تتعاقب الحكومات الأمريكية، لكن عداءها لإيران شبه ثابت. قد يتساهل رئيس أمريكي مع إيران، لكن العلاقات لا تصبح ودية أبدًا. بينما تمارس الولايات المتحدة نقيض الأمر مع جارة إيران؛ أذربيجان. ففي عام 2019، قدمت الولايات المتحدة مساعدات بقيمة 100 مليون دولار لأذربيجان، وفي عام 2018 قدمت وزارة الدفاع الأمريكية 59 مليون دولار لأذربيجان لتحسين خدماتها الحدودية والجمركية.

اهتمام الولايات المتحدة بأذربيجان فاق اهتمام الولايات المتحدة بجورجيا، أكبر حليف للإدارة الأمريكية في المنطقة. وأصبحت أذربيجان ثالث أعلى متلقٍّ للمساعدات الأمريكية بعد الأردن ولبنان. لكن اللافت أن تلك المعلومات يتم الإفصاح عنها ضمن آلاف المعلومات الأخرى في تقارير الهيئات الأمريكية للكونجرس، لكن لم تتحدث وزارة الدفاع الأمريكية عن اهتمامها بأذربيجان، كذلك لم تُعلق وزارة الخارجية الأذربيجانية عن العلاقات المتنامية مع الجانب الأمريكي.

أذربيجان تمثل أهمية كبيرة للجانب الأمريكي لإطلالها على بحر قزوين. وتأتي أهمية البحر من ثرائه بالنفط والغاز الطبيعي، والأهم لأن إيران تطل على جانب منه. وتُقدم المساعدات الأمريكية العسكرية لأذربيجان تحت ذريعة مساعدة الأخيرة للدفاع عن نفسها حال قامت إيران بالهجوم عليها.

لم تقم إيران بهجوم على أذربيجان، لكن وثائق ويكليكيس أظهرت مناوشات بحرية جرت بين القوات البحرية للطرفين. وأظهرت الوثائق عددًا مهولًا من البرقيات المتبادلة بين أذربيجان والولايات المتحدة تُقدم فيها الأخيرة النصائح والدعم اللوجيسيتي لمساعدة أذربيجان على الفوز في تلك المناوشة.

قزوين في أيدٍ أمريكية

ليست الولايات المتحدة وحدها من وضعت قدمها في أذربيجان، بل إسرائيل أيضًا. لهذا أجرت إيران مناورات عسكرية بطول الحدود المشتركة بين البلدين، 700 كيلو متر، في أكتوبر/ تشرين 2021. بعد أسابيع من إجراء أذربيجان مناورات مشتركة مع تركيا وباكستان في العاصمة باكو. إيران قالت إن الجيش الإسرائيلي منتشر بقوة على أراضي أذربيجان لهذا يجب الحذر عسكريًا منها.

المزاعم الإيرانية جاءت من المواجهة الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا. حرب العام الماضي في إقليم ناجوري قرة باج شهدت نشر أذربيجان لطائرات إسرائيلية بدون طيار، واستطاعت أذربيجان هزيمة أرمينيا بفضل تلك الطائرات، وبفضل المساعدات العسكرية التركية أيضًا. معهد ستوكهولم لأبحاث السلاح يتفق مع المزاعم الإيرانية، فإسرائيل ثاني أكبر مورد للأسلحة لأذربيجان بعد موسكو، وباعت إسرائيل لأذربيجان أسلحة بقيمة 825 مليون دولار في الفترة ما بين 2006 وحتى عام 2019.

إقليم ناجوري هو أصل معظم الخلافات بين إيران وأذربيجان. الإقليم منطقة جبلية متنازع عليها، سيطرت عليه القوات الأرمينية 30 عامًا حتى مواجهة عام 2020، وفي تسعينيات القرن الماضي أعلن الإقليم انفصاله عن أذربيجان، لكن لم يعترف أحد به حتى الآن.

إيران حليف لأرمينيا، بالتالي تصبح عدوًا لأذربيجان. لكن في الأسابيع الماضية أعلنت إيران أن الأقليم يعود لأذربيجان، كان اعترافًا متأخرًا لأنه لم يصدر إلا بعد أن تأكدت إيران أن ميزان القوى مال لأذربيجان. كذلك أدركت أذربيجان أيضًا، فلم ترَ في الاعتراف الإيراني إلا لعبة سياسية جديدة.

وكون الإقليم، وأذربيجان، يتلقيان مساعدات ومناورات عسكرية من باكستان وتركيا قد أدت لاستفزاز إيران. فالقانون الحاكم لبحر قزوين ينص على أن أي قوات غير تابعة لأذربيجان أو إيران أو كازاخستان أو تركمانستان أو روسيا، ليس لها الحق في الوجود أو الانتشار في بحر قزوين.

