تعد الهند من البلدان القليلة التي ما تزال تعتبر نفسها رسميًّا دولة «اشتراكية»، إذ ينص دستورها في مطلع ديباجته على ذلك، بالرغم من أنها من أكثر دول العالم تمسكًا بالتقاليد الطبقية الراسخة منذ القدم، على عكس الاشتراكية التي من أهم مبادئها «المساواة» وإلغاء التقسيم الطبقي في المجتمع.

وقد قطعت الهند خطوات دستورية وقانونية كثيرة في هذا المسار، لكنها لم تكن فعالة نظرًا لعدم مواكبة الممارسة العملية لهذه الجهود النظرية؛ فالهندوسية التي تعتنقها الأغلبية تنص على تقسيم المجتمع لأربع طبقات، وهو تقسيم ما زال معمولًا به إلى حد كبير إلى اليوم.

 وعلى سبيل المثال تعاني طائفة الداليت المنبوذة البالغ عددها قرابة الربع المليار، من الحرمان من المرافق الأساسية كالمياه النظيفة أو الحق في العمل والسكن المناسب والتعليم لأنها خارج الطبقات الأربع؛ حتى إن نصيبهم من الثروة يكاد يكون معدومًا، وما زالت التقاليد المجتمعية تطالبهم بخلع أحذيتهم في بعض الأحيان عندما يقابلون إخوانهم البشر من طبقات عليا، ويعد مجرد المرور من أحياء هذه الطبقات جريمة تهدد حياة مقترفيها أحيانًا، وفعليًّا تضمن السلطة القضائية التي يهيمن عليها البراهمة (أعلى الطبقات الهندوسية) حماية هذه التقاليد بشكل كبير.

وبالرغم من تبني الهند الرسمي للاشتراكية منذ وقت مبكر، إلا أن إحصاءات عام 2017 كشفت أن 73 في المائة من الثروة المكتسبة في البلاد من نصيب واحد في المائة فقط من المواطنين، وهو تفاوت لا يحدث في أعتى الدول الرأسمالية.

وتمثل التفاوتات المادية انعكاسًا للفروق الطبقية، وإن كان بشكل غير دقيق، لكن التقسيم الهندوسي مسئول بشكل لا يمكن إنكاره عن ذلك، فليس مصادفة أن يمتلك 22.3 في المائة فقط من الطبقة الهندوسية العليا 41 في المائة من إجمالي الثروة الوطنية، مع أن نسبتهم لا تتعدى 5 في المائة من السكان.

اشتراكية حزب المؤتمر

تبنى جواهر لال نهرو (1950-1964) أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، نهجًا اشتراكيًّا؛ فأمم بنوكًا عديدة وفرض قيودًا على الواردات والاستثمارات الأجنبية، لحماية الشركات الوطنية، والتزمت الحكومة بتسعير السلع، لكن اشتراكية حزب المؤتمر فشلت في تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان الذين يتزايدون باستمرار رغم أن متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للهند منذ تأسيسها في عام 1947 حتى السبعينيات بلغ حوالي 3.5 في المائة، وهي نسبة غير قليلة، لكن بحلول نهاية الولاية الأولى لإنديرا غاندي (1966- 1977) التي سارت على نفس النهج، كان أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر.

وفي خضم أزمتها مع المعارضة دفعت رئيسة الوزراء إنديرا غاندي أجندتها السياسية إلى اليسار وعدلت الدستور لينص على أن الهند دولة اشتراكية، وخلال ولايتها الثانية (1980-1984) حاولت -ببطء شديد- معالجة اختلالات الاقتصاد حتى اغتيالها عام 1984، ليتولى مكانها ابنها راجيف (1984-1989) ويبدأ في التخفف بالتدريج من العبء الاشتراكي، ويرفع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى نسبة 5.5 في المائة.

وبصفة عامة فإنه على مدى أربعين عامًا ، على الرغم من أن البلاد تبنت نهج عدم الانحياز لكنها مالت نحو الاشتراكية، وبحلول مطلع التسعينيات سقط المعسكر الشرقي، ووجدت نيودلهي نفسها في ورطة اقتصادية كبيرة في ظل شح النقد الأجنبي، وارتفاع التضخم وترهل القطاع الصناعي، وأثبتت الدولة عجزها عن إدارة الاقتصاد الموجه، والحفاظ على بيروقراطية مركزية تتماشى مع الأنظمة اللامركزية في البلاد.

