المستقبل لهذا الدين [1] – آية الله سيد علي خامنئي.

إن اتجاه الأمة بمختلف قطاعاتها، وخاصة فئة الشباب، إلى النهل من العلوم الإسلامية وسبر أغوار الفكر الإسلامي، دلالة واضحة على أن ارتفاع مستوى المعرفة البشرية يصحبه علو لمكانة الدين في المجتمع، ودلالة واضحة أيضًا على أن الإسلام سيحتل مكانه اللائق على الساحة العالمية حين يرتفع مستوى المعرفة الإنسانية إلى مستوى مناسب؛ لما بين مستويات المعرفة الدينية والمعرفة العلمية من تناسبٍ طردي.

من هنا يتوجب على علماء الدين وقادة الفكر الإسلامي استثمار فرصة الانفجار المعلوماتي؛ ليعرضوا الدين بلغةٍ تتناسب مع لغة العصر واحتياجاته، وأن يعرضوا متاعهم الثمين بشكل ملائم وصورة جديدة كل الجدة.

وفي هذه الساحة الفكرية العالمية الجديدة، حيث تتنافس النظريات والتيارات الفكرية التي تخلب الألباب، ويبحث الشباب عن كل جديد، لا يمكن أن نتوقع إقبال الناس على رسالتنا -مع كل ما فيها من أصالة وامتياز- بنفس لباسها القديم وشكلها الموروث؛ لأن تلك الصورة القديمة عاجزة في عصرنا الحاضر عن إماطة اللثام عن حقيقة الإسلام المشرقة، وعاجزة عن إرواء ظمأ المتعطشين إلى المتطور الجديد.

ونحن نؤمن أن الإسلام -بقدراته ومقوماته الطبيعية- سيتولى قيادة البشرية، وسينفُذ نوره إلى أعماق الظلمات التي تعانيها الإنسانية، وستنهزم أمامه كل قوى الظلام والجبروت والفرعونية؛ لتخفق رايته على المعمورة. نحن نؤمن بذلك، ولكن هذا الإيمان ينبغي ألا يكون مُبررًا لتهاوننا في أداء واجبنا المحتوم واضطلاعنا بمسؤوليتنا الكبرى.

وسيتحقق هذا المستقبل بطبيعة الحال حين يتعرف الناس على الإسلام، ويستوعبون تعاليمه وأفكاره؛ عندئذ فقط سيُسلّمون له زمام الأمور، ويخضعون له مُنقادين.

وفي الحقيقة؛ فإن الإسلام -على سعة رقعته الجغرافية والسكانية- دين مجهول غريب.

إن مظاهره السائدة في العالم الإسلامي لا تدل إطلاقًا على انتشار المعرفة به، كما يظن ذلك بعض البسطاء ويدعيه المغرضون.

إذ ما زالت الأغلبية الساحقة من المسلمين تنظر إلى الإسلام بوصفه مجموعة من الطقوس والعبادات التي لا علاقة لها على الإطلاق بالحياة ومقوماتها، غافلين عن الجانب الأكبر من هذا الدين المبين، وعن مبادئه الحياتية، مُتوهمين أن العمل بجانب من الأحوال الشخصية والعبادات الفردية كافٍ لأن يصير الإنسان كامل الإسلام.

هذه الغفلة ليست أمرًا طبيعيًا، وإذا كانت بداياتها ذات أسباب طبيعية، فإن استمرارها كان حتمًا نتيجة مؤامرات عدائية وخطط مدروسة اتجهت بأجمعها إلى إبعاد المسلمين عن واقع الإسلام.

