اشتهرت هدى شعراوي محلياً وعالمياً لعدة أسباب أهمها: أنها تزعمت الحركة النسائية في الثورة المصرية سنة 1919م، وأنها ابنة محمد سلطان باشا رئيس أول مجلس نيابي في عهد الخديو إسماعيل، وأنها أيضاً كانت زوجة علي شعراوي، رفيق سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي؛ وثلاثتهم كانوا كبار زعماء الثورة. ولا يزال اسمها حاضراً في قضايا المرأة والإصلاح الاجتماعي، وفي المجال العام على وجه الإجمال إلى اليوم.

ورغم كثرة البحوث والمقالات التي تناولت حياة هدى شعراوي، فإن الوثائق الخاصة لا تزال تخبئ جوانب مهمة من شخصيتها، وأهمها على الإطلاق وثائق أوقافها الأهلية والخيرية التي ترجع بدايات ظهورها إلى سنة 1351هـ/1932م، وتستمر في الظهور إلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، ولا تزال آثارها باقية إلى اليوم. فهذه الوثائق تكشف عن أن «هدى شعراوي» كانت «قدوة حسنة في العمل الخيري الوقفي»، وكانت أيضاً من طبقة كبار الملاك، أو من «كبار الإقطاعيين» -بحسب الوصف السياسي الذي ساد بعد ثورة يوليو 1952م- كما تكشف عن أن سلوكها الاجتماعي والاقتصادي كان سلوكاً محافظاً وملتزماً شأنها شأن أغلب كبار الملاك أو الإقطاعيين، حين أن سلوكها السياسي كان ثورياً كما هو معلوم من مشاركتها الفاعلة إبان الثورة المصرية سنة 1919م وقيادتها الحركة النسائية المصرية والعربية.

ومما لا يزال يثير الفضول البحثي أيضاً: كيف أن هدى شعراوي لم تجد وكيلاً قانونياً ومحامياً لها يتولى شئونها القضائية والقانونية سوى إبراهيم بك الهلباوي، الذي وصفه حافظ إبراهيم بأنه «جلّاد دنشواي» ومحامي الاحتلال؟

قد تكون اختارته لبراعته القانونية، وقد تكون اختارته لصلة ما تربطها به وبنساء عائلته على وجه التحديد، وقد تكون اختارته لأسباب أخرى؛ لكن يظل السؤال قائماً: ما تفسير هذه الازدواجية التي جمعت المحافظة مع الثورية، ومقاومة الاحتلال مع الثقة في أعوانه؟ وما تفسير موقف هدى شعراوي من ابنها الوحيد محمد شعراوي ورفضها لزواجه من المغنية فاطمة سري عقب وفاة والده في بداية عشرينيات القرن العشرين، هل لأنه كان وقتها متزوجاً من منيرة هانم عاصم؟ أم لأنها وجدت في زواجه من المغنية عيباً ينتقص من هيبة العائلة على طريقة الأسر المحافظة؟ وما تفسير موقف سعد زغلول هو الآخر الرافض للتدخل لإقناع محمد شعراوي نجل هدى شعراوي، وعضو لجنة الطلبة بالوفد بالاعتراف بنسب ابنته ليلى من تلك المغنية؟

ما سر هذا التجاور، أو التساكن الذي لا تخطئه عين بين السلوك المحافظ والسلوك الثوري في الشخصية المصرية عموماً، ولدى كثيرين من أعضاء النخبة خلال العهد الملكي خصوصاً من أمثال سعد زغلول، وعلي شعراوي، وعبد العزيز فهمي، ومحمد توفيق نسيم، وإبراهيم الهلباوي، وهدى شعراوي، وأضرابهم؟

إن هذه الازدواجية هي من المسائل التي لا تزال تثير الفضول البحثي كما قلنا، ولا تزال تدعو إلى الاجتهاد في تفسيرها، وفي معرفة آثارها على المجال العام وقضاياه التي أسهم هؤلاء -من الرجال والنساء- في صناعته خلال ذلك العهد، وترك بصمات لا تزال قائمة إلى اليوم في الشخصية المصرية.

