دأب الخلفاء والسلاطين على تنظيم موائد للعامة والخاصة في شهر  رمضان، سميت «الأسمطة»، ورغم البعد الديني لها فإن الأمر لم يخلُ من أهداف سياسية، أبرزها تكريس الشرعية، وتوصيل رسائل للأعداء تبرز قوة الدولة.

موائد للعامة والخاصة

تذكر فوزية عبداللطيف شحادة في كتابها «فن الطبخ والموائد في العصر العباسي»، أن الخلفاء والأمراء والوزراء كانوا يعدّون السخاء على العامة والخاصة فرضًا يجب تأديته، فكانوا يسترضونهم بالدعوة إلى الموائد، بخاصة في شهر رمضان، فيجتمعون على مائدة الأمير أو الخليفة يأكلون معًا، وهذا الأمر كان سائدًا في العصور الإسلامية الأولى، ولكنهم بالغوا فيها في العصر العباسي حتى إنهم نصبوا الموائد على الطرق، كما فعل عبيدالله بن العباس ابن أول خليفة عباسي.

وكانت الموائد العامة التي كان يقيمها الخلفاء والأمراء العباسيون مدعاة للفخر عند كثير منهم، إذ كانت تضم بين جنباتها أطباقًا وأشكالًا وأصنافًا مختلفة من الأطعمة والفواكه، منها ما هو معروف ومشهور بين الناس، ومنها ما هو غريب وجديد لم يكن معروفا ومشتهرا بينهم، بل جاءت وصفاته من أماكن بعيدة وثقافات مناطق جديدة افتتحها العرب والمسلمون في ذلك الزمان، بحسب الدكتور مؤيد إبراهيم محمد حسن في دراسته «المآدب العامة في العصر العباسي».

كما كان يدعى إلى تلك المآكل والمآدب فئات متعددة من الناس منهم ما هو مقرب إلى الخلفاء كالوزراء والولاة والقادة العسكريين والكتاب والشعراء، إذ كانت تقيم لهم مآدب ومآكل خاصة، إضافة إلى العامة من أبناء الشعب، التي كانت تقيم لهم وجبات المأكل العامة وفي أوقات ومناسبات مختلفة.

دور الضيافة الرمضانية

وصل اهتمام خلفاء العصر العباسي بموائد شهر رمضان إلى إنشاء دور خاصة تعتني بها سميت «دور الضيافة الرمضانية»، وذلك في عهد الخليفة الناصر لدين الله. ويذكر محمد عبدالله القدحات في دراسته «دور الضيافة في العصر العباسي 132- 656هـ/ 749- 1258م»، أنه رغم أن الدافع الديني وراء حرص واهتمام الخلفاء بإنشاء تلك الدور طلباً للأجر والثواب، إلا أن الدافع السياسي كان واضحاً، فقد كان إنشاء هذه الدور جزءًا من الإطار العام لسياسة الناصر لدين الله، والهادفة إلى إحياء الخلافة العباسية من جديد بعد تسلط العناصر الأجنبية، مثل آل بويه، والسلاجقة، وكانت المناسبات الدينية، ومنها شهر رمضان، فرصة لتحقيق هذه السياسية، إذ يستطيع الخليفة من خلالها إبراز عظمة الدولة وقدرتها على استعادتها لمقدراتها.

وتعود بداية ظهور دور الضيافة الرمضانية إلى عام 604هـ/ 1207م، فقد أشار عز الدين أبو الحسن ابن الأثير في حوادث تلك السنة بكتابه «الكامل في التاريخ»، إلى أن الخليفة أمر في شهر رمضان ببناء دور في مناطق ببغداد ليفطر فيها الفقراء، وسميت «دور الضيافة»، وكان يُطبخ فيها اللحم الضأن والخبز الجيد، وجعل في كل دار من يوثق بأمانته، وكان يُعطى كل إنسان قدحًا من الطبيخ واللحم والخبز، فكان يفطر في كل ليلة عدد كبير جدًا من الناس.

