في 29 ديسمبر/كانون الأول عام 2019 تلقى مكتب منظمة الصحة العالمية في الصين إخطارًا بظهور حالات من الالتهاب الرئوي الحاد مجهول المصدر، واكتشفوا لاحقًا أنها لفيروس تعتقد الهيئات الصحية الصينية أنه لم يسبق ظهوره في البشر من قبل. وسرعان ما انتشر الفيروس على نطاق واسع في الصين، خاصة في سوق ووهان، فاستجابت السلطات الصينية بالإغلاق الفوري للسوق وتطبيق إجراءات عزل صارمة على المرضى وعلى المنطقة بأكملها.

سُمي الفيروس الجديد «كوفيد 19»، ويعني الاختصار مرض فيروس كورونا في عام 2019، وسُمي المرض «سارس كورونا الثاني» أو SARS Corona Two، ويعني المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة المسببة بفيروس كورونا الثاني.

لعلك لاحظت العدد رقم 2 في التسمية، إذ يدل العدد على أن هذا الفيروس ليس الأول من نوعه، فقد ظهر السارس من قبل في عام 2002 في الصين أيضًا، مصيبًا ما يقرب من 10 آلاف حالة وقتل منهم ما يقرب من 1000 حالة. تجعل تلك الأرقام الفيروس الجديد أشد وقعًا من الأول، فقد تجاوزت الأعداد المصابة الحالية، وأعداد الوفيات جراء الفيروس، أعداد سارس الأول بأضعاف، فتقدِّر منظمة الصحة العالمية عدد الإصابات من كوفيد 19 حتى يوم 22 مارس 2020 بنحو 341 ألف حالة مؤكدة على مستوى العالم، وعدد الوفيات من الفيروس بـ 14746، مما يجعل كوفيد 19 أخطر من سابقه الذي ظهر في عام 2002، من حيث قدرته على العدوى والانتشار السريع، ومن حيث عدد الوفيات التي يخلِّفها، فما الذي يجعل كوفيد 19 بمثل تلك الخطورة، ولماذا يخشاه الجميع هكذا؟

الأمراض المعدية: الفيروسات تحديدًا

كي نجيب على هذا السؤال، علينا أن نبتعد قليلًا عن مشهد الوباء الحالي، ونلقي نظرة مايكروسكوبية على طبيعة الأمراض المُعدية بصفة عامة، والفيروسية بصفة خاصة، ولماذا تسبب الفيروسات هذا القدر من الذعر لدى المجتمع الطبي؟

تنقسم الأمراض في الطب إلى أمراض غير معدية وأمراض معدية، تتمثل الأمراض غير المعدية، من اسمها، في الأمراض التي تسببها عوامل لا تنتقل من شخص لآخر، مثل الضغط أو السكر، أما الأمراض المعدية، فتتسبب بكائنات يمكنها الانتقال من المصاب لغيره عبر عدد من الطرق تختلف باختلاف الكائن. تشمل تلك الكائنات البكتيريا والفطريات والطفيليات والفيروسات. كانت البكتيريا مصدر ذعر شبيهاً بالفيروسات، ولكن انخفض هذا الذعر بعد الاكتشاف الثوري للمضادات الحيوية على يد الطبيب الألماني «باول إرليخ»، ثم البنسلين على يد العالم «ألكسندر فلمنج».

تكمن مشكلة الفيروسات في الافتقار للمعلومات العلمية عنها، فبينما يعلم الأطباء وعلماء البيولوجيا يقينًا أن البكتيريا خلايا حية، يمكن استهداف تراكيب معينة منها بالمضادات الحيوية للقضاء عليها تمامًا، أو حتى إيقاف نموها، يصعب تكرار هذا السيناريو في الفيروسات، وذلك لأن تركيب الفيروس لا يدل على كونه حياً أم لا، فلا يتكون الفيروس إلا من معلومات وراثية جينية وغلاف من البروتين أو الدهون، ولا يهدف سوى إلى التكاثر وزيادة أعداده عبر إصابة عائل (كائن حي) ما. ولم يكن هذا الفيروس أول وباء يصيب البشرية، فقد حدثت مآس إنسانية من قبل، مثل وباء الأنفلونزا الإسبانية ووباء الجدري، وهما من العدوى الفيروسية أيضًا.