فقد اتجهت أطماع الغربيين، بعد الثورة الصناعية واستحداث المصانع العملاقة في أوروبا إلى ما في آسيا وأفريقيا من ثروات نفطية ومواد خام متنوعة، وإلى ما في هاتين القارتين من أسواق لاستهلاك بضائعهم؛ ومن ثم كان الغزو الغربي، وبرزت ظاهرة الاستعمار، وامتدت الأيدي الطامعة إلى بلدان الشرق من خلال الجيوش الغازية تارة، وتارة أخرى تحت ستار الإرساليات التبشيرية (التنصيرية)، والتكتلات التجارية، ومن خلال الهبات والقروض طويلة الأجل، وبواسطة المستشارين العسكريين المبثوثين لدى الحكومات؛ ليجعلوا من هذه البلدان إقطاعيات وممتلكات لهم. وقد وجدت القوى الغازية الطامعة أنه لا بد من قمع القوة المعنوية في الشرق باعتبارها الخطوة الأولى لفرض الهيمنة؛ لأن هذه القوة قد تشكل عقبة أمام أطماعهم التوسعية، ولم تكن هذه القوة المعنوية المستهدفة في بلدان الشرق سوى الإسلام.

ذلك أن الإسلام يُكسِب أبناءه شخصية من يرى أنه الأعلى بإيمانه؛ إذ يُسميهم القرآن حزب الله، ويُبشِّرهم بأن حزب الله هم الغالبون، كذا يعلمهم وجوب المحافظة على وجودهم في وجه هجوم الأعداء، فيصطفّوا في المواجهة كأنهم بنيان مرصوص، ولا يهنوا في ابتغاء العدو، وهو يبشرهم بأنهم هُم الأمة التي ستُستخلَف في الأرض، شاهدًا وسطًا على ساحة التاريخ، وهو يدفعهم نحو حركة جهادية دائبة للحفاظ على دينهم، والتضحية في سبيل نشر تعاليم رسالتهم، وهو يحثهم على التلاحم والاتحاد، ويأمرهم بالغلظة والشدة على الأعداء وينهاهم عن الركون إليهم وتوليهم. ولأن هذه التعاليم تحبط مخططات الهيمنة الاستعمارية، وتصد كل محاولات التسلُّط على المسلمين؛ لذا شمر المستعمرون عن ساعد الجد لصرف شعوب الشرق عن هذه القوة المعنوية وهذا السلاح الماضي.

من جانب آخر، وجد الطامعون أن اقتلاع جذور هذا الدين الضاربة في أعماق التاريخ والثقافة ليس بالأمر السهل، بل قد تؤدي عملية الاقتلاع هذه إلى استثارة مشاعر المسلمين الدينية ضدهم، فتُصادر على جهودهم؛ لذلك كان سبيلهم الأمثل إلى ذلك هو حفظ الطقوس الشعائرية بظواهر صاخبة طنّانة، وعزل الدين كله عن الجوانب الثورية والحركية، لينعدم تأثيره على الحياة.

كانوا بعملهم هذا يستهدفون، في واقع الأمر القضاء على الدين، ولكنهم تجنبوا بهذه الطريقة كذلك استثارة المشاعر الدينية ضد المستعمرين، بل وحافظوا على المظاهر التي يُمكن توظيفها في مواجهة التيارات التي تُسفِر عن عدائها للدين،[2] وبعبارة أخرى؛ فقد استطاعت هذه الإستراتيجية تحويل الدين من مصدر خطرٍ يُهدد تدخلهم وهيمنتهم، إلى درع لحماية مصالحهم من القوى المنافسة.

ودخلت هذه الإستراتيجية الماكرة حيز التنفيذ؛ لتتكاثر «المراسم» الدينية على مر الأيام، وتنشط المحافل الدينية، ويتزايد التركيز على إقامة الشعائر والطقوس. لكن إلى جانب ذلك نشطت عملية تفريغ الدين من محتواه الحقيقي، وطوى النسيان المبادئ الإسلامية، وبرُد في النفوس بركان الدين الذي كان يهز عروش الجبابرة والطواغيت؛ ليؤول إلى السكون والخمود.

أما أتباع هذا الدين الذين تُخاطبهم الآيات الكريمات: «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا»، «ليجدوا فيكم غلظة»، «أشداء على الكفار رحماء بينهم»، «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر». أما أتباع هذا الدين فقد فتحوا أبوابهم للغُزاة الغربيين، وعقدوا الآمال عليهم، وعدوهم مصدر كل تقدمٍ علمي وتحرر فكري، وقدموا بين أيديهم طائعين كل كنوزهم الإيمانية والمادية قربانًا على مذبح التقرُّب؛ فأضاعوا بتلك السفاهة دينهم ودنياهم معًا.