لقد قادتني مكابدةُ البحث لسنوات خلت في حجج الأوقاف المصرية وملفاتها إلى العثور على عشر وثائق تخص أوقاف الست هدى شعراوي. ويقيني أن الصورة الكاملة لشخصيتها لا تكتمل دون الرجوع إلى هذه الوثائق الخاصة بحجج أوقافها وأهمها: حجة وقف صادرة من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 21 يناير 1931م، وحجة وقف أخرى صادرة من محكمة عابدين بتاريخ 25 شعبان سنة 1351هـ/ 24 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1932م. وحجة وقف ثالثة صادرة من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 19 ربيع الأول سنة 1354هـ/20 يونيه (حزيران) سنة 1935م، وإشهاد رسمي أمام محكمة مصر الشرعية بتاريخ 11 رجب سنة 1360هـ/ 5 أغسطس (آب) سنة 1941م، وحكم محكمة القاهرة للأحوال الشخصية دائرة 29 تصرفات بتاريخ 23 مايو (أيار) 1957م في القضية المرفوعة من أحمد لطفي السيد بصفته رئيساً للجمعية الخيرية الإسلامية وآخرين ضد وقف هدى شعراوي لفرز حصة خيرات للجمعية.

تتضمن تلك الوثائق الوقفية معلومات تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية بالغة الأهمية. ومن ذلك ما ورد في حجة محكمة عابدين الشرعية المحررة في «يوم السبت 25 شعبان سنة 1351هـ – 24 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1932م»؛ فمن مقدمتها نعرف أن الذي أبرم حجة الوقف هو الشيخ رزق الزلباني رئيس المحكمة، وهو صاحب كتاب في السياسة الشرعية بعنوان «مذكرة في مادة السياسة الشرعية» مطبوعة بجامعة الأزهر في سنة 1953م، ونعرف أن إبراهيم بك الهلباوي المحامي (الأهلي) ذائع الصيت خلال العهد الملكي، هو الوكيل القانوني لهدى شعراوي في إنشاء أوقافها، ومن مآثره أنه وقف من أراضيه 40 فداناً لنقابة المحامين!! وبعد واقعة دنشواي ظل حريصاً بقية حياته على نصرة المساكين والفقراء، وكان محامي إبراهيم الورداني في قضية مقتل بطرس باشا غالي.

ومما جاء في تلك الحجة المؤسسة لأوقاف هدى شعراوي أيضاً أنه بعد تعريف إبراهيم بك الهلباوي شرعاً:

أشهد على نفسه بصفته وكيلاً عن الست هدى هانم شعراوي كريمة المرحوم محمد سلطان باشا بن سلطان، بمقتضى توكيل صادر منها لحضرة المشهد بتاريخ 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1932م، ومصدق عليه من محكمة عابدين الأهلية، ونص فيه على أنها وكلته عنها في إيقاف 2 سهم و14 قيراطاً و658 فداناً (ستمائة ثمانية وخمسين فداناً وأربعة عشر قيراطاً وسهمين)، بالصفة التي يراها، وعلى من يراه.

ويظهر من النص السابق، أن هدى شعراوي قد أسلمت قيادها للمحامي الأشهر وقتها؛ كي يتصرف في أملاكها الشاسعة من الأراضي الزراعية «بالصفة التي يراها، وعلى من يراه» طبقاً لما ورد في توكيلها القانوني له. ويظهر من الوثائق أيضاً أن إبراهيم الهلباوي، قد أدى مهمته باحتراف مهني يليق بمحام كبير مثله؛ وإن كان الأمر لم يخل من حرصه على تأمين «مصلحته الشخصية» في هذا الوقف الكبير؛ إذ أنهى حجة الوقف بالنص على أن تكون نظارته بيده طوال حياته، ثم من بعده لابنه، ثم لشقيقه حسن، ثم من بعده تكون النظارة لـ«الجمعية الخيرية الإسلامية»، ليس هذا وحده؛ وإنما اشترط أيضاً أن يكون له حق استعمال «الشروط العشرة» وتكرارها في هذا الوقف، وأن الواقفة «هدى شعراوي» ليس لها حق استعمال هذه الشروط وهي: «الإدخال والإخراج، والإعطاء والحرمان، الزيادة والنقصان، والتبديل التغيير، والبدل والاستبدال».

