لم يأت اختيار الرئيس التركي، للعاصمة الآذرية باكو، لتكون محطته الأولى في زياراته الخارجية في ولايته الجديدة، من فراغ، فبعد يوم واحد من بدء فترته الرئاسية، توجه رجب طيب أردوغان إلى أذربيجان المجاورة في رسالة واضحة تؤكد تصدر العلاقة معها قائمة أولوياته فيما هو قادم. فبخلاف الروابط التاريخية والعرقية والدينية وغيرها من العرى الوثيقة التي تربط الدولتين، ينظر الرئيس التركي لهذا البلد باعتباره مفتاح تعزيز قوة ومكانة بلاده على الساحة الدولية.


المشروع الضخم

قبل شهرين فقط افتتح أردوغان مشروعًا ضخمًا لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى أوروبا، أطلق عليه اسم «تاناب»، وحضر الافتتاح رؤساء أذربيجان وأوكرانيا وصربيا وقبرص التركية، ومسئولون كبار في شركات الطاقة العالمية.

وسينقل الخط الجديد في مرحلته الأولى 16 مليار متر مكعب من الغاز، عشرة منها إلى أوروبا وستة إلى تركيا، على أن يدخل الخدمة في يونيو/ حزيران المقبل، لتتم زيادته بعد ذلك ليصل إلى 31 مليار متر مكعب، ومن المقرر أن يصل إلى إيطاليا واليونان وبلغاريا وصربيا وألبانيا.

اقرأ أيضًا: الصراع الروسي التركي على حلبة القوقاز: من يفوز؟

وتأتي الأهمية الاستراتيجية للمشروع في أنه سيجعل تركيا تتحكم في إمدادات الطاقة للدول الأوروبية، بما يحمله هذا الموقع من دعم لنفوذها في القارة العجوز ويقوي من موقفها التفاوضي في أي مفاوضات قادمة مع الأوروبيين بعد تحكمها في محبس أنابيب الطاقة وأسعارها العالمية. وعلى النقيض تمامًا يشكل المشروع تهديدًا كبيرًا لروسيا التي تزود أوروبا بأكثر من ثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي، إذ إن الاقتصاد الروسي – المنهك بسبب العقوبات الأوروبية منذ عام 2014 – يعتمد على صادرات الطاقة بشكل أساسي، والتي تصل نسبتها إلى الثلثين من إجمالي الصادرات.

وتؤيد الولايات المتحدة المشروع بسبب اتساقه مع سياستها الهادفة إلى إضعاف نفوذ موسكو داخل أوروبا، والتي تشجع المشاريع التي تحرر حلفاءها الأوروبيين من الضغوط الروسية.

على مدار السنوات الماضية شكل اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي نقطة ضعف، فلطالما هددت موسكو بقطعه عنهم في أوقات التوترات السياسية، بل وسبق أن قطعته عنهم بشكل فجائي عام 2009 بسبب خلافاتها مع أوكرانيا التي تمر الأنابيب عبر أراضيها، مما جعل الأوروبيين يبحثون عن بدائل أخرى للحصول على الغاز أو حتى مصادر طاقة أخرى.


السيل التركي «طريق مزدوج»

أتى افتتاح المشروع الحالي بعد شهرين فقط من إعلان شركة غازبروم الروسية المسئولة عن توريد الغاز عن بدء إجراءات فسخ عقود توريد وترانزيت الغاز مع أوكرانيا، بعد قرار محكمة التحكيم في استوكهولم فبراير/ شباط الماضي، بإلزام غازبروم دفع تعويضات تقدر بـ 2.56 مليار دولار إلى أوكرانيا بسبب مخالفتها لعقد التوريد، ومع أنه لم يكن من المتوقع أن تتوقف إمدادات الغاز عبر هذا الخط الذي يمر من خلاله أكثر من 45% من الغاز الروسي المورد إلى أوروبا وتركيا، فكلا الطرفين لم يكن ليرضى بالخسارة الكبيرة المتوقعة، لكن خضوع إمدادات الطاقة لهذا النمط من التهديد المستمر أقلق الأوروبيين بشدة.

