وما راءٍ كَمَنْ سَمِعَ، بلاد تمشي على ترابها وتستنشق عبيرها، وتتعامل مع أهلها وتحبهم. بلاد كلما زادت معرفتك بها وجدتها جزءاً لا يتجزأ من كيانك وتاريخك وتراثك ولغتك ودينك وماضيك وحاضرك، بلاد تجد نفسك– رغمًا عنك– تشاركها أفراحها وأحزانها وانتصاراتها، كأنك واحد ممن صنعوا أمجادها ومعجزاتها، بلاد تجعلك جبالها– رغم وعورتها– ذا قلب رقيق يستحضر آيات القرآن في الجبال، وتجعلك غاباتها الغَنَّاءُ ترفع يديك في خشوع لتسأل الله الجنة، جنة الأرض وجنة السماء.

إذا كانت ثمة بلاد بهذا السمت الذي يعجز البيان عن وصفه، فتلك هي أذربيجان.

قلت في نفسي لعل زيارتك الأولى لها هي التي أدهشتك، ولعل جمال طبيعتها الآسرة المتفردة هو الذي أخذ لُبَّك، لكن الحقيقة أن معادلة متعددة العناصر والتراكيب هي التي جعلت كل رفاق الرحلة يحبونها، ويزدادون انبهارًا بكل ما فيها، ومن فيها. وسوف أحاول أن أكتب بعض عناصر هذه المعادلة.

بلاد الفنون

في العاصمة باكو وحدها زرنا الكثير من متاحف الفنون والمراكز الثقافية والفنية، الفنون بكل أشكالها وأنواعها، قديمها وحديثها، ولعل أبرزها فنون الرسم والنحت، حتى أن مدير «المركز الثقافي المصري» هناك أخبرني أنه أقام عددًا كبيرًا من المعارض الفنية في معظم بلدان أذربيجان، منها عدد الفنانين طلاب في المدارس الابتدائية والإعدادية!

خريطة أذربيجان
خريطة أذربيجان

كأنه شعب فنان بالفطرة، ورث الفن في جيناته الوراثية من حضارات متعاقبة، وروافد ثقافات متباينة، غذتها طبيعة خلابة، وتاريخ فيه من أمجاد الدول وقسوة الاحتلال ما جعل الفن في سنوات القمع هو وسيلة التعبير الفريدة، وجعل الفن في سنوات المجد هو الأنموذج الأرقى لشعب تعددت مهاراتها ومدارس فنونه.

السجاد ثقافة حياة

من أفضل المتاحف التي زرتها في العاصمة باكو هو متحف السجاد، متحف حقيقي في حجمه وتنوعه، وعمق تاريخ وثقافة ما يحتويه، فالسجاد في أذربيجان ليس مجرد بُسُط تُفرش على الأرض، بل تفنن الشعب الآذري عبر تاريخه في نسج كل ما يحتاجه وتحتاجه بيئته، فالسجاد يستخدم كفرش، وفراش، وستائر، وأغطية، وملابس، وزينة، وجراب للأمتعة، وسرج للخيل والإبل، وخُرُجٍ تُحمل على ظهر الدواب، وأسقف للخيام، وهدايا ثمينة يتبادلونها، تظهر حياتهم ومعتقداتهم وأساطيرهم وبيئتهم في رسوماتها وأيقوناته، وكذلك الوسائد والذرابي، حتى أن هناك بحوثاً عربية في تفسير قوله تعالى: «وذَرَابي مَبْثوثَة» يثبتون من خلالها أن اسم أذربيجان مذكور في القرآن.

متحف السجاد
متحف السجاد في أذربيجان
Ahmed Al-Sharkawy / إضاءات

ومن الطريف أن الأسرة حين تذهب لخطبة فتاة ما، فمن المعهود أن تقوم الفتاة بنسج سجادة كي تثبت لأهل الخاطب مهارتها في النسج، فذلك شرط أساسي يرفع قدر الفتاة، ويُرَغِّب فيها الخُطّاب – ولا تحدثني عن الجمال، فهو الأصل في جِبِلَّتِهِم – وفوق ذلك يمكن للخاطب أن يعرفوا شخصية الفتاة من خلال النقوش التي تنسجها في سجادتها، فيعرف إن كانت رومانسية أو عنيدة أو متدينة، أو غير ذلك من الصفات التي يقرأونها من خلال أيقونات سجادتها.

