تثير علاقة الدولة العربية بما يسمى اليوم بالمجتمع المدني العديد من الإشكالات، من حيث شكل العلاقة بينهما التي هي في الغالب عليها علاقة استلحاق ووصاية وتبعية، وفي أحسن الأحوال علاقة تكميلية قائمة على نوع من الشراكة محددة النطاق، فيما يمكن تسميته «هوامش عمل الدولة العربية» – جدلًا يلفتنا إلى الأهم، وهو خلو هذه العلاقة من أي بعد إشكالي يتعلق بالمسألة السياسية، وفي مقدمتها شكل الحكم وقضية الديمقراطية.

وتبعًا لذلك، يمكن الجزم بأن المجتمع المدني العربي، بنموذجه القائم، لا يحظى بتلك المشروعية أو الأصالة التاريخية التي من شأنها أن تجعل تَشكّله عربيًا يبدو أمرًا عاديًا، أو الاستناد إليه كمفهوم تاريخي ومقولة تحليلية يمكن استخدامها لفهم المسألة العربية، على غرار حالة المجتمعات الغربية.

وفي المشروع الفكري لعزمي بشارة، تحظى علاقة المجتمع المدني بالدولة بمكانة أساسية، لما لهذه العلاقة من اتصال بأهم مقومات فكرة الديمقراطية الحديثة. وهو ما تم على مستويين مترابطين: الأول منهما هو سبر تقاليد الحداثة المعرفية وتعاطيها مع المفهوم كمقولة معيارية وتحليلية في آن واحد، وبعبارة أخرى كمشروع سياسي، مرتبط بما هو كائن وبما ينبغي أن يكون، هذا من ناحية، وتعاطيها معه كمفهوم له مقومات النموذج المعرفي التحليلي من ناحية أخرى.

أما المستوى الثاني فقد تم عبر سبر الممارسة التاريخية والوقائع المتصلة بنشأة الدولة والمجتمع الحديث، وفي مقدمتها الوقائع المرتبطة مثلًا بالحرية الفردية وأخلاقياتها مقابل الأخلاقية الجماعية، والحق الإلهي مقابل الحق الطبيعي أو الحق المستند على العقد الاجتماعي، والمصلحة والإرادة العامة في مقابل إرادة الأفراد وحرياتهم، والحيز العام مقابل الحيز الخاص، والمجتمع إزاء الدولة بشكل عام. وتلك العمليات هي جوهر مقاربة عزمي بشارة للمجتمع المدني كسيرورة دمقرطة قائمة على مسار معقد وطويل من التمايزات والتمفصلات.


الحداثة الأولى: المجتمع المدني والدولة في لحظة التطابق

تشمل الحداثة الأولى من وجهة نظر عزمي بشارة فلسفة العقد الاجتماعي وفكر التنوير، أي اللحظة التاريخية التي شهدت بروز أهم نظريات العقل السياسي الأوروبي وأهم مقولاته في الفلسفة السياسية. ونظريًا يمكن القول إن ميزة هذه اللحظة كانت متمثلة في تدشين مسار العقْلنة والعلْمنة في الغرب. وهو ما سيتجسد عمليًا في افتكاك المجتمع من الكنيسة، والحكم من الحق الإلهي، وبتعبير آخر دَنْيَوَةُ الحياة السياسية والاجتماعية.

وقد كان التنظير للمجتمع المدني بؤرة هذه العملية ومنطلقها. ففي فلسفة العقد الاجتماعي، الدولة هي نتاج تعاقد لإرادات حرة، على الرغم من اختلاف اتجاهي هذه الفلسفة في حالة الطبيعة السابقة على المجتمع المدني. وحسب عزمي بشارة، لم يكن الدافع إلى حرق كتب هوبز وإدانته من طرف جامعة أكسفورد عام 1683 يتعلق بنظريته في الحكم المطلق، وإنما بتأصيله هذا الحكم لا إلهيًا ولا طبيعيًا، وإنما تأصيله بالمقابل في الإرادة الاجتماعية التي جعلته جسمًا مصطنعًا قائمًا على التعاقد. وبالمختصر المفيدـ اعتبار المجتمع المدني حالة سياسية اجتماعية تعاقدية.

