يختفي عالم كبير من التجارب الصفرية، التي وقف أيمن الرمادي فيها وظهره في الهواء الطلق، حين تراه متأنقًا على خط التماس يلقي بالتعليمات بين الحين والآخر بصوت يسمعه كل من في الملعب، بل ومن يشاهدون مباريات فريقه على شاشات التلفاز.

والحق أن وصف أيمن الرمادي فقط، بأنه مدرب سيراميكا كليوباترا الحالي، هو وصف يجتزئ تاريخًا طويلًا للرجل في الملاعب الإماراتية، جعلته دون شك أهم مدرب مصري في تاريخ الإمارات. لكن مسألته في الإمارات تطرق إليها كثير من متتبعي مسيرة الرجل الذي لم يكن محظوظًا في أوقات كثيرة من مسيرته، لكن الوقوف على خطوات بعينها في خضم تلك المسيرة، تجعلنا نكتشف رويدًا رويدًا أن الحظ لم يجاف الرجل إلى حد بعيد كذلك.

رانييري العرب؟ ربما أكثر

أيمن الرمادي حين جافاه الحظ، ترك كرة القدم لاعبًا في سن صغيرة بسبب الإصابة التي أنهت مسيرته مبكرًا في أسوان مطلع التسعينيات. دون ظهير أهلاوي أو زملكاوي خرج من مصر مبكرًا للغاية متلمسًا طريق التدريب في الدوري الإماراتي. بدايات بسيطة مع الفرق السنية الأدنى، ثم كانت خطوات شجاعة أوصلته لتدريب العديد من الفرق، وقيادة 5 منها للصعود من دوري الدرجة الثانية إلى الدوري الإماراتي للمحترفين في 7 مناسبات.

7 مرات يقود فيها الرمادي فرقًا إماراتية عدة، على مدار أكثر من 23 عامًا إلى الصعود. رقم ربما يكون غير مسبوق في التاريخ، حين نصفه بكلاوديو رانييري الملاعب العربية، نجد أنه متفوق إلى حد بعيد على رانييري في هذا المعامل.

تمر مسيرته في الإمارات بمراحل مميزة يذكرها الرمادي عادة بفخر. تحدث كثيرًا عن فوزه على دييجو أرماندو مارادونا أكثر من مرة في فترات الأرجنتيني المختلفة بالدوري الإماراتي. عرج على تواضع بطل كأس العالم 1986 وحبه لمصر. يتحدث الرمادي أيضًا غير مرة عن فخره بالحصول على لقب أفضل مدرب في الإمارات مرتين مع أنه لم يعتد على تدريب أندية القمة هناك.

رحلة طويلة يؤكد الرمادي في كل ظهور إعلامي له أن أساسها هو «العلم». يحض المدربين على ضرورة الانفتاح على كل جديد في كرة القدم، وليس فقط بالرخص التدريبية التي يراها أمرًا بديهيًا؛ لذا فهي ليست كافية لصناعة مدرب. يكره الواسطة والمحسوبية في المجال الرياضي، ويرى ألا سبيل لأي تطور حقيقي في ظل وجود هذه المعطيات.

شخصيات مهمة أيضًا نكتشف من مقربي الرمادي كيف كان لهم أبلغ الأثر في مسيرته. يحمل الرمادي تقديرًا بالغًا للشيخ «عبد الله بن سالم القاسمي» نائب حاكم الشارقة الذي وضع أمامه كل شيء من البداية وآمن به، وكذلك المدير التنفيذي لنادي دبي «خليفة بن حميدان» أول من أعطاه فرصة قيادة فريق أول.

مستر أوفايان، المحاضر الذي يقدره الرمادي كثيرًا أيضًا، والذي يرى أنه محظوظ بالنهل من خبراته في بدايات مشواره التدريبي، وكذلك كانت مسيرته في الإمارات قد مرت بأسماء شكلت مشواره مثل زلاتكو داليتش وصيف بطل العالم مع كرواتيا 2018، وجيوفاني تراباتوني أسطورة التدريب الإيطالي.

اسم مثل أسامة الشيخ يحمل له الرمادي الكثير من التقدير، خصوصًا بعد أن علمنا في «إضاءات» أنه كان كلمة السر الأهم في إنهاء ملفه المتشابك برفقة الظفرة الإماراتي، الذي تعاقد مع الرمادي ثم عاد إلى سيراميكا كليوباترا مرة أخرى بعد أن أذهل إدارة النادي بقيادة طارق أبو العينين ومعتز البطاوي، إذ قادهم في تجربة قوامها مباراة واحدة إلى اللقب الأوحد في تاريخ النادي!

هذا الإكبار يبادله الرمادي مسؤولي سيراميكا بالمناسبة، لدرجة علمنا في «إضاءات» أن هناك عروضًا لا تزال تصل إلى الرمادي من الإمارات التي يعتبرها بلده الثاني، ويرتاح كثيرًا للتنظيم الجيد بمسابقاتها، إلا أن حلم «المشروع المتماسك» مع سيراميكا يشغله أيضًا إلى حد كبير.

كل هذا المشوار يمكنك أن تستشف تأثيره في الإمارات بتذييلات مقدمي البرامج ممن يستضيفونه في لقاء تلفزيوني أو صحفي، حين يتحدثون عن «شيخ المدربين الأجانب في الإمارات» أو «المدرب الذي يعرف من أين تؤكل الكتف» أو «سفير مصر الرياضي في الإمارات»، فلا تملك إلا الاستغراب من مسيرة وصلت إلى كل هذا النجاح دون الظهير الدائم لأي مدرب: الأهلي أو الزمالك.

