وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى استقصاء نفذته قناة CNBC الإخبارية الأمريكية، لتقصي رأي عدد من مديري الشركات والبنوك الكبرى حول العالم، وأكدت النتائج كلها أن «العمل من المنزل» قد يكون هو «الوضع الطبيعي الجديد» لكثير من الموظفين والمديرين كذلك. كما أن شركات كبرى مثل «مورغان ستانلي» و«باركليز»، أصبحت تفكر جديًّا بانتقال دائم للعمل من المنزل.

وقد يترتب على التكنولوجيا الرقمية كذلك انخفاض حجم فرص العمل المتاحة على المستوى الكلي، وإحداث تغيير نوعي في الفرص المتاحة، حيث ينخفض الطلب على الوظائف الروتينية وذات المهارات المنخفضة، في حين يتزايد الطلب على الوظائف التي تتطلب مهارة عالية أو متوسطة، مثل الوظائف المرتبطة بالتعامل مع البيانات والمعلومات الجديدة، وحل المشكلات التقنية، وتلك التي تحتاج إلى مهارات التعامل مع الآخرين ويصعب أتمتتها. كما أن وتيرة هذا التغيير ستصبح أسرع من أي وقت مضى، ففي الوقت الحالي نجد أن العديد من المهن أو التخصصات عالية الطلب لم تكن موجودة منذ عشرة أعوام ماضية.

ومن المتوقع أن يتم إيلاء اهتمام أكبر لمجالات تقنية كالأمن السيبراني، حيث إنه في ظل زيادة الاعتماد على البرامج والإنترنت يسلط الضوء على ضرورة تطوير نظام قوي للأمن السيبراني للعاملين في مجال الصناعة. وقد فتح هذا مجالًا متخصصًا وفرصًا للعاملين في مجال الأتمتة، والذي يتمحور حول السعي نحو تدعيم وصيانة كل من الأمن السيبراني والصحة والسلامة والبيئة.

وفي النهاية، يتضح مما سبق أن التكيف مع العمل عن بعد من المنزل من المرجح أن يسود بشكل كبير على المدى القريب حتى عقب انتهاء أزمة الوباء، أما بالنسبة لإمكانية أداء العديد من الوظائف بواسطة الآلات فهو أمر مطروح ويمكن تحقيقه على المدى البعيد، ولكن ليس في الفترة الحالية، حيث ستركز المؤسسات والشركات على تعويض خسارتها التي تسببت بها الأزمة بقدر الإمكان، ومن غير المرجح أن تستثمر استثمارًا بعيد الأجل ومكلِّفًا في بديل للعمالة التقليدية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.