تحولت الوجهة نحو اقتصاد السوق، وتدفقت الاستثمارات الأجنبية وتمت خصخصة شركات عديدة مملوكة للدولة، وأجريت سلسلة من الإصلاحات الرأسمالية خلال أكثر من عقدين جعلت الهند من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وشهدت «عقدًا ذهبيًّا» من النمو بين عامي 2002 و 2012، بلغ فيه متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي أكثر من ثمانية في المائة سنويًّا، ونمت الطبقة الوسطى بشكل كبير نتيجة لذلك.

وكان من المثير ظهور وجهات نظر اعتبرت أنه رغم فشل النموذج الاشتراكي فإنه لم يكن ممكنًا تحقيق هذه النهضة الرأسمالية لولا سياسات نهرو الحمائية التي حمت الصناعات المحلية الناشئة آنذاك من المنافسة الخارجية حتى نهضت على قدميها لاحقًا، وأن الأحزاب الشيوعية في الهند كانت تدرك من البداية أن ما يفعله نهرو يصب في صالح مساعدة الطبقة الرأسمالية المحلية الوليدة على النمو ولذلك عارضته.

رأسمالية المحسوبية

وسط هذا الزخم الكبير للرأسمالية جاء حزب بهاراتيا جاناتا اليميني المتطرف إلى السلطة عام 2014 بشعارات تتمحور حول تحرير الأسواق والاتجاه لمزيد من النيوليبرالية بشكل عام، وأجندة تدغدع مشاعر الفخر القومي، تطمح لجعل البلاد القوة العظمى الأولى في العالم أو ما يُعرف بحلم الـ«فيشواجورو».

لكن ما حدث أن الاقتصاد بدلًا من مواصلة الصعود كما تُوقع له، بدأ ينحدر منذ عام 2016 حتى وصل إلى 4.2 في المائة في عام 2019، مما وضع حكومة مودي اليمينية في ورطة كبيرة.

ورغم الخطاب الدعائي المدوي الذي صور رئيس الوزراء اليميني ناريندرا مودي، وكأنه مخترع الرأسمالية الهندية ومقارنته برئيسة الوزراء البريطانية الراحلة، مارجريت تاتشر، التي غيرت عقلية بلادها الاقتصادية، حتى إن البعض انتخبه طلبًا لعقلية حديثة مماثلة في الهند، فإن الحقيقة أن البلاد كان لديها دائمًا قطاع خاص قوي منذ عصر نهرو، كما لا يزال حجم القطاع العام ضخمًا حتى اليوم، بما في ذلك القطاع العام الصناعي، وبالتالي فإنه من التعسُّف الافتراض أن البلاد تحولت بشكل كلي وسحري لتتبنى النيوليبرالية بشكل تام، رغم الخطوات الكثيرة التي خطتها في هذا الاتجاه.

فعلى عكس تاتشر النيوليبرالية، يؤمن مودي بإحياء وحدات القطاع العام الخاسرة بدلًا من خصخصتها، وحافظت حكومته على سياسة التحكم في الأسعار، وفرض التعريفات الجمركية الحمائية، اتساقًا مع رؤية منظمة سواديشي جاجران مانش القومية (SJM)، الذراع الاقتصادية لحركة RSS التي خرج الحزب الحاكم من رحمها، وقد انعكست فلسفتها في الرؤية التي أعلنها مودي تحت اسم «الهند المعتمدة على نفسها» (Atmanirbhar Bharat).