كيف يتحكم الطب في تلك الأمراض؟

على الرغم من تلك المقدمة المذكورة آنفًا، تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 80% من المصابين بفيروس كورونا لا يحتاجون إلى رعاية طبية على الإطلاق؛ وذلك لأنه على الرغم من صعوبة التعامل الطبي مع العدوى الفيروسية، فإن مناعة الجسم البشري تستطيع احتواؤها عبر عدة آليات فعالة، حتى يكمل الفيروس دورة حياته ويخرج من الجسم، فتمر الحالة دون مخاطر. تصبح العدوى الفيروسية خطيرة على المرضى المصابين بأمراض تنفسية أو أمراض مزمنة أخرى، فتجعل المريض معرضًا للإصابة بالتهاب رئوي فيروسي حاد، وهؤلاء المرضى يحتاجون إلى رعاية طبية، فماذا يستطيع الطب أن يفعل لهم؟

يتعامل الطب مع العدوى الفيروسية وفقًا لحدتها، فتشمل الإجراءات العلاجية المتبعة في احتواء العدوى الفيروسية تدعيم الجسم بالسوائل، وتوفير بيئة مريحة للجسم، وإعطاء بعض الأدوية التي تثبط التكاثر المتزايد للفيروس، وبالتالي احتواء الأضرار المرضية الناجمة عنه في خلايا الجسم. تشمل تلك الأدوية مجموعة تُسمى مضادات الفيروسات، وتعمل من خلال منع انتقال الفيروس من خلية لإصابة خلية أخرى، وبالتالي الحد من تطور المرض داخل الجسم.

ولكن هذه الأدوية تعمل بعد إصابة الفيروس للجسم بالفعل، وقد تعني أننا وصلنا إليه متأخرًا. لذلك لم تكن تلك الطريقة الأكثر فعالية بالنسبة لعلاج الفيروسات، ولكن كانت اللقاحات لاعبة الدور الأساسي في الوقاية من الفيروسات تمامًا.

كان اللقاح الأول من ابتكار الطبيب الإنجليزي إدوارد جنير في عام 1796، عندما ابتكر بروتينًا من فيروس الجدري البقري يشبه تركيب البروتين المحيط بالجدري البشري. تعمل اللقاحات بتقديم جزء من الفيروس، دون أن يسبب هذا الجزء الجانب الممرض من الفيروس، ولكنه يثير رد فعل مناعياً للجسم، من خلال المناعة المكتسبة، لتتكاثر الخلايا المناعية القادرة على مكافحة الفيروس، مكونة ما يُعرف باسم «الذاكرة المناعية»، التي تضاعف من كفاءة الجسم في احتواء أي عدوى مستقبلية، وتقلل من حدة الأعراض التي قد يخلفها الفيروس وتقلل من المضاعفات حد الاختفاء.

لماذا يصعب اختراع اللقاح بين ليلة وضحاها؟

بشكل عام، تستغرق عملية إنتاج لقاح لفيروس ما مدة تتراوح بين سنتين إلى خمس سنوات من العمل المستمر في المختبرات والمؤسسات الصحية. تلك المدة طويلة للغاية بالنسبة لوباء يمثل تهديدًا على الصحة، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية عن تاريخ متوقع لإنتاج لقاح بعد 18 شهرًا من الآن؛ نظرًا إلى الأرضية المعلوماتية حول فيروس سارس الأول، والتي ستُبنى عليها الأبحاث العلمية.

لكي يتمكن العلماء من إنتاج لقاح فعّال ضد فيروس كوفيد 19، يجب عليهم أولًا دراسة خصائص وسلوكيات الفيروس في البشر، ولإنجاز ذلك عليهم تطوير نموذج حيواني أولًا. ثم يطور العلماء لقاحًا محتملًا، ويتمثل التحدي في اختبار سلامته على المرضى وإثارته لرد الفعل المناعي المطلوب دون ضرر للجسم. تنتقل اللقاحات بعد ذلك إلى مرحلة الدراسات قبل السريرية على الحيوانات، وإذا نجحت في تلك الاختبارات تُجرى على البشر. وإذا نجح اللقاح في كل تلك المراحل، ينتقل إلى مرحلة الموافقات التنظيمية ليكون جاهزًا للتطبيق.

