إن التعلم واسترجاع المعلومات من المهارات التي لا يحتكرها الإنسان وحده، فهناك العديد من الحيوانات التي تتمتع بنفس المهارة، منها الخفافيش البرية الآكلة للضفادع.

وقد نشر باحثو معهد سميثسونيان للأبحاث الاستوائية (Smithsonian tropical research institute – STRI) بدولة بنما، دراسة حديثة في دورية «كرنت بيولوجي» (Current Biology) في 20 يونيو/حزيران 2022، أكدوا خلالها قدرة تلك الخفافيش على تذكر الأصوات لفترة طويلة قد تزيد عن أربع سنوات.

تهدف الدراسة إلى التعرف على كيفية استغلال الحيوانات للذاكرة طويلة المدى للبقاء والعيش بالحياة البرية، وفهم مميزات هذه الذاكرة للحيوانات وعيوبها، ذلك إلى جانب تقديم رؤى وأفكار جديدة عن قدرات الخفافيش الإدراكية.

وأشارت «ماي إم دكسون»، المؤلفة الرئيسة للدراسة، إلى تلك الأهداف في البيان الصادر عن جامعة أوهايو:

محاولتنا التعرف على كيفية استخدام الحيوانات لقدرات التعلم والذاكرة، هي وسيلة تساعدنا على معرفة الطريقة التي تتبعها تلك الحيوانات للعيش في هذا العالم الحديث المليء بالتغيرات.

الخفافيش تتعرف على فرائسها عبر تمييز أصواتها

اعتمد الباحثون خلال إجراء دراستهم على الخفافيش ذات الشفاه الهامشية (Fringe-lipped bats) التي تعتمد وجباتها على الضفادع وبعض الحشرات، وهي تعيش في مناطق أمريكا الوسطى والجنوبية.

وتستطيع تلك الخفافيش اصطياد فرائسها من الضفادع عبر اتباع مصادر صوت «نداء التزاوج» الصادر عن ذكور الضفادع لاجتذاب الإناث، وهي تستطيع تمييز النداءات الخاصة بفصائل الضفادع المختلفة، ما يمنعها عن اصطياد فصائل الضفادع السامة.

وعند سماع أصوات الفرائس تطير الخفافيش تجاهها، فتعض ضحاياها لشل حركتها، ثم تعود إلى المنطقة التي تتناول فيها وجباتها.

تدريب الخفافيش لتمييز أصوات جديدة

أراد الباحثون التأكد من قدرة الخفافيش على تمييز أصوات جديدة وتذكرها فيما بعد، فاستعانوا بتسعة وأربعين خفاشًا، وألقوا على مسامعهم نداء التزاوج الخاص بذكور ضفادع «التونارا» عبر استخدام مكبر للصوت.

وتمثلت الخطوة التالية في المزج التدريجي بين ذلك الصوت وبين صوت نغمة رنين معينة، حتى استبدل الباحثون صوت النداء بنغمة الرنين استبدالًا كاملًا دون مزج، وقد تفاعلت الخفافيش مع الصوت الجديد عبر تحريك آذانها في البداية ثم الطيران تجاه مصدر الصوت، وكوفئت الخفافيش على ذلك التصرف بالحصول على وجبة شهية من الأسماك موضوعة فوق مكبر الصوت.

وللتأكد من ربط الخفافيش بين المكافأة وبين الصوت المسموع، شَغَّل الباحثون ثلاث نغمات مختلفة عبر مكبر الصوت دون تقديم مكافآت غذائية.

ويؤكد الباحثون عدم اختيارهم تلك النغمات عشوائيًّا، فقد اختاروا نغمات بعيدة كل البعد عن الأصوات الطبيعية، مثل الصوت المصاحب لفتح السيارة (صوت جهاز الإنذار)، ونغمة استلام رسالة جديدة على الهاتف النقال، وهي أصوات لا تنتج إلا عن أجهزة صنعها البشر.

وتوضح «ماي دِكسون» الهدف من اختيار تلك النغمات:

لقد اخترنا نغمات تختلف لا يُمكن للخفافيش سماعها في بيئتها الطبيعية، ما يعني أن الاستجابة لها لا ينتج إلا عن تدريبها أولًا.