ويبدأ الإعداد لتجهيز تلك الدور في غرة رمضان من كل عام، حيث توزع ما تحتاج إليه تلك الدور من المؤن، وهو ما عرف بـ«الوظيفة الرمضانية»، إذ جرت العادة في كل عام أنه إذا اقترب شهر الصيام صدرت الأوامر بتفريقها على مستحقيها من ساكني الرُبط والمدارس فضلًا عن دور الضيافة.

وبعد أن أخذت دور الضيافة الصفة الرسمية، عيّن الخليفة مشرفًا يتولى أمورها، ويسعى في توفير ما تحتاجه من مستلزمات وأطعمة، كما يقوم بتسجيل أسماء الفقراء الذين يحق لهم تناول الطعام بها، وبلغ عدد الفقراء في أوائل تأسيس هذه الدار ألف شخص، بحسب ما ذكر «القداحات».

ومع مرور الأيام، ازداد عدد دور الضيافة المخصصة لهذه الغاية حتى بلغ عددها ببغداد عشرين دارًا، يفطر في كل منها خمسمائة شخص، وبهذا يكون عدد الفقراء الذين كانوا يتناولون طعامهم في تلك الدور عشرة آلاف شخص تقريبًا.

ويروي «القداحات»، أنه لما تولى الخليفة المستنصر بالله الحكم نهج نهجًا جديدًا من حيث الفئة المستهدفة لهذه الدور، فأنشأ سنة 630هـ/ 1233م دارين جديدتين للضيافة، خُصصت الأولى لأولاد الخلفاء المقيمين في «دار الشجرة»، إحدى دور الخلافة ببغداد، والأخرى بخرابة ابن جردة شرق بغداد للفقراء الهاشميين.

وبمرور الوقت، أصبحت دور الضيافة الرمضانية طابعًا مميزًا لشهر رمضان، يؤمها الفقراء تبعًا لأماكن إقامتهم، بمعنى أن سكان منطقة ما كانوا يتوافدون على دار بعينها دون سواها.

ويبدو أن فكرة إنشاء دور الضيافة في عاصمة الخلافة لقيت صداها لدى بعض الأمراء من حكام المدن والأقاليم الذين اشتهروا بأعمال الخير، ومنهم مظفر الدين كوكبري حاكم إربل (ت 630هـ/ 1232م)، فقد أمر ببناء دار «المضيف»، وسمح بأن يدخلها جميع الناس، وألا يُمنع أحد من ذلك، وأمر أن يُعطى كل واحد على قدر حاله. وبحسب «القداحات»، كانت الدار مقسمة إلى عدة أقسام، منها للعميان، والمساكين، واليتامى.

دعاية للمذهب الإسماعيلي

في العصر الفاطمي، وجد الخلفاء في مد هذه الأسمطة دعاية لها من أجل نشر المذهب الإسماعيلي من جهة، ومن جهة أخرى إرسال رسالة إلى أعدائها مفادها أنها قوية وغنية بمواردها ولا يقوى أحد على التصدي لها، وبالتالي كان لهذه الأسمطة أبعاد دينية وسياسية معًا، بحسب ما ذكرت هيفاء عاصم محمد وحيدر مزهر العابدي في دراستهما «أسمطة الخلافة الفاطمية في مصر 358-567هـ».

وكان سماط الإفطار يُمد منذ اليوم الرابع من شهر رمضان حتى السادس والعشرين، ويحضره الأمراء وكبار رجال الدولة بالتناوب، حتى يتشرفوا بلقاء الخليفة ونيل البركة في طعامه، وكذلك حتى يتسنى لهم قضاء بقية أيام الشهر الكريم ونيل لذة الإفطار مع عوائلهم.

وانفرد قاضي القضاة من بين المدعوين بالحضور إلى هذا السماط في ليالي الجمع الأربعة من رمضان، أما الوزير فتوجب عليه الحضور وأن يكون جلوسه في مقدمته، فإذا تأخر لطارئٍ ما، حضر إما ابنه أو أخاه.