وإذا كان الحق في هذا التعاقد يتم لمرة واحدة ويقتضي تنازل الأفراد عن حرياتهم الكاملة لصالح الدولة (اللفيثان)، فإن المجتمع المدني ليس دولة فقط وإنما دولة مطلقة الصلاحية بحكم تعريفها. وبعبارة عزمي بشارة، فالمجتمع المدني عند هوبز هو مجتمع عديم المواطنين مع أنه ناشئ بفعل إرادي؛ ولكنها إرادة لمرة واحدة. لكن هذا التصور يجد نقيضه في فلسفة جون لوك السياسية، التي تعتبر أن السلطة الناتجة عن العقد هي سلطة محدودة، نتيجة استنباطها من حالة طبيعية تتدبّر ذاتها من دون دولة، وإن كان المجتمع المدني، أي الدولة، هو الوسيلة الوحيدة لقَوْنَنَةِ هذه الحالة وضمان الحفاظ عليها، فخاصية المجتمع السياسي الأساسية هي سن القوانين وتفسيرها وتطبيقها عينيًا، وهو الأمر الغائب في حالة الطبيعة التي تتميز بأنها حالة غير سياسية حسب جون لوك.

وبالتالي، فإن ما يُرسيه لوك بحسب عزمي بشارة هو نسبية السلطة من ناحية، وأولوية حقوق المواطن الفرد المتعاقد من ناحية أخرى. مما يعني أن الدولة غير توليتارية واستُحدثت أساسًا لمنع حالة الاستثناء التي هي الحرب. ولعلّ تصور جون لوك هذا هو ما سمح -حسب بشارة- بتطور أوتوبيات معادية للسياسة، تتصور إمكانية قيام مجتمع مدني بديل من الدولة وخارج عنها كما في حالة توماس بين (1737 – 1809). لكن هذا التقليد الذي يؤسس لمواطنة تعاقدية في ظل دولة غير توليتارية على النمط الهوبزي يتصل مباشرة بفيلسوف النهضة جان بودان (1530 – 1596) الذي أسس لفكرة المواطنة العامة والمتساوية في إطار بلورته لمفهوم السيادة، وقد شكّلت فكرته حول المواطنة العامة تهديدًا حقيقيًا لامتيازات الإكليروس ورجالات الطبقات الذين سيجدون لاحقًا من يدافع عن امتيازاتهم عندما وضع مونتسكيو (1689 – 1755) تصوره للمجتمع المدني وتوازن السلطات.

ويعتبر عزمي بشارة أن فلسفة مونتسكيو جاءت موازنة لتلك النزعات التي تميل إلى تهميش السياسي وابتلاع الدولة من قبل المجتمع، فتصور مونتسكيو للمجتمع المدني ليس تصورًا لمجتمع مستقل عن الدولة، أو للدولة وحدها كما عند هوبز، وإنما هو «تصور لتوازن بين السلطة/الدولة ومؤسسات اجتماعية سياسية، وهذا التوازن هو الذي يجعل حكم القانون ممكنًا»، وتصور مونتسكيو هذا يجعل للمجتمع المدني، حسب عزمي بشارة، وظيفة خارج السلطة، ولكن في توازن معها، وفي إطار حكم القانون.

ما يمكن استخلاصه من لحظة الحداثة الأولى هو أن الدولة والمجتمع المدني وجهان لعملة واحدة هي المجتمع السياسي، وإن اختلفت التصورات بين من يراه مجتمعًا توتاليتاريًا على غرار هوبز، وبين من يراه مجتمعًا ليبراليًا مثل جون لوك. لكن النقلة الأساسية التي جاءت بها لحظة الحداثة الأولى تمثلت في تأسيس هذا الاجتماع السياسي على مقتضيات الإرادة الحرة الواعية للأفراد في شكل تعاقد اجتماعي، حرّر الحكم من الحق الإلهي والمجتمع من التصور الطبيعي اللاسياسي.


الحداثة الثانية: انفصال المجتمع المدني عن الدولة

ههنا، تبرز تقاليد معرفية جديدة أكثر جدلية في التعاطي مع علاقة الدولة بالمجتمع المدني نظرًا للتمايز الذي بدأ يحصل في الواقع بين مجال عمل الدولة، والمجال العام الحر الذي تغيب فيه سيطرتها. ويستعرض عزمي بشارة في هذه اللحظة ثلاث حالات، عبْر كل من هيجل وماركس وتوكفيل، تُعبّر جميعها عن ذلك الانفصال، وإن كان بطرق مختلفة في الفهم والغاية.

خلافًا لفكر الحداثة الأولى وفلسفة العقد الاجتماعي بشكل خاص، لا يُنشئ التعاقد دولة عند هيجل، وإنما يُنشئ مجتمعًا مدنيًا، وبهذا تتميز فكرة المجتمع المدني لأول مرة عن الدولة حسب عزمي بشارة. إن المجتمع المدني عند هيجل مرتبط بآونة الفردية، فهو في مقابل الأسرة الوشائجية نتاج رؤية الأفراد أحرارًا، إنه تجسيد للحرية الذاتية التي يعتبرها هيجل الانعطافة التي ميّزت بين الأزمنة القديمة والحداثة.