ونقرأ في الحجة عينها أن إبراهيم بك الهلباوي قد أشهد على نفسه أنه «وقف عن موكلته المساحة البالغ قدرها سهمان، وأربعة عشر قيراطاً من فدان، وستمائة وثمانية وخمسين فداناً، والثابت أنها مملوكة للواقفة بموجب عدة استعلامات من مصلحة المساحة، وبموجب عقد مشتراها من حسين أفندي عبد الله، والست بمبة بنت علي مصطفى، والست فاطمة بنت المرحوم عبد الله محمد لاشين، وأحمد أفندي عبد الله محمد لاشين (مؤرخ في 29 فبراير/شباط سنة 1932م، ومسجل نمرة 1035 بمحكمة مصر المختلطة)، والوارد بالعقد هو أربعون فداناً فقط، وباقي الموقوف وارد بالكشفين المذكورين من هيئة المساحة. منها: أحد عشر سهماً وتسعة عشر قيراطاً من فدان وواحد وثمانون فداناً بزمام ناحية بلقطر مركز أبي حمص/بحيرة. والباقي وقدره سهمان وأربعة عشر قيراطاً من فدان وخمسمائة وسبعة وسبعون فداناً بزمام ناحية السلقون بمركز كفر الدوار مديرية البحيرة».

ونقرأ أيضاً في حجة الوقف، أن الهلباوي بك قد وزع ريع الوقف على أفراد عائلته وأفراد آخرين قريبين منه  ومن عائلته بما في ذلك خدم منزله. وقد ورد في الحجة ما نصه:

«أنشأ الواقف عن موكلته الوقف المذكور على: الست حفيظة أرملة المرحوم أحمد بك حمدي، وكريمة حضرة إبراهيم بك الهلباوي، المحامي، تنتفع به بسائر الانتفاعات الوقفية الشرعية مادام والدها المذكور حياً، فإن توفيت في حياته فيكون وقفاً على حسن أفندي الهلباوي بن حضرة إبراهيم بك الهلباوي ما دام والده حياً، فإن توفي حسن المذكور في حال حياة والده يكون وقفاً على الشيخ مصطفى حسن الهلباوي ما دام شقيقه إبراهيم بك الهلباوي حياً، فإن توفي الشيخ مصطفى المذكور في حال حياة شقيقه المذكور يكون وقفاً على باقي إخوة إبراهيم بك الهلباوي الأشقاء الذكور ينتفع كل من يؤول إليه هذا الوقف بسائر الانتفاعات الوقفية الشرعية، فإذا توفي إبراهيم بك الهلباوي يكون الوقف المذكور وقفاً على من يأتي بحسب البيان الآتي:

ينقسم ريع الوقف إلى خمسة وستين حصة متساوية، فيعطى لكل واحد من حسن أفندي الهلباوي والست حفيظة الهلباوي ولدي حضرة إبراهي بك الهلباوي والسيدة فردوس محمد بسيوني كريمة المرحوم محمد بك بسيوني سالم سبع حصص من الموقوف، ويعطى لكل واحدة من: أعلا نور بنت عبد المقصود وشقيقتها فاطمة ثلاث حصص، ويعطى لكل واحد من: الشيخ حسن حسن الهلباوي، والشيخ مصطفى حسن الهلباوي، وحسين أفندي عثمان مجدي حصتين. ويعطى لكل من السيدات أم السعد حسن الهلباوي، وهانم حسن الهلباوي، ويسمين حسن الهلباوي حصة واحدة، ويعطى للست ديوان بنت عبد الله الشركسية حرم المرحوم الشيح على الهلباوي حصتين، كما يعطى للست شاهندة الشركسية بنت عبد الله حرم محمود أفندي علي الموظف بمصلحة الصحة البحرية بإسكندرية مثل ذلك وهو حصتان، ويعطى لكل من محمد خليفة بن خليفة بن حسين السواق، ومحمد جلال بن شحاته بن رضوان، ومحمد غزال بن سيد بن حسين، وعبده الزيني بن محمد بن ذريعة حصة واحدة، وهم خدم المنزل ملك الواقف المذكور وكيل الست الواقفة، ينتفع كل واحد من الموقوف عليهم المذكورين بنصيبه مدة حياته، وبعد وفاته يكون لأولاده، ذكوراً وإناثاً بالسوية بين الذكر والأنثى، فإذا توفي أحدهم عقيماً من الطبقة الأولى يكون نصيبه للجمعية الخيرية الإسلامية، والطبقة الأولى هي التي تستحق بعد وفاة إبراهيم بك الهلباوي المشهد المذكور، ما عدا الست شاهندة المذكورة ، فإنها إذا توفيت عقيماً يؤول استحقاقها إلى الست مفيدة بنت محمود أفندي علي المذكور.