وبعد انتهاء سماط الإفطار يُسمح للحاضرين بحمل ما يرغبون حمله من الطعام على سبيل البركة إلى أهاليهم، وكان يُحمل لبيت الوزير من طعام الخليفة الذي مد يده لتناوله، تشريفًا له وتطبيبًا لنفسه.

ويروي الباحثان، أنه بعد الانتهاء من سمط الإفطار يبدأ الاحتفال الديني بحضور الخليفة، فيقوم القراء بقراءة آيات من الذكر الحكيم بصوت عذب، ثم يقوم المؤذنون بالتكبير وبيان فضائل السحور، ثم ينتهون بالدعاء للخليفة، وبعدها يبدأ الوعاظ في الوعظ بفضائل الشهر الكريم، ويسهبون في مدح الخليفة وكرمه، وفي أثناء ذلك تُوزع على الحاضرين أطباق كثيرة، فيها أصناف عدة من الحلوى والقطائف وأكواب الماء المعطر بالبخور، فيأكلون ويحملون ما يستطيعون حمله منها، والمتبقي يأخذه الفراشون.

سماط السحور

بعد انتهاء احتفالية الإفطار، يُمد سماط السحور، فيجلس الخليفة في مكان مغلق من ثلاث جهات ومفتوح من جهة رابعة، وبين يديه المائدة عليها جميع الأطعمة، ويفرق الفراشون على الحضور الطعام، وكل من تناول شيئًا يقوم ويقّبل الأرض ويأخذ منه لأولاده على سبيل  البركة، وكان ذلك الأمر غير معيب، ثم تقدم الصحون الصيني مملوءة بالقطائف فيأخذ منها الجميع كفايته، بحسب الباحثين.

وفي سحور يوم التاسع والعشرين من رمضان يضاعف محتويات السماط، بحكم أنها ليلة ختم الشهر، كما يضاعف ما هو مقرر للمقرئين والمؤذنين، وتُنثر على الحضور دراهم ودنانير.

آداب أسمطة الخلفاء

ويذكر الباحثان، أن مجموعة من الآداب كان يجب اتباعها عند حضور أسمطة الخلفاء الفاطميين، ولم تكن تختلف عن تلك الآداب المتبعة في العصرين الأموي والعباسي، ومنها أن يكف المدعو عن الأكل إذا ما رفع الخليفة يده عنه، وألا يتحدث المدعو مع الخليفة أثناء الطعام بحديث جد أو هزل، وإذا تكلم الخليفة يتطلع المدعون إلى الاستماع إليه ولا يعارضه أحد.

وبما أن الغاية من حضور السماط ليس الشبع وملء البطون، فعلى المدعو أن يتأنى في أكلته وألا تكون لقمته كبيرة، فينبغي أن يقلل الأكل غاية الإقلال، وكأنما يأكل كما تأكل الطير، فإنما يراد من مجالسة الملوك التشريف، لذا لم يكن ينبغي أيضًا رد دعوة الخلفاء على الموائد.

وكان من الآداب أيضًا أن يغض الجالسون على الأسمطة نظرهم إلى الخليفة، وألا يرفع أحدهم طرفه إذا أكل الخليفة، وألا يمد المدعو إلى السماط يده مع يد الخليفة في صحنه، كما لا يجوز للمدعو الضحك بصوت عال على سماط الخليفة وبحضوره.

أما في ما يتعلق بالعامة، فقد خصصت الدولة الفاطمية، منذ عهد الخليفة العزيز بالله (344-386هـ/ 955-996م)، أسمطة على مدى أيام الشهر الكريم، ليفطر عليها الفقراء والمحتاجون، فكان السماط يُمد في مقر الشرطة بمدينة الفسطاط لرواد الجامع العتيق، أما الجامع الأزهر فقد خُصص له سماط يُمد يوميًا ولمدة ثلاثة أشهر، هي: رجب وشعبان ورمضان، ليفطر عليه الضيوف والغرباء. كما خصص الخلفاء أسمطة للسجناء طيلة الشهر الكريم.