واليوم، ونحن في مواجهة وضعٍ كهذا لا بد لنا من هزة لواقعنا ننفض بها عنه هذا الغطاء المصطنع، ونعرض واقع الدين على المجتمع، لنعود إلى مصدر قوتنا وعزتنا.

ولا بد من جهادٍ متواصلٍ لا يعرف الكلل والملل، ولا يهاب الحرمان والفشل؛ لنُعلّم الناس أن هذه القشور التافهة ليست هي الدين، هذه الظواهر الفارغة ليست هي منهج الرسالة الخاتمة إلى العالمين. إن أداء بعض الفرائض الدينية، خاصة بهذه الصورة الناقصة، لا ينبغي أن يُخدّر فطرتنا الدينية، بل يجب أن نكشف للناس بأننا غُزينا في ديننا، وسيأتي الغُزاة كذلك على ما بقي منه. يجب أن نذكر الناس بواجبهم في الدفاع عن الدين، وأن نثبت لهم بأنه واجب يتحمله اليوم كل المسلمين.[3]

ويجب علينا تدوين أصول الإسلام تحليلًا وتدقيقًا، وعرضه على عامة الناس ليتعرفوا على إسلامهم.

وهي رسالة شاقة ثقيلة، ولكنها في الوقت نفسه حياة عريضة. إنها عين رسالة الأنبياء، الذين أخبرنا القرآن عن حجم ما قدموا من تضحيات جسام على هذا الطريق.


وهذا الكتاب -برغم صغر حجمه- خطوة رحبة فاعلة على هذا الطريق الرسالي. وقد سعى مؤلفه الكريم الكبير، في فصوله المبوبة تبويبًا ابتكاريًا، إلى عرض حقيقة الدين بادئ ذي بدء، ثم بعدما بيّن أنه منهج حياة، وأن طقوسه لن تكون مجدية إلا إذا كانت مُعبرةً عن حقائقه، أثبت بأسلوب حي وبصيرة نافذة أن العالم سيتجه نحو رسالتنا، إن عاجلًا أو آجلًا، وأن المستقبل لهذا الدين.

وبعد دراسة موجزة لأصول الشيوعية، بوصفها مدرسة التف حولها، طوال نصف قرن من الزمان، مجموعات بشرية شتى، وحكمت أكثر من ثلث سكان المعمورة، وأضحت أملًا وحلمًا تشتهيه الشعوب المحرومة المتخلِّفة، وبعد تحليل نماذج من المناهج التي طرحها غير الشيوعيين لإنقاذ البشرية من أزمتها الحالية، شرع، بأسلوب جمع الدقة والعمق والأصالة، في إثبات أن كل هذه المناهج ناقصة وعاجزة عن إدارة عالم الغد، وأن المدرسة الوحيدة القادرة على أن تحمل ركب الإنسانية الضالة إلى محط النجاة والكمال هي الإسلام؛ فهو المنهج الكامل الواسع القادر على إدارة دفة الحياة مع صيانة الخصال الإنسانية.

كذا تشكل كل الكتابات الأخرى للمؤلف المفكر المجاهد خطوات على طريق بيان معالم الرسالة الإسلامية، وتفنيد مزاعم الذين يتهمون الإسلام بالبُعد عن المنهج العلمي الصحيح، وبأنه قد استنفد أغراضه.[4]

وفي الخاتمة أشير إلى مسألتين:

الأولى: أننا حاولنا في الترجمة نقل غرض الكاتب بشكل كامل، وتجنبنا حذف أي جزء من الفكرة بذريعة الترجمة الحرة، ومع ذلك سعينا إلى إنجاز ترجمة واضحة سلسة مفهومة للجميع، وتجنبنا الترجمة المقيدة باللفظ والجملة، حتى لا ينتُج عنها غموض في الأسلوب وتعقيد. وقد غيرنا العناوين، في بعض المواضع؛ أو أضفنا عناوين فرعية.