في «العجميين» حيث بدأ كل شيء

رحلة مثابرة كانت عنيفة في كثير من مراحلها، بدأت من الفيوم، وبالتحديد من قرية العجميين بمركز أبشواي التي تبعد نحو ثلث ساعة بالسيارة من مدينة الفيوم نفسها.

الوصول إلى ك.أيمن الرمادي في الوقت الحالي كان صعبًا للغاية، شقيقه ناصر أخبر «إضاءات» كيف أنه في كل فترة إعداد يغلق كل الأبواب أمام الصحفيين وأمام التصريحات من أي نوع. باءت كل محاولاتنا للتحدث مع الرجل بالفشل في ظل صعوبة كبيرة، خصوصًا في ظل اتفاقه مع مسؤولي سيراميكا كليوباترا على حصول أي صحفي يريد التحدث معه على إذن من الأستاذ أحمد جلال مدير المركز الإعلامي للنادي.

بعد إحدى مبارياته السابقة في أحد الأندية الإماراتية، طلب منه صحفي إماراتي الإدلاء بتصريحات مقتضبة عنها وقد كان متفقًا مع إدارة ناديه على حظر أي حديث إعلامي، أدخل له الميكروفون إلى قلب سيارته لنيل أي تصريح، كان رد الرمادي عليه: «أنا أقل من أن أحرجك، ولكن أرجو أن تتفهم موقفي». هنا وصل الإدراك المجرد إلى يقين بأن المشوار خلف الرجل لن يكون سهلًا.

تواضعه في الموقف الفائت لا يختلف كثيرًا عن تواضعه الجمّ حين قاد سيراميكا للقب الأوحد في تاريخ النادي بإحراز كأس الرابطة المصرية 2022-2023. حينها نسب الفضل إلى المدرب السابق له حلمي طولان بسابقة لم تحدث ربما في تاريخ الكرة المصرية، أن يتحدث مدرب عن سابقه مشيدًا بما حقق. أن يخرج الحديث خارج دائرة «استلمت فريقًا كذا وكذا ثم ضربت بعصاي السحرية فتحول كل شيء!»، ناهيك عن نسبة الفضل لمدرب سابق له مباشرة وإهداء الفوز له!

الحق أن السعي خلف الرجل في بلدته «العجميين» ينبئك دائمًا ما معنى أن تكون «سيرتك عطرة» بالمعنى الحرفي للكلمة، والأقوى من ذلك أن تكون لك تلك الحصانة الأهلية ضد الصحفيين لمجرد أن «سيرتك عطرة».

لدى كل سؤال عن الكابتن أيمن الرمادي في «العجميين» كان المسئول يسأل فورًا: «هتقول عنه إيه؟» وذلك بعد سيل من السؤال عن هويتك وانتمائك وتفضيلاتك. دفاع استباقي دون أن يعلم الرجل نفسه أي شيء عما سيكتب عنه، وعن الطريق الذي يسبر غوره الصحفي القادم من أجل الكتابة عنه.

فسر أحد سكان العجميين لنا الأمر بأن تلك الشراسة في تقدير الرجل خصوصًا من جيران شارعه، يقدرون أعمال الخير التي يقوم بها، والتواضع الجم الذي لم يفارقه إلى الآن، نزوله إلى «البلد» وحرصه عليها، ووصاياه الدائمة لأبنائه بأن «البلد هي كل شيء» أمام الجميع.

على مقهى «محمود منجود» المفضل بالنسبة للرمادي وأصدقائه الذين تجاوزت علاقاتهم السنوات الأربعين وربما أكثر، يمكنك أن تلمح إلى أي مدى يبجل الكل هذا الرجل، حوائط صد كثيرة أمامك حين تتطرق إلى مسيرته، الكثير من الدعوات بأن ييسر الله له الأمور.

يحرص الرمادي دائمًا على الوجود في «العجميين» ومقابلة الأصدقاء في مقهى محمود منجود، الخالي حتى من لافتة تشير إلى تسميته، فقط الكل يعرف اسم الرجل ومقهاه وباتوا ينسبون تلك البقعة إليه باعتبار ما كان وما يكون يوميًا وما سيكون. على المقهى نفسه سيخبرك كثير من معارفه كيف «اتهرت» قدماه من اللعب في العجميين منذ صباه، وكيف لا يزال حريصًا على إقامة تلك الطقوس في كل مرة يكون فيها بالقرية على تعدد أسفاره سواء في القاهرة أو خارج البلاد، وربما بلده الثاني الإمارات.

أسرة الرمادي أيضًا كلمة سر كبرى في مسيرته، ليس من السهل أن تحتمل انتهاء مسيرة لاعب في سن حديثة، وأحلامه في أن يصبح مدربًا خارج مصر، دور يثمنه كل القريبين من الرمادي.

«هل عرفت الآن كيف وارت ربطة العنق والزي الأنيق مسيرة مليئة بالتعرجات؟ يقول الرمادي في حوار سابق له: «منذ كنت لاعبًا، كنت أولي كل شيء اهتمامه في المباراة. أحلق شعر وجهي قبل أي لقاء، وأتعامل من هذه النظرة كمدرب، يجب أن يراني اللاعبون قدوة في كل شيء».

هكذا تعلم ابن الفيوم ويحرص دائمًا على أن يكون، في عالم شديد الاختلاف أو ربما شديد البساطة لمن لا يعلمون شيئًا عن جلسات قهوة محمود منجود حتى الصباح الباكر في قلب «العجميين!».