ولا بد هنا أن نذكر أن للسجاد في أذربيجان مدارس مختلفة، كل مدينة لها مميزاتها وسجادها الخاص الذي يسهل تمييزه عن غيره، فأذربيجان عَالَمٌ من السجاد، ويكفي أن تعرف أن السجاد الإيراني الشهير هو في الأصل سجاد أذربيجان، إذ إن معظم المناطق الشمالية من إيران كانت تابعة لأذربيجان– وما زال سكانها الآذريون هناك– حتى القرن التاسع عشر، عندما عقدت معاهدة تركمانجاي بين روسيا القيصرية والدولة القاجارية في 1828م، وصار نهر آراس حدًا فاصلاً بين الدولتين.

المتحف هو أقدم المتاحف في أذربيجان، ويضم سجاداً يرجع إلى القرن السابع عشر، وما زالوا يبذلون جهودًا في استعادة القديم منه الذي تناثر في متاحف دول العالم، وكان مما استعاده مواطنو أذربيجان في أمريكا سجادة كان يعرضها الأرمن على أنها من آثارهم القديمة، ولا غرو، فليست الحادثة الأولى لما فعله الأرمن في تزوير آثار وحضارة المنطقة، كما شاهدنا بأعيننا في الكنائس والأضرحة، وقصور الشروانيين!

فن السلام

إذا كان للسلام فن، فهو فن اخترعه الفلسطينيون وطوره الآذريون، فقد شاهدنا الفلسطينيين وهم يستخدمون عبوات القنابل الملقاة عليهم، ويجعلونها أصصاً لزراعة الزهور !! كذلك فعلوا في أذربيجان، فبعد أن قام الأرمن باحتلال أجزاء كبيرة من أراضي أذربيجان منذ 1990م، تمكنت أذربيجان من تحقيق معجزة عسكرية كتلك التي حققها المصريون في عبور قناة السويس، واقتحام خط بارليف، إذ صعد شباب أذربيجان المنحدرات شديدة الوعورة ليفاجئوا جنود الاحتلال بشجاعة منقطعة النظير، حتى تم تحرير عدة مدن، كان أهمها مدينة شوشة الاستراتيجية، عندها فقط وقف رئيس وزراء أرمينيا باكيًا أمام عدسات الإعلام العالمي ليعلن استسلامه، ويطالب المجتمع الدولي بوقف الحرب.

زرنا مدينة شوشة، ورأينا وعورة جبالها وروعة طبيعتها، وصعدنا قمة إحدى هذه المناطق العسكرية الاستراتيجية، ومن هذه القمة رأينا بالأعين المجردة عدة مدن حدودية قد احتلها الأرمن، ثم استسلمت بلا قتال، فقد كانت على مرمى حجر من أي قوة تتمكن من السيطرة على هذه البقعة.

بعد توقف آلة الحرب المدمرة، بدأت على الفور فنون السلام المعمرة، لتقول للعالم كله إن الرغبة في السلام تنبع من قلب الحرب.. على شواطئ بحر قزوين في قلب العاصمة باكو، تجد «حديقة الغنائم»، جمع فيها الأذربيجانيون نماذج مما غنموه من معدات وذخائر ومهمات الحرب، سواء ما تم تدميره أثناء الحرب أو ما تركه الأرمن ولاذوا بالفرار، فماذا فعلوا بها غير العرض للجمهور والفرحة بالنصر، والفخر على العدو؟!

حديقة الغنائم
حديقة الغنائم في أذربيجان
Ahmed Al-Sharkawy / إضاءات

صنعوا من مقذوفات الصواريخ أعمدة قصيرة للإنارة، وصنعوا من مقذوفات الدبابات سلال للقمامة، وجعلوا من صناديق الذخائر مقاعد للاستراحة، وعلقوا خوذات الجنود الأرمن في ممرات ومظلات..