وخلال الفترة بين 11 و27 يومًا حصلت الخفافيش على أربعين وجبة عبر الطيران إلى مكبر الصوت الذي يعرض النغمة الرئيسة، التي ربط الباحثون بينها وبين المكافأة الغذائية. وكخطوة أخيرة زرع الباحثون رقاقات تعقب في أجسام الخفافيش، وأطلقوها من جديد في متنزه «سوبيرانيا» الوطني بدولة بنما.

اختبار لذاكرة الخفافيش

خلال فترة امتدت لأربع سنوات استعاد الباحثون ثمانية من الخفافيش المداربة وألقوا على مسامعها نفس النغمة المرتبطة بالحصول على المكافأة الغذائية، الأمر الذي أدى إلى استجابة تلك الخفافيش لها عبر التوجه لمصدر الصوت.

ولتأكيد النتيجة عرض الباحثون نغمات جديدة على الخفافيش السابق تدريبها، فطار بعضها تجاه مصدر الصوت، ولم يتحرك البعض الآخر.

وللمزيد من التأكيد شارك في التجربة 17 خفاشًا جديدًا غير مدربين تعرضوا للنغمة الرئيسة المرتبطة بالحصول على الجائزة، ولم يتحرك أي منهم تجاه مصدر الصوت، إنما اكتفوا بتحريك آذانهم فقط، الأمر الذي يوحي بأهمية دور تدريب الخفافيش المُسبق.

وتعبر «ماي دِكسون» عن نتيجة التجربة قائلة:

لقد تفاجأت! إن تذكر الخفافيش لصوت قد لا يسمعونه أبدًا خلال الحياة في الطبيعة البرية لمدة 4 سنوات، لهو أمر يبعث على الدهشة.

وتضيف «ريتشل بيج»، إحدى مؤلفات الدراسة والباحثة بمركز STRI:

هذا أمر غير عادي! إنه يشبه تذكر الإشارات المرتبطة بوجبة تناولتها بعد أربع سنوات! نحن ندرك الآن امتلاك الخفافيش ذاكرة طويلة المدى تعينها على تحديد فرائسها دون الحاجة إلى إعادة تعلمها من جديد.

فوائد امتلاك ذاكرة طويلة المدى وأضرارها

امتلاك الحيوانات للذاكرة طويلة المدى أمر ضروري، فهي تساعد الخفافيش مثلًا على تذكر أصوات الفرائس الصالحة للأكل، حتى إن تعرضت لتلك الأصوات خلال فترات بعيدة، كما تُجنِّبها الحاجة إلى تكرار التجربة والخطأ باستمرار.

على صعيد آخر وُجِد أن تلك الذاكرة ترهق أجساد الخفافيش باستهلاكها قدرًا كبيرًا من الطاقة، ما قد يُعيق قدراتها على اتخاذ القرارات السريعة.

ونؤمن نحن البشر بأن ذاكرتنا الطويلة سبب واضح لارتفاع معدل ذكائنا، لكن الطبيعة حولنا تؤكد أن مرونة الذاكرة التي يُطلَق عليها «النسيان التكيفي» عامل مهم للاستمرارية والبقاء على قيد الحياة بالنسبة للحيوانات.

إن «النسيان التكيفي» يعني نسيان بعض الأمور نتيجة تذكر أمور أخرى، فالنسيان ينتج عن الصراع بين الأمور التي يحاول العقل تذكرها، ما يُفَعِّل «آليات مُثبِّطة» تعمل على تخفيف التشتت الناتج عن ذلك الصراع.

وعن ذلك الأمر توضح دكسون:

تميز الإنسان الناتج عن ذكائه وامتلاكه ذاكرة قوية لا يعني أنها معايير ضرورية لبقاء الحيوانات، لذلك نريد دراسة قدرات الحيوانات (الذاكرة في تلك الحالة)؛ لنعرف متى تكون مفيدة، ومتى تكون عائقًا أمامها.

وتأمل دِكسون في إجراء المزيد من الدراسات للمقارنة بين ذاكرة الخفافيش آكلة الضفادع وأنواع الخفافيش الأخرى، كذلك بينها وبين ذاكرة الحيوانات الأخرى، في محاولة للتعرف على الطريقة التي تعمل بها الذاكرة الحيوانية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.