وكل من مات من الطبقة الثانية المذكورة بعد الأولى يؤول نصيبه للجمعية الخيرية الإسلامية بمصر. وباقي الحصص يصرف ريعها حسب الآتي:

يصرف ريع حصتين على مدفن إبراهيم بك الهلباوي المقام بالإمام الشافعي بمصر، المدفونة به الست أعلا نور هانم حرمه، وريع خمس حصص يخصص لبناء مسجد ومدرسة ابتدائية تديرها الجمعية الخيرية الإسلامية في الأطيان الموقوفة بعزبة الترجمان القائمة على المساحة الخامسة بهذه الوقفية. على أن يبدأ من ريع الخمس حصص المذكورة ببناء المسجد، وبعد بنائه يصرف ما يتجمع من الزائد عن النفقات اللازمة لإقامة الشعائر بالمسجد المذكور يصرف في بناء المدرسة المذكورة. وبعد بنائها يصرف ريع الخمس حصص على إقامة الشعائر بالمسجد وعلى تعهد المدرسة واستمرار التعليم بها حسب ما يراه ناظر الوقف المذكور. كما يخصص ريع حصة واحدة لكل من المسجدين: الكائن أولهما، بناحية كفر الدوار بمركز كفر الزيات غربية، والكائن ثانيهما، بعزبة الهلباوي الكائنة بزمام ناحية شباس غربية؛ وهما المسجدان المنشآن بمعرفة حضرة إبراهيم بك الهلباوي المذكور، وكذلك يخصص ريع ثلاث حصص لنقابة المحامين الأهلية بالقاهرة على أن يتولى مجلس النقابة المذكورة صرفه إلى المحامين الفقراء، أو إلى عائلتهم.

أمّا باقي الحصص من الخمسة والستين حصة الموزع إليها الموقوف يكون وقفاً على الجمعية الخيرية الإسلامية المذكورة، تتولى توزيعها مثل الأموال التي ترد إليها. والجمعية المذكورة هي التي يرأسها حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا، والقائم بوكالتها إبراهيم بك الهلباوي. وقد جعل الواقف لكل من أعلا نور وفاطمة بنتي عبد المقصود المذكورتين مائة جنيه مصري تصرف لها من ريع عموم الوقف قبل توزيع الحصص عند زواجهما أو زواج إحداهما، بعد وفاة إبراهيم بك الهلباوي».

تبيّن من نص حجة تأسيس أوقاف هدى شعراوي الصادرة من محكمة عابدين الشرعية في سنة 1351هـ/1932م، والتي صاغها المحامي المخضرم وقتها إبراهيم بك الهلباوي، أنه قد جعل من نفسه حجر الزاوية في كل شئون هذا الوقف، من النظارة، إلى الاستحقاق، إلى تقدير الأوزان النسبية للأنصبة في الاستحقاق، إلى توريث هذه الاستحقاقات من الآباء للأبناء. ونلاحظ أنه لم يأت على ذكر للست هدى ولا لابنها الوحيد محمد؛ وأغلب الظن أن هذا الترتيب كان باتفاق مسبق بينه وبين الست هدى شعراوي، وربما تم استثناؤها لأنها كانت مستحقة بحصة كبيرة قدرها أربعة أخماس وقف زوجها الراحل على باشا شعراوي ومساحته نحو سبعة آلاف فدان. وربما كانت تقصد حرمان ابنها الوحيد لأنه مستحق في أوقاف والده، ولأنها كانت غاضبة منه لتشبثه وقتها بقصة زواجه غير المكتمل من المغنية فاطمة سري. وربما هناك أسباب أخرى جعلت الهلباوي بك يوزع ريع الوقف على النحو الذي نص عليه في حجة تأسيسه.