أما الأسلحة الروسية الصنع والمحرمة دوليًا، فالعديد منها حصلوا عليه سليمًا لم ينفجر بعد إلقائه على مناطق مدينة سكنية، وكأنها معجزات من الله ليحقق نصرًا مؤزرًا لم تتورع فيه القوى العالمية عن استخدام أسلحة محرمة دوليًا، وشديدة التدمير ضد العسكريين والمدنيين على السواء.

بلاد الفواكه

كنت في أنقرة أتعجب من زملائي في المسكن والعمل- وكانوا من أذربيجان- وهم يأكلون مربى الزيتون!! فلما قصصت عليهم ذلك ضحكوا وقالوا: هل تتعجب من مربى الزيتون ؟! وجاءوني على الفور في المطعم– بعد الغداء- بأربعة أنواع من المربى، أتذكر منها مربى البطيخ. إنهم هنا يصنعون من كل شيء مربى، من الفواكه والزهور والنباتات الأخرى، كذلك يصنعون منها المخللات! ويتميزون بشيء آخر وهو الفاكهة المجففة، متوافرة في كل مواسم السنة، حتى الفواكه التي لا تزرع لديهم مثل الأناناس والمانجو.

كان صديقنا الدبلوماسي المرموق ورفيقنا في كل الرحلات أيضًا من عشاق الفواكه، لا نكاد نستريح في مكان أو ننزل من السيارات لأي سبب إلا ويتجه فورًا إلى الأشجار ليقتطف أنواع الفاكهة، فيأكل منها، ونأكل جميعًا، إلا التوت البري، فشجرته كاسية على الأرض، ربما يختبئ في أحراشها الثعابين، وكانت هذه مهمتي، أقتطف التوت البري وآكله، وأجود عليهم بما تبقى.

 فالفواكه منتشرة في كل مكان، معظم الأشجار في الحدائق العامة والخاصة، وفي الشوارع– نعم شوارعهم تكسوها الأشجار!- والطرقات والغابات، حتى في المدن المدمرة التي تحررت أخيرًا، فواكه كثيرة الأنواع، فالتفاح أكثر من 60 صنفًا، والكريز نحو 24 صنفًا، كذلك البرقوق والتين والجوافة والكمثرى والرمان، ألوان وأحجام وطعوم متعددة، حتى أنهم يقيمون مهرجانًا للتفاح في سبتمبر، ومهرجان للرمان في أكتوبر.

آلاف الهكتارات من مزارع الأعناب تركها الأرمن المحتلون دون اهتمام، ودمروا ما استطاعوا تدميره، رغم أنه كانت لديهم الفرصة ليربحوا منه الكثير، حيث تستورده روسيا– وحدودها قريبًا جدًا – لصناعة الخمور، لكن يبدو أنهم شعب يدمر ولا يعمر، يسرق الثقافات ولا يبنيها أو ينميها … هكذا تقول الأفعال والشواهد التي حكاها لنا الأب رفيق دانكاري (Rafik Dankari)، رئيس طائفة الألبان وراعي كنيسة القديسة مريم العذراء في جوبا.

كنيسة القديسة مريم العذراء في جوبا
الكاتب أمام كنيسة القديسة مريم العذراء في جوبا
Ahmed Al-Sharkawy / إضاءات

أخبرني ذلك الدبلوماسي المصري، كذلك مدير المركز الثقافي المصري في أذربيجان، أنهما بذلا جهودًا كبيرة لفتح أبواب الاستثمار أمام المستثمرين المصريين، سواء في استغلال الغابات زراعيًا أو سياحيًا، لكنهم للأسف لم يفهموا عقلية المستثمر المعاصر الذي يريد أرباحًا طائلة في وقت قصير وعمل قليل وقروضاً بنكية وأراضي من أملاك الدولة.

بلاد الانتصارات

كان أعظم نصر حققه الأذربيجانيون هو التحرر من كل قيود الاستعمار المحيط بهم، وتدعمه القوى الكبرى، فواصلوا الحياة رغم الجراح، وواصلوا الأمل رغم الألم، تحرروا من روسيا القيصرية، وأطماع إيران القاجارية، ووحشية أرمينيا الغادرة، والاتحاد السوفيتي الدموي.

