توجد وزارة تحمل اسم «الأوقاف» في جميع حكومات بلدان الأمة الإسلامية، باستثناء تونس فقط، التي ألغت نظام الأوقاف جملة وتفصيلاً، ولم تبق له أثرًا، وأحالت جميع ممتلكاته ووثائقه إلى ملكية الدولة منذ عام 1956 غداة الاستقلال مباشرة، ولم تفلح الثورة التونسية حتى اليوم في استعادة نظام الوقف الإسلامي. وإلى جوار وزارة الأوقاف توجد وزارة أخرى باسم وزارة «الشئون الاجتماعية» أو ما يشير إلى الجانب الاجتماعي وأعمال التضامن وشبكات الأمان التي ترعاها الحكومات من أجل خدمة القطاعات غير القادرة من المواطنين. وثمة الكثير الذي يجمع بين عمل الوزارتين، وثمة الكثير من الأسباب التي تفسر استمرار وجودهما معًا للعمل في ميدان يكاد يكون واحدًا وتحت رعاية حكومية واحدة أيضًا.

وأول ما يلفت النظر هو أن «وزارة الأوقاف» في أغلبية البلدان تعاني في وضعها الراهن من مشكلات كثيرة، وتتحمل فوق طاقتها من المسئوليات الدعوية والاجتماعية والسياسية، إلى جانب مسئوليتها عن استثمار أعيان الأوقاف التي تديرها، ثم إنفاق ريع هذه الأوقاف على وجوه البر والمنافع العامة التي رصدت عليها طبقًا لشروط الواقفين.

واستخدمنا اللغة التي تجمع الأصالة مع المعاصرة؛ ليكون الاسم معبرًا عن مسماه، لأصبح الاسم الجدير بوزارة الأوقاف هو «وزارة الأوقاف والمجتمع المدني» بامتياز؛ لأن جميع الممتلكات التي تديرها هذه الوزارات وتستثمرها، هي حصيلة عطاءات اجتماعية تراكمت عبر مئات السنين، وعبرت في لحظات نشأتها الأولى عن إرادة اجتماعية صرف، حتى الحالات التي أسهم فيها أعضاء من النخب الحاكمة في تأسيس وقفيات، كانوا يسهمون بصفتهم مواطنين عاديين، شأنهم شأن أي مواطن آخر، وكانت سيطرتهم على الأملاك التي وقفوها تنقطع تمامًا مثلما تنقطع سيطرة المواطن العادي على ما يوقفه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت المحصلة الرئيسية لهذه الأوقاف هي أنها أسهمت في تمدين المجتمعات الإسلامية، وفي بناء حضارتها، وفي تعزيز المجال التعاوني المشترك بين الأمة والسلطة.

ولكن ما يحول دون هذا الإجراء الإصلاحي العميق، وهو تحويل أسماء وزارات الأوقاف إلى وزارات للأوقاف والمجتمع المدني، وجود تناقض بين أطروحة «المجتمع المدني» بمفهومها الوافد إلينا من خبرة المجتمعات الغربية، وبين منطق «الوزارة»، التي هي بحكم التعريف ذراع من أذرع البيروقراطية الحكومية، ويحول دون هذا الإجراء أيضًا هذا التناقض الواضح بين وضعية كل من الوزارتين: الأوقاف والتضامن في بنية الأنظمة السياسية الحاكمة في أغلبية بلدان الأمة الإسلامية.

معظم حكومات بلدان الأمة الإسلامية حرصت الحرص كله على مراعاة هذا الفرق بين الأهلي (المدني)، والحكومي، والديني؛ فلم تطلق على أيٍ من وزاراتها اسم «وزارة الأوقاف والمجتمع المدني»، وما ذلك إلا لأسباب سياسية براجماتية تراها هذه الحكومات، وتدرك أهميتها في إحكام سيطرتها على مختلف الفاعليات الاجتماعية ذات المرجعية الدينية وذات المرجعية المدنية في آن واحد.