ونقرأ كذلك في حجة تأسيس هذا الوقف الكبير، أن إبراهيم بك الهلباوي، بوكالته عن الواقفة هدى شعراوي، قد خصص حصة من ريع الوقف لـ«الجمعية الخيرية الإسلامية»، وهي أكبر وأعرق جمعية خيرية عرفتها مصر في تاريخها الحديث والمعاصر، ولا تزال قائمة منذ تأسيسها في سنة 1892م إلى اليوم. وجاء في الحجة ما نصه: «أنه إذا آل الوقف إلى الجمعية الخيرية الإسلامية وتعذر الصرف عليها يكون ريع ذلك مصروفاً للفقراء والمساكين أينما كانوا وحيثما وجدوا، وكذلك عند تعذر الصرف على أي جهة من الجهات المذكورة يكون ما يستحقه يصرف ريعه للفقراء والمساكين من المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا». وعلى هذا النحو «تم الوقف ولزم، وقوم الموقوف بمبلغ 840 مليماً و16476 جنيهاً (ستة عشر ألف جنيه وأربعمائة وستة وسبعون جنيهاً وثمانمائة وأربعون مليماً باعتبار الضريبة السنوية مضروبة في ستين مرة، وقدرها 614 مليماً و274 جنيهاً)، وهي أرجح من القيم الموجودة بالعقد لبعض الموقوف وهو 600 جنيه».

من يتأمل في حجة تأسيس أوقاف هدى شعراوي تلك، وهي الصادرة من محكمة عابدين بمعرفة إبراهيم بك الهلباوي، ويكتفي بها سوف يستنتج بأيسر نظر أن الزعيمة القوية قد وقعت فريسة للمحامي العجوز الداهية. ولكن الرجوع إلى بقية وثائق الوقف ومستنداته، يوضح أن هذا الاستنتاج غير صحيح بالمرة، وأن هدى شعراوي سرعان من أدخلت تغييرات على شروط وقفيتها قلبت بها موازين القوة لصالحها في مواجهة الهلباوي بك. ومنها استرداد حقها في استعمال الشروط العشرة التي كان الهلباوي قد استأثر بها لنفسه طول حياته. وهذا ما ورد في إشهاد صادر من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 19 ربيع الأول 1354هـ – 20 يونية/حزيران 1935م؛ حيث نص الإشهاد على أن الست هدى قد غيرت استحقاق بعض السيدات المنصوص عليهن في حجة التأسيس، وحوّلته من واحدة لأخرى، وأن جملة ريع المغير فيه في ثلاث سنوات قد بلغ: 400 مليماً 2372 جنيهاً.

وفي وثيقة أخرى عبارة عن إشهاد صادر من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 25 شعبان 1358هـ – 9 أكتوبر/تشرين الأول 1939م، قامت هدى شعراوي بتغيير شرط النظارة على أوقافها، وجعلت النظر لوكيلها (إبراهيم الهلباوي بك)، مدة حياته، ثم من بعده لزوجته وابن أخيه بالاشتراك، ثم من بعدهما يكون النظر لمن يكون رئيساً للجمعية الخيرية الإسلامية. ويبدو أن هذا التغيير قد حدث والهلباوي في مرض الموت؛ إذ ا لبث أن توفي عن عمر ناهز الثلاثة والثمانين عاماً في 20 ديسمبر/كانون الأول سنة 1940م (ولد في 15 رمضان سنة 1247هـ – 30 إبريل/نيسان سنة 1858م)، ويظهر أن هدى شعراوي لم تطمئن وقتها لكفاءة زوجته في إدارة الوقف إذا ما استأثرت به بحسب الشرط الذي وضعه الهلباوي، فضمت إليها ابن أخيه، وبهذا التغيير تراجعت سلطة أسرته خطوة إلى الخلف.

ولما توفي الهلباوي بك، وبعد عامين تقريباً من صدور الإشهاد السابق، أدخلت هدى شعراوي تغييراً آخر سجلته في إشهاد صادر من محكمة مصر الشرعية بتاريخ 11 رجب 1360هـ – 5 أغسطس/آب 1941م، أقامت بموجبه الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر ناظراً على وقفها بصفته رئيساً للجمعية الخيرية الإسلامية وقتها، ثم من بعده يكون النظر لكل من يكون رئيساً لها، فإذا لم يوجد كان النظر للست حفيظة هانم الهلباوي، ثم لأختها، ثم الأرشد فالأرشد من ورثة الست حفيظة، فإذا آل الوقف إلى الفقراء والمساكين من المسلمين، يكون النظر لمن يعينه الحاكم الشرعي المفوض له ولاية ذلك. وبهذا التغيير تراجعت سلطة عائلة إبراهيم الهلباوي على أوقاف هدى شعراوي خطوة أخرى إلى الخلف.