مطابخ لإفطار الصائمين

وفي العصر المملوكي، بالغ السلاطين في إعداد الأسمطة والموائد العامة للفقراء في شهر رمضان. ويذكر الدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور في كتابه «المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك»، أن السلطان سيف الدين برقوق (740- 801هـ/1340-1399) اعتاد أن يذبح طوال مدة سلطنته في كل يوم من أيام هذا الشهر خمسة وعشرين بقرة، يتصدق بلحومها – مع ما يطبخ من الطعام وما يخبز من آلاف الأرغفة – على أهل الجوامع والخوانق والرُبط والسجون، بحيث يخص كل فرد رطل لحم وثلاثة أرغفة.

وحاكى السلطان برقوق في ذلك من أتى بعده من السلاطين، فأكثروا من ذبح الأبقار وتفريق لحومها. بحسب «عاشور».

أما المساكين والمعدومون، فرتب لهم سلاطين المماليك في شهر رمضان مطابخ لإفطار الصائمين وتوزيع الصدقات عليهم، وبلغ عدد الطاعمين في هذه المطابخ أيام السلطان بيبرس (625-676هـ/ 1228- 1277م) خمسة آلاف نفس في كل يوم من أيام شهر رمضان.

ويذكر نبيل محمد عبدالعزيز في كتابه «المطبخ السلطاني زمن الأيوبيين والمماليك»، أن أسمطة السلاطين في رمضان كان يُعد فيها شراب السكر والليمون لسقي الناس بعد أذان المغرب، ثم يُمد السماط فتأكل منه جميع الغلمان والحاشية وغيرهم.

ولما كانت هذه الأسمطة تتكلف أموالًا كثيرة، وهو ما يزيد على حاجة الدولة في بعض الأوقات، فقد قام الوزير منجك بإبطالها في سنة 750هـ/ 1349م، فأنكر الناس عليه ذلك.

أسمطة الخاصة في العصر المملوكي

وكان السلاطين المماليك يقيمون أسمطة أخرى لأمرائهم وكبار رجال الدولة. يذكر الدكتور عبدالنعم ماجد في كتابه «نظم دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر»، أن هذه الأسمطة كانت تقام في قاعة ذات أعمدة تسمى «الإيوان»، حيث يجلس السلطان على رأس المائدة، وعلى يمينه ويساره الأمراء على قدر مراتبهم، وذلك بعد خروج القضاة وسائر أرباب الأقلام (الموظفين)، مما يبين أرستقراطية المماليك التي كانت ترفض أن تأكل مع غيرها.

وكان يشرف على السماط عدد من الموظفين، منهم «خوان سلار»، الذي  يعد الطعام في المطبخ بمعاونة غيره، و«استدار الصحبة» الذي ينقل الطعام من المطبخ ويبقى حاضرًا طوال فترة السماط، و«سقاة الخاص»، وعددهم أكثر من عشرة، ويرأسهم «الساقي» أو «ساقي الملك»، وعملهم يتمثل في مد السماط وتقديم الخدمة بما فيها سقي المشروب بعد رفع السماط، وهناك «الجاشنكيرية»، ويرأسهم كبيرهم «الجاشنكير»، وهؤلاء يتذوقون الطعام والمشروب قبل السلطان، خوفًا من أن يُدس فيها سم أو غيره، روى «ماجد».

ومن أهم أنواع الطعام التي كانت تُقدم في مثل هذه الأسمطة المشويات من اللحوم الحيوانية والطير، وكان يوجد في المطبخ موظفون كبار من درجة الأمراء يشرفون على تسوية أصناف اللحوم والطير يسمى الواحد منهم «أمير مشوى». وكان المماليك يكثرون من أكل اللحم الحيواني، بما فيها لحم الخيل، التي انتشر أكلها بين المماليك الذين تعودوا على أكلها في بلاد أصولهم.