الثانية أن المؤلف قد ذكر، في نهاية كتابه؛ بعض الأسماء وأثنى عليهم، ولست أوافقه في ذلك، ولكني أوافقه في أساس الموضوع، لذلك تجنبت التعليق في مكانه.

آمُل أن يتقبَّل رب العالمين هذه الخدمة المتواضعة لدينه، وأن يهدينا إلى ما فيه رضاه سبحانه.

سيد علي خامنئي،

مشهد،

فروردين ١٣٤٥ هجري شمسي (١٣٨٦ هجري قمري).


[1] ترجم هذه المقدمة البروفسور «محمد علي آذرشب»، الدبلوماسي الإيراني السابق، وأستاذ الأدب العربي بجامعة طهران، وذلك لنشرها على صفحات مجلة «رسالة التقريب»، التي كان يُصدرها «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية» إبان رئاسته تحريرها. وهو يصف دواعي ترجمة هذا النص، الذي كُتب قبل خمسين عامًا تقريبًا، قائلًا: «ليس لمحتواه الفكري فحسب؛ بل لأنه وثيقة تاريخية هامة من وثائق التفاعل الفكري بين الإسلاميين الإيرانيين والمصريين، برغم اختلاف لغاتهم ومذاهبهم، في إطار الصحوة الإسلاميّة». وقد ترجم السيد خامنئي كتاب سيد قطب، «المستقبل لهذا الدين» عام ١٣٤٦ هجري شمسي (١٣٨٧ هجري قمري) إلى اللغة الفارسية، وكتب له هذه المقدمة وطبعه، ثم واجهت نشره مشاكل يذكر الدكتور آذرشب قصتها باختصار، بوصفها وثيقة تاريخية هامة؛ فيقول: «بعد انتقال سماحة السيد خامنئي من قم إلى مشهد عام ١٣٨٣ هـ ق، شرع بسلسلة جديدة من النشاطات الفكرية والسياسية، من ذلك أنه تعاون مع بعض المفكرين والمؤمنين في إنشاء مؤسسة للطباعة والنشر أسموها «سپيده»؛ أي «الفجر»، وشرعوا بنشر بعض الكتب الإسلاميّة، ثم ترجم السيد كتاب «المستقبل لهذا الدين»، وبدأ بطباعته في «مطبعة خراسان» المعروفة. كان الكتاب تحت الطبع إذ حانت له سفرة مع أهله إلى طهران وقم وإصفهان. وإذ هو في أحد فنادق طهران؛ خبر مداهمة استخبارات الشاه لـ«مطبعة خراسان»، ومصادرة كل النسخ، واعتقال مدير المؤسسة. وأبلغ السيد بأن جهاز الأمن يتعقبه فبقي في طهران، ثم بعد أمد جاءه أحد الأصدقاء بخمسين نسخة من الكتاب المطبوع؛ إذ كان الأخوة في المؤسسة قد استشعروا خطر مداهمة رجال الاستخبارات واحتفظوا بمائة نسخة من الكتاب»، تم ما يرويه آذرشب بحروفه. وتأتي إعادة نشر هذه المقدمة المهمة، برغم اختلافنا مع بعض ما فيها جزءًا من إحيائنا لذكرى مرور نصف قرن على استشهاد سيد قطب، وفي محاولة لتتبع أثر الأستاذ خارج العالم العربي، واستقبال المسلمين له ولفكره في شتى أصقاع الأرض. (عبد الرحمن أبو ذكري)[2] المقصود هي القوي اليسارية المعارضة للغرب. (آذرشب)[3] يجمع فقهاء الشيعة على أنه متى ما تعرَّض الدين لخطر الإبادة، في ظل غيبة الإمام المعصوم؛ وجب على جميع المسلمين، حتى الشيوخ والمرضى؛ الدفاع عنه بمقدار قدرتهم. (آذرشب)[4] أحد مؤلفاته القيمة والمبتكرة بعنوان: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، ومترجم هذا الكتاب يعكُف على ترجمته، وسيُقدَّم قريبًا لقُراء الدراسات الإسلامية. (خامنئي)

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.