لكنّ هذا الحيز المُتَّسِم بالعمومية، والمكوّن من جماعات ذات معنى، لا يمثل غاية في حد ذاته عند هيجل، بقدر ما يمثل ضرورة في الطريق النظري المؤدي إلى إنتاج مفهوم الدولة. لأن حقيقة المجتمع المدني هي حقيقة أنانية وصراعية بالنسبة لهيجل، ولذلك فهي مرتبطة بالإفقار والاغتراب أيضًا الذي لا يمكن تجاوزه إلا في آونة الدولة. لكن المفهوم الذي يحدده هيجل للدولة بهذا المعنى لا ينفي أو لا يطرد من أفقه الفرد وحريته وحقه في التعاقد، بمعنى أنه لا يتنازل عن هذه القيم التي كانت العلامة الفارقة لعصرنا الحديث. ولعل ذلك هو ما جعل كثيرين يصفون هيجل بأبي الفكر الليبرالي.

أما بالنسبة لماركس، فالمجتمع المدني هو المجتمع البرجوازي الذي يجسّد الاستغلال الطبقي. ولا يقبل ماركس التوسط الذي تدّعيه الجماعات الطوعية بين الفرد والدولة، وكأنه بذلك يؤسس لفكرة ذوبان المجتمع المدني في الدولة أو العكس، لكن ماركس -حسب عزمي بشارة- يظل وفيًا لمفاهيم هيجل لكنه يقف ضد تطبيقاتها في الواقع البرجوازي المعيش. ومن هنا يأخذ مفهوم الصراع معناه ومفعوله ودوره في عملية التغيير التي تستهدف بناء «المجتمع الإنساني» الذي نظّر له ماركس الشاب، والذي بتحققه يزول الفرق بين «المجتمع المدني والدولة والفرق بين الإنسان والمواطن»[1]، الأمر الذي يجسد في النهاية حقيقة تحرر الإنسانية.

في تقليد آخر من تقاليد الحداثة الثانية، يشدّد ألكسيس دو توكفيل على الفصل بين الدولة وما نسميه اليوم مجتمعًا مدنيًا، حافزه في ذلك حسب بشارة حماية الديمقراطية القائمة حينها في أمريكا عبر تقديم حلول للمشاكل التي تتولد من النظام الديمقراطي بالذات. وعلى وجه الخصوص، حماية تلك الديمقراطية من نموذج وتقليد آخر، هو الأرستقراطية التي تنتمي -حسب دو توكفيل- إلى عصور ما قبل الحداثة. والأرستقراطية -حسب دو توكفيل- هي «نسق ثنائي انفصامي بين أقلية ذات امتيازات وشعب موجود خارج دائرة الامتيازات»[2]، وعلى المجتمع المدني، المكوّن -حسبه- من روابط وجمعيات طوعية، أن يقوم بحماية الحالة الديمقراطية من الانزلاق في ذلك المطب، وأن يعمل على توسيع حقوق المواطنة للأفراد، ويحميها من أي تغول محتمل من الدولة ذاتها.

وبتجسّد هذه القيم غربيًا، زالت الحاجة نظريًا إلى مفهوم المجتمع المدني الذي توارى عن الأنظار كمفهوم، وأفسح المجال للسوق التي باتت تعني كل ما ليس دولة، قبل أن يتم استعادة المفهوم من جديد مع جرامشي، ويعود كمفهوم تحليلي ومعياري بشكل بارز مع ثورات أوروبا الشرقية مطلع ونهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

هكذا نكون قد وقفنا على جانب من تاريخية هذا المفهوم وتمفصلاته في علاقته بالدولة، من حالة المطابقة إلى حالة المفاصلة، ثم العودة إليها والانفصال عنها، في جدلية تجد مضمونها ومعناها، حسب عزمي بشارة، في الدمقرطة بما هي سيرورة بناء وترميم للنموذج مستمرة. ويمكن للاطلاع بشكل مفصل على هذه العملية الطويلة لعلاقة المجتمع المدني بالدولة الرجوع إلى الفصلين الثاني والثالث من كتاب عزمي بشارة «المجتمع المدني: دراسة نقدية». ففيهما من التفصيل ما لم تتسع له حدود هذا المقال.


[1] عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 2008، ص 158.[2] نفس المرجع، ص 189.