بينما هدأت المعارك في معظم الأراضي السورية تظل الحدود الشرقية في محافظة دير الزور هدفًا دائمًا للضربات الجوية والتحركات العسكرية التي لا تهدأ، وعلى الجانب الآخر في العراق تتمركز نفس القوات التي تنتمي إلى هيئة الحشد الشعبي خاصة كتائب حزب الله العراقي المقربة من الحرس الثوري الإيراني.

وصار من الطبيعي أن تُسمع أصوات الانفجارات على أطراف مدينة البوكمال بريف دير الزور تتلوها سحب الدخان المتصاعدة من معسكرات الميليشيات ومستودعات ذخيرتها، بالتزامن مع تحليق الطيران المسيَّر مجهول الهوية في أجواء المنطقة فيما يطلق عليه «حرب الظل».

ولم تفلح عملية «إعادة الانتشار» التي تجريها الميليشيات في إعاقة استهدافها، فالخصم متفوق استخباريًّا بشكل واضح لا تخدعه عملية تغيير مواقع المسلحين بشكل مستمر ولا تبديل راياتهم بأعلام النظام السوري، ولا استحداث مواقع سرية فرارًا من طائراته.

ممر القائم – البوكمال

يتمتع ممر القائم – البوكمال بأهمية جيوستراتيجية فائقة بالنسبة لطهران، حيث تعسكر الميليشيات التابعة لها بهدف حراسة الجسر البري الذي يربطها بالبحر الأبيض المتوسط، والذي أصبح حجر الزاوية في الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، وثمرة جهود عمرها عشرات السنين.

ويمتد هذا الطريق من إيران إلى لبنان مرورًا بسوريا والعراق، وفعليًّا الحدود مفتوحة بين البلدان الأربعة، فالميليشيات تتنقل بينها بحُرية وشحنات السلاح تتدفق باستمرار في اتجاه الغرب، ومع كل تلك المسافة تظل عرضة للاستهداف بدءًا من الداخل الإيراني حيث تتعرض مصانع السلاح والمواقع العسكرية لتفجيرات وهجمات غامضة، مرورًا بالعراق وسوريا، إلا أن الجزء الأشد خطورة هو الذي يقع على الحدود العراقية-السورية.

ففي عام 2017، سيطرت قوات النظام السوري على المنطقة وتمكنت من فتح هذا الممر لنقل الأسلحة من إيران عبر العراق، بعدما كانت الإمدادات تصل بالجو أو بالبحر عبر لبنان بتكاليف باهظة، فالنقل البري أرخص، كما أنه بديل مهم في حال قصف المطارات التي يعتمد عليها الإيرانيون لشحن السلاح أو المنتجات التي تغرق أسواق تلك الدول، كالأدوية والأغذية وغيرها، كما أنه يعمل على تأكيد الهوية الشيعية والنفوذ الإيراني المباشر على امتداد الطريق.

وللطريق مسارات يمر أحدها عبر وسط العراق حتى يدخل سوريا من معبر التنف على المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي، ويسير الممر الآخر مع نهر الفرات ليعبر مدينة القائم العراقية إلى البوكمال في سوريا.

وفي عام 2018، أعلنت طهران نيتها بناء خط سكة حديد يربطها بالبحر الأبيض المتوسط ​​عبر منطقة البوكمال، وفي العام التالي عقد مدير السكك الحديد الإيرانية اجتماعًا في طهران مع نظيريه السوري والعراقي، واتفقوا على خطط ربط ميناء الإمام الخميني شمال الخليج العربي مع ميناء اللاذقية السوري في شرق المتوسط، يبدأ بربط مدينتي الشلامجة الإيرانية والبصرة العراقية بطول 32 كيلومترًا.

التنافس على خط الحدود

ينفق الإيرانيون بسخاء -رغم الأزمة الاقتصادية في بلادهم- على توطيد نفوذهم في المنطقة الحدودية بدير الزور والبادية، التي اكتشف أهلها فجأة أنهم يعيشون في منطقة استراتيجية، تعاقب عليها خلال العقد الأخير مسلحو تنظيم داعش وفصائل المعارضة السورية والروس والأمريكيون والفرنسيون والبريطانيون وقوات الأكراد والنظام السوري والحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية الباكستانية والأفغانية والعراقية واللبنانية.