وفي ظل استشراء الفساد البيروقراطي والمحسوبية بشكل مذهل بشكل يقضي على تكافؤ الفرص والأسواق التنافسية؛ شكا مجموعة من كبار رجال الأعمال إلى رئيس الوزراء مودي، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، من أنه بات يتعين عليهم بشكل عرفي دفع 40 في المائة من تكلفة المشروعات كرشاوى للمسئولين والوزراء، مما حدا بالمراقبين لوصف هذا النظام بأنه ليس نيوليبراليًّا بقدر ما يمكن وصفه بأنه يمثل «رأسمالية المحسوبية» (crony capitalism) حيث تعتمد شركات القطاع الخاص على علاقاتها مع مسئولي الحكومة، وتقر الدولة سياسات مؤيدة للأعمال التجارية تهدف إلى تفضيل شركات مختارة، وتتدخل في عمل الشركات الأجنبية تحت ضغط الجماعات الهندوسية اليمينية مثل شركة مونسانتو الأمريكية للبذور المعدلة وراثيًّا؛ التي جعلتها الحكومة اليمينية عبرة للشركات الأجنبية، وكذلك فرض الضرائب بأثر رجعي ضد هذه الشركات الأجنبية كما حدث مع فودافون، ناهيك عن مشروعات حماية الأبقار التي أثرت سلبًا على قطاع الألبان وصادرات الجلود، وكل هذا بعيد كل البعد عن النيوليبرالية، بل هي سلوكيات شعبوية يمينية متطرفة.

وهو ما ظهر جليًا خلال أزمة فيروس كورونا، حين عمدت الحكومة إلى التهوين من خطر الجائحة، وشجعت الاحتفالات والتجمعات الهندوسية الضخمة حتى تفشى الوباء، ثم فـُرض الإغلاق المفاجئ، ففقد الملايين وظائفهم، وأمر رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، المواطنين بقرع الصحون لطرد الفيروس اللعين، ثم إشعال الأنوار في لحظةٍ محددة لنفس السبب! بينما كان توزيع اللقاح بطيئًا للغاية، على الرغم من أن الهند تعتبر أكبر بلد منتج للقاحات كورونا في العالم.

وواجهت حكومة اليمين المتطرف عقبة جديدة أمام محاولاتها لتحرير القطاع الزراعي أثبتت أن وصفاتها الاقتصادية بحاجة للمراجعة، عندما رفعت الدعم عن المزارعين وتركتهم تحت رحمة الشركات، فنظم عشرات الآلاف من المزارعين احتجاجات صاخبة في يناير/ كانون الثاني 2021، ونظموا مسيرة بالجرارات وتوجهوا إلى دلهي واشتبكوا مع الشرطة، وتوترت الأوضاع حتى رضخت الحكومة وألغت القوانين التي جاءت في وقت يعاني القطاع الزراعي فيه من أزمة كبيرة تسببت في تزايد معدلات انتحار المزارعين مع تراكم الديون وانخفاض الدخل.

وقد ساهمت القوانين الزراعية الفاشلة في تشكيل معارضة شعبية كبيرة للسياسات الاقتصادية لحكومة اليمين، واصطفت المعارضة بزعامة حزب المؤتمر الشعبي إلى اليسار في ظل تزايد النقمة على مودي بسبب ارتفاع الأسعار وتفاقم مشكلة البطالة، بينما تستمر الحكومة في سياسة الخصخصة وتقديم تخفيضات ضريبية لشركات القطاع الخاص الكبيرة، مما جعل المعارضة تتهم الحكومة بأنها تعد الميزانية الوطنية لخدمة أغنياء يمثلون واحد في المائة من المواطنين ويمتلكون 73 في المائة من الثروة.

وأمام إخفاقاته الاقتصادية عاد مودي إلى اختصاصه الأساسي وهو الشحن الطائفي، فالجدل حول الاشتراكية والرأسمالية لم يعد نقاشًا حول السياسات الاقتصادية، بل حول «الهويات الدينية والطبقية»، ووجه اليمين الاتهام إلى حزب المؤتمر بأنه حزب سلالي، لأن جواهر لال نهرو ينحدر من طبقة البراهمة، وبالتالي فإن حكم ابنته إنديرا، وحفيده راجيف، وأبناءهم من قادة حزب المؤتمر حاليًّا راهول وبريانكا يمثلون الأقلية المتحكمة في الأغلبية، في مقابل اليمين الذي يفسح في المجال لأبناء الطبقات الهندوسية الأخرى.