إيران تخشى من ثورة الداخل

أذربيجان استفزت إيران من جهة أخرى، ففي وقت وجود القوات التركية والباكستانية على أراضي أذربيجان، قامت الأخيرة بمنع مرور الشاحنات الإيرانية من طريق تقليدي يربط بين أرمينيا وإيران. أذربيجان منعت الشاحنات من المرور بدايةً، ثم تساهلت فوضعت العديد من نقاط التفتيش تركز على الشاحنات الإيرانية. كما فرضت عليها ضريبة مرور، واعتقال بعض السائقين الإيرانيين في بعض الأحيان. تلك الإجراءات تعد خرقًا لاتفاق الهدنة الذي توسطت فيه روسيا والذي ينص على التدفق الحر لتلك المنطقة.

يمكن التكهن بأن التخوف الإيراني الأكبر ينبع من الداخل لا من الخارج. ففي شمال إيران يقطن عدد كبير من السكان الأذريين، ويُعتبرون أكبر أقلية في إيران. تلك الأقلية القاطنة في إيران أقامت احتفالات ضخمة حين فازت أذربيجان في حربها في أقليم ناجوري قرة، كما طالبوا إيران بإغلاق حدودها مع أرمينيا. لذا فإيران تخشى من تأثير انتصار أذربيجان أو تعاظم قوتها على الأقلية الموجودة في داخل إيران بالفعل، فإيران لا تحتمل مزيدًا من التصدعات الداخلية بينما تواجه غالبية العالم الخارجي.

لكن الإدارة الإيرانية لم تتريث في احتواء الأزمة دبلوماسيًا واندفعت للتلويح العسكري المباشر. فآية الله علي خامنئي قال في خطابه في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 إن الجميع يعرف أنه إذا قام أحد بحفر حفرة لأخيه فسيكون هو من يسقط فيها أولًا، مشيرًا بذلك إلى العاصمة باكو. كما قال إن وجود أي قوات أجنبية في المنطقة بحجة الأمن القومي أمر خاطئ، لأن الأمن القومي لا يمكن تحقيقه إلا عبر القوات الإقليمية.

إلهام علييف، رئيس أذربيجان، بدوره قال إنه من حق أي أحد تنفيذ مناورات عسكرية متى شاء، لكنه تساءل عن أسباب ودوافع قيام إيران بمناورات عسكرية على الحدود الأذرية. فلم تسعَ باكو إلى تخفيف القلق الإيراني أو بث رسائل طمأنة، بل منحها فوزها على أرمينيا شعورًا بالقوة جعلها تناطح إيران كلاميًا وعسكريًا بصورة غير مباشرة.

تطويق إيران بأذرع إسرائيل

إيران تعلم أن أذربيجان ليست سوى حلقة إسرائيلية جديدة في مسلسل تطويقها. بدأت الحلقات بجورجيا التي هاجر معظم سكانها في نهايات الاتحاد السوفييتي، وظلت علاقاتهم جيدة بوطنهم الأصلي، فاستغلت إسرائيل تلك النقطة لتتخذها مدخلًا لتكوين علاقات وثيقة مع جورجيا. ثم أتت بعدها أذربيجان التي وصف علييف علاقاته بإسرائيل أنها مثل جبل الجليد، ما يبرز منها فقط 10%، أما ما لا يظهر فهو أعظم. حتى أن ليبرمان، وزير خارجية إسرائيل سابقًا، قال بأن أذربيجان هي الشريك الإستراتيجي الوحيد لإسرائيل في العالم الإسلامي.

فأذربيجان تفضل التواصل غير الرسمي مع إسرائيل، فدائمًا ما تماطل في فتح سفارة في تل أبيب. لكن رغم ندرة التمثيل الدبلوماسي الرسمي إلا أن إيران تدرك أن أذربيجان هي القاعدة الأولى لتجميع كافة المعلومات الاستخباراتية عنها، كما أنها ستكون منطلق أي عمل عسكري إسرائيلي ضد إيران.

على الرغم من أن إيران وأذربيجان دولتان شيعيتان رسميًا، فإن هناك العديد من الاختلافات بين البلدين. فقد ورثت أذربيجان ثقافة علمانية ترتكز على الثقافة التركية، لهذا تشعر إيران بالإحباط من نفوذ تركيا المتنامي داخل أذربيجان. كذلك لا تريد إيران قبول وجود دولة شيعية علمانية، خصوصًا أن 8% فقط من سكان أذربيجان يؤيدون جعل الشريعة مصدرًا رسميًا للتشريع.

كما أن أذربيجان ونظامها الشيعي العلماني يوفر نموذجًا للمعارضة الإيرانية تستطيع أن تواجه به حكومتها الإسلامية حين تُسأل المعارضة عن المسار البديل الذي تقترح أن تسير عليه البلاد. وفي دعوات المعارضة ورغبات الأقلية الأذرية في شمال إيران تهديد كامن لوحدة إيران أمام العالم، كما أن إدراك إيران للأذرع الإسرائيلية التي تلتف حول عنقها من خلال جورجيا وأذربيجان وفي منطقة الخليج العربي قد يدفعها لتصرفات غير مسئولة. لذا فلا يمكن المراهنة على صبر الحكومة الإيرانية طويلًا، فالمسألة بالنسبة لها قد تصبح مسألة وجود في لحظة من اللحظات.