ولكن تلك المراحل لا تمثل العقبات الوحيدة أمام إنتاج لقاح فعّال وآمن، إذ أن الفيروس لا يظل صامتًا في كل تلك المدة. تمثل الفيروسات أكثر الكائنات الحية تحورًا في محتواها الجيني، وذلك نظرًا إلى تكاثرها السريع للغاية، فيتغير محتواها الجيني كل فترة من الزمن. وبتغير المحتوى الجيني للفيروس تتغير خصائصه، فعلى سبيل المثال، قد خضع فيروس كوفيد 19 لتحورين أساسيين نستطيع تمييزهما قبل أن ينتشر في البشر: كان التحور الأول في قدرته على إصابة حيوان آخر غير الخفافيش، ثم قدرته على إصابة البشر، وتمثّل التحور الثاني في قدرته على الانتقال بين البشر. وفقًا لتلك المعطيات، يمكننا أن نتوقع أن الفيروس سيتحور مرة أخرى مستقبلًا، وقد ينتج سلالة جديدة من الفيروس أشد خطورة (أو أقل خطورة) من الفيروس الذي بين أيدينا، وقد تتمثل الأزمة الكبرى في إبطال الفيروس الجديد للمحاولات التي قامت بالفعل لتطوير لقاح ضده، فلا يعمل اللقاح المطور على الفيروس الجديد، ويضطر العلماء للبدء من جديد.

تعتمد مكافحة فيروس كوفيد 19 عليك أولًا

أحد الجوانب المميزة لكوفيد 19 أنه يلقي مكافحة المرض عليك أولًا. فكما شاهدنا الأرقام المؤسفة التي انفجرت في إيران وإيطاليا، بالارتفاع الهائل في عدد الحالات المصابة، في إيطاليا إلى 59138 ألف حالة مصابة، 5476 حالة وفاة حتى 22 مارس. انفجرت الأزمة في تلك الدول بعد زيادة عدد الحالات الجديدة عن قدرة النظم الصحية فيها على التعامل مع الأزمة، مما أسفر عن وجود حالات حرجة لا مكان لها في العناية المركزة في المستشفيات، ووفاتهم لعدم تلقيهم الرعاية الصحية المطلوبة، ومع تكرار هذا المشهد يوميًا، يُصاب مزيد من الأفراد، ويلقى بعضهم حتفه.

ينفجر عدد الحالات في منطقة معينة بسبب فترة حضانة المرض. فقبل ظهور الأعراض السريرية على المريض، يستمر الفيروس بالتكاثر فيه لمدة تتراوح بين 5 أيام و14 يومًا، وفي تلك الفترة يعدي المريض غيره من الأصحاء دون أن تظهر عليه أعراض واضحة، فينتشر الفيروس كالنار في الهشيم. ولهذا السبب، يقترح خبراء الصحة العامة والأطباء وسيلة فعّالة لمنع هذا الانتشار السريع.

التباعد الاجتماعي

يتمثل التباعد الاجتماعي في تقليل الظروف المهيئة لانتشار الفيروس بسرعة، وبالتالي تقليل عدد الحالات الجديدة المصابة يوميًا، مما يؤهل النظام الصحي لاستقبال حالات جديدة، وتوفير الرعاية الملائمة لكل مريض، وتقليل عدد الوفيات الناجمة عن المرض. وهذا ما يدعوه الخبراء بتسطيح المنحنى Flatten The Curve. بتلك الوسيلة البسيطة يقل عدد الوفيات، أي أن تلك الوسيلة تمثل حدًا فاصلًا بين الحياة والموت. وقد حدث ذلك من قبل بالفعل في الولايات المتحدة عام 1918 في ولايتي فيلاديلفيا وسانت لويس قبيل ظهور وباء اﻷنفلونزا الإسبانية، فقد طبقت سانت لويس وسيلة التباعد الاجتماعي بفعالية فقل عدد الوفيات بها بشكل ملحوظ، على عكس فيلادلفيا التي سمحت بمسيرة هائلة، فتضاعف عدد الحالات بها إلى آلاف.

يُطبق التباعد الاجتماعي خلال تقليل فرص الزحام، وتقع مسئوليته على كل فرد. عبر الامتناع عن التجمعات غير الضرورية، وحتى الصغير منها، تُقلل بذك فرصة إصابتك بالفيروس، وتقلل فرصة نقله إلى غيرك من الأصحاء، والذين قد يكون منهم فرد كبير السن ومُعرَّض لمضاعفات خطيرة.

لذلك، لكي تمنع انتشار فيروس كوفيد 19، وتشارك الأطباء في مكافحته، وتمنع إصابة من تهتم لأمرهم به، عليك الاهتمام بنظافتك الشخصية عبر غسل يديك بالصابون لعشرين ثانية بصورة متكررة، قبل الخروج وبعده، وعليك أيضًا أن تلتزم الحجر الصحي إذا ثبت إصابتك بالأعراض، حتى لا تساهم في إصابة أقربائك أو غيرهم به. وإذا كنت مُعافًى، فعليك التزام المنزل والامتناع عن أي تجمع إلا للضرورة القصوى. ونتمنى السلامة والعافية لكل البشر في مواجهة هذا الوباء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.