فالقوات الأمريكية وحلفاؤها في التحالف الدولي ما زالوا متمسكين بالبقاء رغم أن الولايات المتحدة تعمل على تقليل وجودها العسكري في الشرق الأوسط، لكنها تصر على إبقاء قوات محدودة في محافظات الشرق السوري ونقاط العبور المهمة للجسر البري الإيراني إلى الشام، ففي دير الزور يوجد 4 قواعد هي الباغوز والجزرات وحقل العمر النفطي ومعمل غاز كونيكو، وفي المثلث الحدودي الأردني السوري العراقي تتمركز قاعدة التنف محاطة بقوات «مغاوير الثورة» وهي مجموعة محلية مسلحة ومدربة أمريكيًّا، وفي محافظة الحسكة يوجد عدد من القواعد تحت حراسة الأكراد.

طريق الموت

ما إن يظهر تنظيم داعش الإرهابي حتى تظهر خلفه الميليشيات المدعومة من إيران بحجة محاربته، فيما أظهرت الأحداث علاقة التخادم بين الجانبين، وليس صدفة أن تركز عمليات داعش حتى اليوم على المحافظات التي تقع على الطرق بين العراق وسوريا، فهو الذريعة التي تمنح كل القوات الأجنبية شرعية الوجود تحت لافتة مكافحة الخطر الداعشي.

وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية أصابت الضربات الجوية الإسرائيلية بانتظام البوكمال ومداخلها، وكذلك بلدة القائم الواقعة على الحدود العراقية، وغيرها من المناطق القريبة التي تعسكر فيها ميليشيات مدعومة من إيران تعمل على نقل الأسلحة والأموال من العراق إلى سوريا.

وتعد قاعدة الإمام علي أكبر وأهم النقاط العسكرية الحصينة، فقد أقيمت جنوب مدينة البوكمال باتجاه البادية عام 2019 بهدف تثبيت الوجود الإيراني على الحدود، وتم تحصينها ضد الضربات الجوية وتزويدها بأماكن مخفية تحت الأرض ومنظومات دفاع جوي متطورة، وصواريخ وأسلحة ثقيلة، وكذلك مياه ومؤن لتصمد أمام أي حصار، كما أنها متصلة بشبكة طرق توصلها إلى مطارات عسكرية مثل مطاري «تي فور» و«تي تو».

 ومؤخرًا رُصِدَت عمليات تشييد قاعدة محصنة مماثلة شمال شرق البوكمال، على يمين نهر الفرات لتقليل الخسائر البشرية الناجمة عن الغارات المستمرة، وبالتوازي مع تلك الإنشاءات هناك محاولات لإعادة تأهيل خط السكك الحديد المار بالمنطقة لربطها بميناء اللاذقية على البحر المتوسط، لكن المشروع يمضي ببطء شديد، فمع ما تم رصده من فساد وعيوب فنية كبيرة في الجزء المنشأ حديثًا اتهم النظام السوري قوات قسد الكردية المدعومة من واشنطن بسرقة وتفكيك معدات وتجهيزات السكك الحديدية التي تم إنفاق مليارات الليرات عليها.

وتتوالى الضربات العسكرية الإسرائيلية –وأحيانًا الأمريكية- على تلك المعاقل في محاولة لكبح السيطرة الإيرانية على المنطقة، باعتبارها أحد أهم ساحات التنافس بين الطرفين، بينما غاب عن المعادلة السكان المحليون الذين تعرض كثير منهم للتهجير جراء تلك الحروب والنزاعات، ومعظم تلك الغارات لا يتم الإعلان عنها رسميًّا من أي جهة، لكن الجميع يعرف أنها إسرائيلية.

والشهر الماضي وجهت الميليشيات الإيرانية ضربة بخمس طائرات مسيرة إلى القاعدة الأمريكية في التنف أحدثت بعض التلفيات لأنه تم إخلاؤها قبيل الهجوم، ووصفت نيويورك تايمز الأمريكية الحادث بأنه أول مرة توجه فيها طهران ضربة عسكرية ضد أهداف تابعة للولايات المتحدة ردًّا على غارات إسرائيلية.

ورغم تلك الاستهدافات المتكررة فما إن يجن الليل حتى تنبض المنطقة بالحياة وتُستأنف عمليات التهريب عبر الحدود، وبعضها يعبر نهر الفرات في قوارب، وينشط المسلحون من كل الجنسيات في استكمال تحصين مواقعهم وإعادة الانتشار في أرجاء المنطقة التي يبدو أنه قُدِّر لها أن تصبح ساحة حرب دائمة لا تهدأ بها أصوات المعارك وأزيز الطائرات.