هناك في بلدة الناصرة، حيث نشأ كغيره من الأطفال في حقبة الستينات من القرن الماضي، يشعر بالهزيمة والعزلة عن محيطه العربي ويرى الآلاف يُجرى تهجيرهم من بلدانهم، ولا يجدون من أفق سوى الحصار المهيمن على أرجاء البلدة.

وفي وسط مشاعر الخيبة والإحباط، وعلى حين غرة ظهر هذا الصوت من الخارج والذي أنصت إليه الناس يدوي من المذياع الصغير الوحيد في قراهم التي لم تصل إلى أغلبها الكهرباء، وقال الصوت القوي «إننا جزء من أمة قوية وعظيمة من المحيط إلى الخليج»، وفجأة بُثت في النفوس يقين بأنهم ليسوا ذاك الطفل المضروب المسكين، بل أن لديهم أخًا كبيرًا زعيمًا لمصر يُدعى جمال عبد الناصر يمكن الاعتماد عليه، تخافه إسرائيل خوفًا شديدًا.

وهكذا تماثل الصبي مع شخصية «ناصر» وأقواله،واعتبره نوعًا من «صلاح الدين الأيوبي»، ليصبح قوميًا عربيًا ناصريًا، كما يحب أن يصف نفسه دائمًا.

إنه الباحث والكاتب والمفكر والأديب «عزمي بشارة»، ظاهرةٌ تستعصي على الوصف، فهو المفكر العربي والمثقف الرحال، ذلك الأكاديمي المتأدب الذي تحوّل من اليسارية إلى القومية، مارًا بأروقة الكنيست الإسرائيلي، وطائفًا بالفضائيات العربية، وهو يلاحق الآن خارج الوطن بتهمة هي الأخطر على سلم التهم الأمنية في إسرائيل، فكانت مسيرته انعكاسًا لتناقضات معالم المرحلة المستولدة من رحم نكسة 1967، وكامب ديفيد، واتفاقات أوسلو، وأجمل تلك التناقضات في إحدى لقاءاته حينما قال:

عندما كنتُ أكتبُ مقالاً أسبوعيًا كنت أُنتجُ كتبًا، وأعمل في مؤسساتٍ عديدة (حزبيةٍ وغير حزبية)، وأنشطُ برلمانيًا، كما أن علاقاتي المتعددة بعوالمَ متباينةٍ غيرِ متواصلةٍ بالضرورة جعلت حياتي مليئة بالتعقيدات.

سنوات الشباب الباكرة وانغماسه في العمل السياسي

فمن بلدة «ترشيحا المحتلة» عام 1956، وُلد عزمي بشارة في عائلة عربية مسيحية، وبرز نشاطه جليًا منذ دراسته الثانوية، حيث اُنتخب عام 1974 رئيسًا لمجلس الطلاب، كما ساهم في تأسيس «اللجنة القطرية للثانويين العرب»، وبانتقاله إلى المرحلة الجامعية، درس في الجامعة العبرية بالقدس عام 1977، وساهم في تأسيس اتحاد الطلاب الجامعيين العرب وكان رئيسه الأول، مما كان مؤذنًا بظهور معالم رجل سياسي سيكون له باع كبير في الشأن الفلسطيني والعربي.

في السابعة عشرة من عمره، انضم إلى الحزب الشيوعي بشكلٍ يكاد يكون طبيعيًا من البيت، باعتبار والده ناشطًا شيوعيًا، وبحلول أواخر ثمانينات القرن الماضي، تعرضت مسيرة بشارة السياسية لهزات عنيفة تواكبت مع تراجع مسيرة اليسار إثر تفكك منظومة الاتحاد السوفييتي، وفي خضم تلك التطورات، غادر عزمي بشارة صفوف الحزب الشيوعي عام 1987، وعلق على تلك المرحلة قائلًا: “وصلتُ إلى قناعةٍ عميقة؛ وهي أن الفرق بين النظام الشيوعي والأنظمة الشمولية الأخرى ضئيل، إنه فرق في القيم الأصلية التي تآكلتْ، لا في الممارسة”.

ومع تنامي الشعور القومي واتساع نفوذه، وفي التسعينيات من القرن العشرين، استحضر المفكر السياسي بشارة صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المعلقة على مكتبه في «الناصرة»، مستلهمًا فكره القومي، فبدأت تظهر في كتاباته التحول نحو القومية العربية، مع اعترافه بالدولة الإسرائيلية المقامة على أنقاض الأراضي الفلسطينية.

ومن أعماله: «المجتمع المدني: دراسة نقدية»، «في المسألة العربية: مقدمة لبيان عربي ديمقراطي»، «أن تكون عربيًا في أيامنا»، «الدين والعلمانية في سياق تاريخي»، كما شارك في تأسيس مؤسسات أكاديمية ومراكز ثقافية للحفاظ على الهوية العربية وتطويرها تحت الاحتلال ومن هذه المؤسسات: «جمعية الثقافة العربية» في الناصرة، «مؤسسة مدى للبحوث الاجتماعية التطبيقية»، و«مؤسسة مواطن لدراسة الديمقراطية»… وغيرها.


الكنيست و«الاغتراب الهائل»

عزمي بشارة في مقابلة أجراها الملحق الأسبوعي لصحيفة هآرتس

بتلك العبارات وصف المفكر الفلسطيني فترة حياته داخل أروقة البرلمان الإسرائيلي، كما كشف عن تردده الطويل قبل قسم الولاء بالكنيست والذي تضمن مقولة «مخلص لدولة إسرائيل وقوانينها» قبل أن يقرر بألا يتملص، وأن هذا ثمن يجب دفعه إذا كان يريد المساواة وأن تتسع تلك الديمقراطية لتشمله باعتبار ذلك اعتراف بالعرب كأقلية قومية، ليشكل صوت القومية العربية، يصدع بحقوقهم ومطالبهم داخل المجلس النيابي الإسرائيلي.