في جانب الأوقاف، نجد أنها ظلت بلا هيئات (دواوين أو وزارات) حتى نهايات القرن الثالث عشر الهجري/بدايات القرن التاسع عشر الميلادي. ومن هناك بدأت وزارات الأوقاف تظهر تباعًا على امتداد العالم الإسلامي، واستمرت في الظهور خلال القرنين الماضيين، حتى إنه لم يحل منتصف القرن العشرين إلا وجميع أوقاف الأمة الإسلامية أضحت تحت إدارة وسيطرة وزارة اسمها «وزارة الأوقاف» في هذا البلد أو ذاك.

وكان المغزى الأعمق من نشوء وزارة خاصة بـ «الأوقاف» هو: أن الأوقاف قد جرى إدماجها بكل فعالياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والرمزية في المجال الحكومي، وتم نقلها من الحيز الاجتماعي العام إلى الحيز السلطوي بالمعنى الضيق حصريًا. وهنا مكمن كل التحولات والتفاعلات التي طرأت على نظام الوقف الإسلامي في العصر الحديث، وهو النظام الذي تعود نشأته إلى العهد النبوي، وتحديدًا في السنة الأولى من الهجرة إلى المدينة، واستمر بين مد وجزر عبر المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها مجتمعات أمتنا الإسلامية، إلى أن ألقى به التاريخ في يد «الدولة الحديثة» في أغلب بلدان الأمة الإسلامية، فتصرفت فيه بحرية قيدته وأفقدته حريته، وسلبته قدرته الذاتية على إنتاج فضاءات من الحرية الاجتماعية أثبتت التجارب التاريخية أنها كانت عاملاً أساسيًا في تقييد السلطات الاستبدادية، وحصرها في حدود ضيقة لا تكاد تتجاوز دوائر السلطة، والنخب المتصارعة حولها.

أما في «الدولة الحديثة» -العربية والإسلامية- فالذي حدث هو: تبادل الأدوار بين نظام الوقف والدولة، أخذت الدولة حريتها في تقييده، وسلبته حريته في تقييدها، وجعلته رهين المحبسين: محبس القانون الذي وضعته ليحكم حركته ويلجم الإرادة الاجتماعية، ومحبس البيروقراطية الحكومية التي تحافظ باستمرار على انضباطه داخل المجال السلطوي بعيدًا عن مجاله الاجتماعي الحيوي، نقلته من مجاله الاجتماعي ونظامه الفقهي المفتوح، إلى مجاله السياسي الخاص ونظامه القانوني المغلق.

أما في جانب مؤسسات المجتمع المدني الذي تخضع مؤسساته لوزارة التضامن والشئون الاجتماعية، فإن الواقع يشير إلى أن أغلبية هذه المؤسسات تعاني من مشكلة ضعف مصادر التمويل المحلية، الأهلية والحكومية على حد سواء، رغم أن أغلبية القائمين عليها ينتمون إلى الفئات الاجتماعية ذات التعليم المدني الحديث، ولدى أغلبيتهم ميول تغريبية أو تحديثية، أي أن المفترض هو أنهم لا تنقصهم المهارات أو الخبرات اللازمة لتحقيق الكفاية التمويلية لهذه المؤسسات المدنية.

ولكن الحاصل هو أنه في مواجهة هذه المشكلة لا تجد قيادات تلك المؤسسات -أو أغلبها- إلا أن تستسلم للأمر الواقع، وتظل معتمدة على النذر اليسير من التبرعات أو المساعدات الحكومية أو الأهلية وحدها، أو أن تتجه للخارج بحثًا عن مصادر تمويل أجنبية تمكنها من ممارسة أنشطتها وتنفيذ برامجها. ولا يخلو التمويل الأجنبي في جميع الحالات -وبدون استثناءات- من مشكلات تتعلق بالشروط التي تفرضها الجهات والهيئات الأجنبية المانحة، أو بالرقابة الصارمة التي تفرضها الجهات الحكومية على التمويل الأجنبي ومدى تأثيره على الأمن الوطني في مختلف البلدان.