وقد لجأت موسكو تجنبًا للمشاكل المتجددة مع كييف، للبدء في مد خطوط أنابيب بديلة تتجنب الأراضي الأوكرانية، فوقعت مع أنقرة مشروع «السيل التركي» لنقل إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر الأراضي التركية ومن المنتظر أن يدخل الخدمة العام المقبل، وهي المفارقة الساخرة التي أدت في النهاية إلى أن يجمع أردوغان في يده خيوط اللعبة على اختلافها.

وكما لجأت روسيا إلى تركيا بعد تفاقم خلافاتها مع أوكرانيا، لجأت الأخيرة إلى أنقرة أيضًا، فهي كذلك لم تعد تثق بمواصلة الاعتماد على الأنابيب الروسية وعلقت آمالها على مشروع «تاناب»، إذ منذ احتلال الروس لأراضيها الشرقية والجنوبية عام 2014، والعلاقات بين موسكو وكييف تمر بأسوأ حالاتها؛ فالروس اقتطعوا منها 3 أقاليم هامة هي شبه جزيرة القرم، ولوجانسك ودونيتسك.

كما أن جورجيا التي يمر بها خط الغاز الجديد تعاني هي الأخرى من توتر العلاقات مع موسكو بشدة، منذ اقتطاع الأخيرة إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية منها عام 2008، وتريد أن تسهم في جهود عزل الدب الروسي وإضعافه بأي ثمن، وهو ما سيساهم فيه المشروع الجديد.


تغيير التوازن الدولي

وبالرغم من الأهمية الاقتصادية الكبيرة للخط الجديد، إلا أن تأثيراته على موازين القوى الدولية هي الأكثر أهمية وإثارة، فلم تكن موسكو تجد كلما تجددت أزماتها السياسية مع دول الاتحاد الأوروبي وسيلة أكثر إيلامًا للأوروبيين من التهديد بقطع الغاز، وهو الأمر الذي كان يـُحسب له ألف حساب.

فعلى سبيل المثال شهدت بريطانيا نقاشات حادة حول هذا الموضوع خلال الأزمة الدبلوماسية بينها وبين موسكو على خلفية تسميم الجاسوس المزدوج سيرغي سكريبال،وأوردت ديلي ميل البريطانية، تحليلات تفيد بأن الاعتماد الأوروبي على واردات الغاز الروسي يضع لندن في وضع ضعيف أمام موسكو، في الوقت الذي تمر فيه العلاقات بين الدولتين بمرحلة حرجة، نظرًا لأن باقي موردي الغاز وصلوا أو اقتربوا من أقصى طاقتهم، وتضاءلت الإمدادات التي كانت تأتي من بحر الشمال.

كما أن احتياطيات الغاز في القارة العجوز شهدت انخفاضًا قياسيًا بعد موجة البرد الأخيرة التي عرفت باسم «الوحش القادم من الشرق»، مما دفع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي للقول خلال جلسة لمجلس العموم البريطاني بأن بلادها تبحث عن دول أخرى غير روسيا للحصول على إمداداتها من الغاز، كرد على تسميم سكريبال، وأيّد النائب البريطاني ستيفن كراب تريزا بقوله: «تستغل روسيا عن عمد مصادر الطاقة الخاصة بها وذلك لإخضاع أوروبا، وعلينا ألا نقبل بهذا الوضع، ونبحث عن خيارات بديلة».

لذا من المتوقع أنه حال نجح مشروع تاناب في توفير إمدادات الغاز الأذري إلى أوروبا أن تميل كفة التوازن الدولي ضد روسيا وأن تنعكس الآية لتتعرض للابتزازات الأوروبية عبر التهديد بوقف استيراد الغاز منها، ويأتي هذا في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يصف نفسه بأنه ينتهج نهجًا أكثر صرامة وحدّة في مواجهة الروس من سلفه، باراك أوباما، الذي اتهمه بالتخاذل أمامهم.