وفي 20 رمضان 1362هـ – 20 سبتمبر/أيلول 1943م، استصدرت هدى شعراوي إشهاداً من محكمة مصر الشرعية جعلت بموجبه النظارة على وقفها للست حفيظة الهلباوي ما عدا حصة الجمعية الخيرية الإسلامية. وفجأة، وبعد شهرين فقط، أدخلت الست هدى شعراوي تغييراً جديداً في النظارة على وقفها بموجب إشهاد سجلته في محكمة مصر الشرعية بتاريخ 27 ذي القعدة 1362هـ – 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1943م، سحبت بموجبه ما كانت قد أعطته للجمعية الخيرية الإسلامية، وجعلت النظارة للست حفيظة الهلباوي مدة حياتها شاملة لكل الوقف بما في ذلك الحصة المخصصة للجمعية الخيرية الإسلامية.

وأحدثت الست هدى تغييراً آخر في شروط وقفها جعلت بموجبه نصيب الست فردوس التي توفيت عقيماً للفقراء والمساكن مطلقاً، وجعلت نصيب من يتوفي عقيماً بعد وفاة إبراهيم الهلباوي يؤول للجمعية الخيرية الإسلامية، ونصيب من توفى عقيماً قبل وفاة الهلباوي يؤول للفقراء والمساكين مطلقاً كذلك.

وعلى هذا النحو سريع التقلب سارت وصارت أحوال وقف هدى شعراوي. وبعد وقوع ثورة يوليو 1952م سرى على هذا الوقف ما سرى على غيره من الأوقاف، فتمّ حل القسم الأهلي منه، وتم إلحاق القسم الخيري إلى نظارة وزارة الأوقاف وفي 23 مايو/أيار 1957م حكمت محكمة القاهرة للأحوال الشخصية -باسم الأمة- دائرة 29 تصرفات في القضية المرفوعة من أحمد لطفي السيد بصفته رئيساً للجمعية الخيرية الإسلامية بفرز حصة خيرات الجمعية من أوقاف هدى شعراوي. وفي 2 أكتوبر/تشرين الأول 1957م أصدرت محكمة القاهرة الابتدائية حكمها الذي نص على أن نصيب الجمعية الخيرية الإسلامية من المساحة المقسومة بينها وبين بقية المستحقين في أوقاف هدى شعراوي هو 15 سهماً و21 قيراطاً من فدان، و378 فداناً.

عاشت هدى شعراوي 68 عاماً، واسمها بالكامل (نور الهدى محمد سلطان باشا)، ثم أصبح اسمها الذي اشتهرت به «هدى شعراوي». وُلدت في 13 يونية/حزيران سنة 1879م، وتوفيت في 12 ديسمبر/كانون الأول سنة 1947م. ووالدها هو محمد باشا سلطان رئيس أول مجلس نيابي في مصر على عهد الخديوي إسماعيل. بعد أن مات أبوها، تزوجت -تحت إلحاح والدتها- وهي في التاسعة من عمرها ابن عمها علي باشا شعراوي.

حفظت هدى القرآن الكريم كله، وجمعت بين الثقافتين العربية والفرنسية، وتزعمت الحركة النسائية في الثورة المصرية، وكانت رئيسة للجنة الوفد المركزية للسيدات، وألّفت في سنة 1923م «الاتحاد النسائي المصري»، وأرسل الاتحاد بعثات من الفتيات للتعليم في الخارج على نفقته، وأنشأ مدرسة ومشغلاً خيرياً، وكانت خطيبة وكاتبة، وحضرت منذ ذلك الحين وحتى وفاتها عدة مؤتمرات نسائية دولية، واهتمت بمسألة فلسطين، والنهضة النسائية، وعقدت المؤتمر النسائي الشرقي في أكتوبر/تشرين الأول سنة 1938م من نساء البلاد العربية ، ثم عقدت مؤتمراً نسائياً عربياً آخر في ديسمبر/كانون الأول سنة 1944م، وقد تمخض عن الاتحاد النسائي العربي. وقرضت الشعر في شبابها بالعربية والفرنسية، وآخر أبيات قالتها هي تلك الأبيات التي أوصت بنقشها على قبرها:

اليوم لا تبكوني             إني قضيت ديوني
لم يبق للعيش حظ       عندي ولا للمنون
حُررت من كل أسر        ومن سهاد جفوني
نزلت دار بقاء              فيها تلاشت شجوني
فيها أواجه ربي            جوار من سبقوني
فاليوم داري قبري        ونعم دار السكون
به تصان رفاتي            من حادثات القرون

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.