ورغم كثرة الجهود وتعدد الاجتهادات التي تُبذل من أجل معالجة مشكلة التمويل هذه، إلا أنها لا تزال بعيدة عن أهم مصدر ذاتي للتمويل وهو «نظام الوقف الإسلامي»، الذي ظل لقرون طويلة بمثابة القاعدة الصلبة التي وقفت عليها مختلف مؤسسات وهيئات المجتمع الأهلي (المدني) في الخبرة التاريخية لمجتمعات أمتنا الإسلامية. ولا تزال «ثروة» الأوقاف الموروثة من العهود السابقة تحت سيطرة الإدارات الحكومية في أغلبية البلدان منذ ما يزيد عن نصف قرن، ولم تمتد إليها يد التطوير أو التحديث إلا في السنوات الأخيرة، فضلاً عن جمود الأنظمة القانونية التي تحكمها، وعدم احتوائها على حوافز تشجع أهل الخير من المتبرعين والمحسنين والأثرياء ورجال الأعمال على التبرع بأوقاف جديدة.

وبأيسر نظر في مجال عمل وزارات الأوقاف ووزارات التضامن الاجتماعي، يتبين أن كل ما تقوم به وزارات التضامن الاجتماعي هو جزء مما تقوم به وزارات الأوقاف، وأن وجود وزارات التضامن لم يخفف من أعباء وزارات الأوقاف شيئًا يذكر، بل أوجد ازدواجية مؤسسية داخل البيروقراطية الحكومية وزادها ترهلاً، وهذه الازدواجية المترهلة لا تجسد الازدواجية السلبية بين الموروث والوافد، أو بين الأصيل والدخيل فحسب، وإنما تشكل أيضًا عبئًا على الإدارة الحكومية وماليتها العامة المخصصة للإنفاق على المصالح الاجتماعية التي تستهدف غير القادرين وذوي الحاجات من الفئات الضعيفة والمهمشة.

ورأيي الذي روَّأتُ فيه كثيرًا قبل الإفصاح عنه هو: وجوب دمج وزارات التضامن والشؤون الاجتماعية في وزارات الأوقاف في مختلف بلدان أمتنا الإسلامية، وذلك لأسباب أهمها:

  • أولاً: لأن الأصيل (الأوقاف) يستوعب الدخيل (مؤسسات المجتمع المدني)، ويفوقه من حيث شرعيته المجتمعية المتجذرة في الوعي الجماعي وفي الثقافة السائدة عبر مئات السنين.
  • ثانيًا: لأن الأوقاف تنشأ لتبحث عن مصارف لإنفاق ما تملكه من أموال مخصصة لأعمال البر والخيرات والتضامن الاجتماعي التي هي جزء من مقاصد الأوقاف، بينما مؤسسات المجتمع المدني (الوافدة) تنشأ لتبحث عن تمويل لأنشطتها، لا تجد هذا التمويل إلا عند الحكومات، أو عند الجهات الأجنبية التي غالبًا ما تفرض شروطها وأولوياتها وبرامجها على تلك المؤسسات، ومن ثم تفقدها جزءًا من حريتها، وتأتي الرقابة الحكومية على أموالها الوافدة من الخارج لتقضي على الجزء المتبقي، ومن ثم فإنها تفقد صفتها «المدنية» وتصبح في حكم «المؤسسات الحكومية»، أو «المؤسسات الأجنبية».
  • ثالثًا: لأنه لا معنى لوجود ازدواجية مؤسسية/حكومية بوجود وزارة للأوقاف، وأخرى للتضامن الاجتماعي، بينما الهدف لكليهما واحد وهو: خدمة الفئات الضعيفة والمهمشة، هذا فضلاً عن أن عباءة الأوقاف تتسع لكل ما يندرج تحت عنوان «التضامن الاجتماعي» ولما هو أكثر من ذلك.
  • رابعًا: لأن إلغاء الازدواجية وتوحيد الإدارة الحكومية المسئولة عن هذا القطاع يوفر كثيرًا من موارد الدولة التي تخصصها لعدد كبير من الموظفين والإداريين العاملين في دواوين وزارات التضامن والشؤون الاجتماعية، ومن شأن إدماجها مع الأوقاف في جهة واحدة أن يخفف عن الدولة جانبًا من أعباء موازنتها العامة. والله أعلم.