وكذلك أيضًا تم النظر إلى أسرة نهرو كنموذج على النخبة المتغربة التي تتحدث وتفكر بالإنجليزية بينما هي بعيدة كل البعد عن أوجاع الوطن وهمومه، وعزز تلك النظرة وجود أرملة راجيف غاندي الإيطالية، سونيا، على رأس حزب المؤتمر الوطني، وأصبح مشروع «تفكيك حكم السلالة» مرادفًا لمناهضة «الماركسية الثقافية»، حيث تم اعتبار الاشتراكية فكرة مستوردة خارجة عن طابع المزاج التاريخي للبلاد التي لها إرث من التقاليد العريقة في تشجيع الأسواق وتعزيزها؛ إذ كان التاجر منذ العصور القديمة عضوًا محترمًا في المجتمع، باعتباره ينتمي إلى الطبقة الثالثة في التسلسل الهرمي الاجتماعي المعروفة باسم «فايشيا»، والتي ينتمي إليها الكثير من مليارديرات الهند اليوم.

الطائفية غطاء الاستغلال الاقتصادي

لجأ مودي إلى الورقة القومية بعدما وجد أنه ليس لديه الكثير من الإنجازات الكبيرة ليتحدث عنها رغم امتلاك البلاد إمكانات اقتصادية هائلة وتوفر فرص نمو واعدة، فتبنت المنابر اليمينية سردًا مفاده أن التنمية تعثرت لأن أبناء الأقلية المسلمة يأكلون ثمار التقدم التي ينبغي أن تعود على الهندوس، وتشبيههم بـ «النمل الأبيض» الذي يأكل موارد الدولة، وأن الأزمة المصاحبة لانتشار فيروس كورونا نشأت ليس بسبب تأخر استجابة الحكومة، بل لأن المسلمين نشروا الفيروس بين الهندوس، وأن البطالة انتشرت لأن المسلمين استولوا على الوظائف ووظفوا أقاربهم وأصدقاءهم.

 وبدأ المتعصبون المرتبطون بحزب بهاراتيا جاناتا ينظمون حملات عامة لمقاطعة المسلمين، ويحذرون المتاجر من توظيفهم، ويضربون الباعة الذين يدخلون إلى أحياء غالبيتها هندوس، وساعدت هذه الحملات العنصرية حكومة مودي في تجنب المساءلة الشعبية بشكل كبير وتحويل الانتخابات إلى ما يشبه استفتاء على بقاء الأغلبية الهندوسية (نسبتهم 80 في المائة) التي ترزح تحت التهديد الإسلامي المفترض.

وبينما يتحدث مودي ببلاغة في المنتديات العالمية حول الحاجة إلى «التفكير العقلاني» لمواجهة التطرف، تشهد بلاده حملات فوضوية تستهدف تجارة اللحوم الحلال والجلود، وصلت إلى استيلاء الغوغاء على ماشية بعض المواطنين، وانتشرت الحملات عبر الإنترنت التي تدعو الهندوس لمقاومة «الجهاد الاقتصادي» المتمثل في تجارة اللحوم المذبوحة على الشريعة الإسلامية، متجاهلين عمل الكثيرين من أنصار حزب بهاراتيا جاناتا في مجال اللحوم والأغذية الحلال، وهي صناعة تبلغ قيمتها 1.3 تريليون دولار في الهند، التي تعد ثاني أكبر مصدر للمنتجات الغذائية الحلال لدول منظمة التعاون الإسلامي بعد البرازيل، بإجمالي صادرات سنوية بقيمة 14.2 مليار دولار.

 وقد تحدى القيادي بحزب المؤتمر والوزير السابق، بريانك كارج، اليمينيين لإثبات وإظهار حب الوطن كما يزعمون من خلال إيقاف أعمالهم المرتبطة بتلك التجارة، وفي وقت سابق من أبريل/نيسان الجاري عَرَض بريانك قائمة تضم أكبر الشركات التجارية التي تصدر المنتجات الغذائية الحلال إلى العديد من البلدان، خاصة دول الخليج العربي، مبينًا أن سبب وقوع الحزب اليميني الحاكم في هذا التناقض أنه «ليس لديه أي إنجازات لإظهارها لذا يثير قضايا مجتمعية لاستقطاب الناخبين على أسس دينية والسعي للحصول على أصوات الأغلبية».