ثم تحرروا من الانغلاق المذهبي والصراع الذي يفتك بالإخوة في الدين الواحد، ذلك الصراع الذي يؤججه الغرب وصنيعته إيران، لتزيد هوة الخلاف بين الشيعة والسنة، حتى يصبح المذهبان دينين متناحرين، كلاهما يُكفِّر الآخر، لكن في أذربيجان كان النجاح حليف فكرة «التقريب بين المذاهب».

وأظن أنه رغم جهود كبار العلماء في العالم، لم تنجح الفكرة نظريًا وتطبيقًا إلا في أذربيجان، حيث يتم دراسة المذهبين الشيعي والسني في الجامعات، وفي الجامع الكبير في العاصمة باكو قابلنا الإمامين: الإمام السني والإمام الشيعي، يتبادلان الصلاة بالناس والأذان وخطبة الجمعة، هذا الجيل الذهبي من خريجي الجامعات استطاع أن يجتاز كل العقبات ومحاولات الإيقاع بين الفريقين، وتمكن– في معظم الأحيان- من وأد الفتنة قبل تأججها، وتمكنت الدولة من إسكات صوت الطلاب الأذربيجانيين المستعربين القادمين بالفكر المتعصب من إحدى البلدان الخليجية، حيث حملوا مع شهاداتهم الفكر الوهابي في أسوأ صوره، وادعوا المنهج السلفي في أبشع تصوراته، وكانت النتيجة تفجير أحد المساجد.

انتصرت أذربيجان على كل الثقافات الغربية والشرقية الواردة مع الاحتلال: الفارسية، والروسية، والشيوعية، والأرمينية، فصهرتها جميعًا في بوتقة هويتها، وعبرت في فنونها عن تلك المعاناة، وعبرت في آدابها عن تلك الثقافات، وبقي كيانها وهويتها كما كان منذ قرون طويلة.

ولعلك تستغرب أن اللغة الأذربيجانية– وهي من أسرة اللغات التركية– كانت تُكتب بالحروف العربية، قبل أن تتغير إلى الروسية ثم إلى اللاتينية. فقد كانت أذربيجان قِبلة الفتوحات الإسلامية في آسيا وبلاد القوقاز، ولم تتخلَّ عن إسلامها رغم قساوة روسيا القيصرية وسعيها الحثيث في التنصير الإجباري. كذلك لم تتخل قيد أنملة عن التعايش السلمي بين عشرات القوميات والطوائف الساكنة في كل مدينة من مدنها، كما هو شأن كل بلاد القوقاز التي تضم مئات القوميات والطوائف العرقية والدينية والإثنية.

الانتصار الذي أراه أكبر، هو انتصارهم على الطبيعة القاسية، وانتصارهم على الزمن شديد السرعة، إذ لم تمضِ أيامٌ على قرار وقف إطلاق النار، حتى صدر القرار ببدء العمل في إعادة تعمير المناطق المحررة، وبناء طرق لربط هذه المدن ببقية البلاد، رغم وعورة الجبال والغابات والجغرافيا والطقس، ورغم كمية كبيرة من الألغام التي زرعها الأرمن المنسحبون، رغم وقوع الكثير من حوادث انفجار سيارات المواطنين العائدين بشوق ولهفة إلى بيوتهم ومدنهم المحررة، رغم ذلك كله يبدو العمل كخلية نحل، عمل دؤوب لا ينقطع ليل نهار، في آلاف الكيلومترات التي قطعناها نجوب أنحاء الجمهورية من أقصاها إلى أقصاها، وجدنا أعمال التعمير والترميم والبناء وإنشاء الطرق، ونزع الألغام، وتحويل روح الحرب والنصر إلى طاقة بناء وسلام.

ويا حبذا لو أدرك المصريون والعرب هذه الفرصة الكبيرة في مشاركة هذا البلد – شريك التاريخ والدين والتراث – نموه واستثماراته ومجالاته الواعدة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.