يُعتبر الكنيست الإسرائيلي مرحلة جديدة من مسيرة المفكر السياسي بشارة، ففي عام 1995 شارك عزمي بشارة في تأسيس «التجمع الوطني الديمقراطي»، وانتخب عضوًا للكنيست عام 1996، ثم أعيد انتخابه عامي 1999 و2003.

ولم تمضِ أيام الكنيست بسلام، فقد شهد تحول كبير في حياة المفكر القومي، حيث فوجئ في ربيع عام 2007، بخريف أنهى سنوات بشارة البرلمانية، واضطره إلى إعلان استقالته من الكنسيت، أعقبها إصدار الشرطة الإسرائيلية أمر اعتقال دولي بحقه حيث كان خارج البلاد، أعقبها تصريح من بشارة بأنه قرر عدم العودة إلى إسرائيل في المدى المنظور.

وقد وجهت الشرطة الإسرائيلية إلى بشارة اتهامات، منها «الاتصال بحزب الله وتسريب معلومات له خلال الحرب على لبنان صيف 2006، واستلام آلاف الدولارات من حزب الله ومن دول أجنبية، وخيانة دولة إسرائيل»، وهي التهم التي من شأنها فرض عقوبة تصل للسجن المؤبد.


«المنفى» وما بعد فلسطين

توجه عزمي بشارة إلى الدوحة، وأسندت إليه مسؤولية مؤسسة إعلامية، فأصبح مدير «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، وعضو مجلس الإدارة في المركز، كما ساهم في تأسيس مراكز بحثية في فلسطين، منها: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، ومركز مدى الكرمل للدراسات الاجتماعية التطبيقية.

وفي تلك الفترة برزت مساهماته الفكرية حول القومية، حيث أوضح أن حل القضية الفلسطينية يكمن في أنْ تكون الدولة ديمقراطية علمانية لجميع المواطنين، ما يتطلب تفكيك الصهيونية، مع رفض الاندماج، والإصرار على الهوية القومية، وأن يُترك للعرب في الداخل انتخاب قياداتهم.

ويلخص بشارة رؤيته للدولة ثنائية القومية بقوله في حواره مع مجلة «الآداب» الصادرة في بيروت: «إن آفاق المستقبل مفتوحة، وإسرائيل هي التي يجب أن تقلق من المستقبل، إذ لا يمكن الحفاظ على نظام أبارتهايد في القرن الواحد والعشرين، إذا ما استنزفت إسرائيل الخيار القومي للفلسطينيين، فلن يكون نظام الفصل العنصري بديلاً عنه، بل الكيان الثنائي القومي».

وبمجيء شتاء 2011، بدا مدير المركز العربي لدراسات السياسات كأنه فيلسوف الربيع العربي كما ظهر ذلك في كتاباته وأحاديثه التلفزيونية، فهو داعية الديمقراطية التي اندلعت في سبيلها الثورات، ومحلل الأوضاع السياسية العربية التي تحيط بها.


سهام الهجوم العنيف: «الربيع العربي كلمة السر»

شعرت بالتناقض خلال عملي في الكنيست، أنا مفعم بالتقدير للكنيست إذ يجري هنا عمل برلماني مدهش لكن من جهة أخرى فإن اغترابي هائل، ذلك بأن كل شيء هنا غارق في هذه الرمزية اليهودية التي تنبذني خارجها؛ آيات من التوراة وصورة هيرتسل وأحيانًا في الجلسات الاحتفالية أجد نفسي مضطرًا إلى أن أتمسك بالطاولة كي أنفجر وأصرخ وإلى أن أتمالك رباطة جأشي.

منذ ثورات عام 2011، ركزت بعض الدوائر الأمنية والمخابراتية هجومها المنسق على الدكتور عزمي بشارة، وجندت لهجماتها بعض وسائل الإعلام والصحافيين، وأفردت لها مساحات شاسعة في تلك الوسائل. يُرجع البعض السر وراء ذلك إلى أن الرجل غزير الإنتاج فكريًا، ومثقف منغمس في قضايا الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وصاحب شخصية وخطاب مؤثرين على الرأي العام، وبالأخص جيل الشباب.

ومن أبرز الانتقادات التي توجه إلى عزمي بشارة أنه اختزل أفق النضال الفلسطيني إلى مجرد المساواة بين الأقلية من عرب 48 والأكثرية الإسرائيلية. ويرى معارضوه كذلك أن أهمية المناضلين تكمن من الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني من الأرض المحتلة، وليس خارجها، منتقدين تقربه من النظام القطري وسعيه الدائم إلى الوصول إلى الفضائيات جاعلًا من أفكاره أداة لتحقيق حلم «النجومية الإعلامية».

وفي وسط كل الانتقادات بهروبه من أرضه واختياره النفي الطوعي سعيًا إلى التنقل في الأوساط العربية، صاغ المفكر القومي «عزمي بشارة» مفهومًا للوطن، يلخص جميع مستجدات حياته والتناقضات التي اعترتها، حينما قال في أحد أحاديثه الصحفية:

إن مفهومي للوطن أوسَع، وإنّ عناءَ المنفى، في حالتي كعربي وكفلسطيني وكمثقّف، هو وطنٌ أيضًا.