يعيش سكان تايوان البالغ عددهم 23 مليون نسمة إحدى أكثر فترات حياتهم قلقًا وخوفًا، فالتنين الصيني يقف فاغرًا فاه استعدادًا لالتهام جزيرتهم الصغيرة التي تهب عليها عواصف وتقلبات السياسة الدولية بعد أن أصبحت موقع اختبار جدارة القوى العظمى، فالولايات المتحدة ترتب مع حلفائها الإقليميين لردع الصينيين الذين يبدو أنهم يتأهبون للانقضاض ويشحذون أسلحتهم انتظارًا لساعة الصفر.

لعبة القوى الكبرى

وترى بكين حتمية حسم هذا الأمر رغم كلفة وخطورة تحدي أكبر قوة في العالم، التي تعهدت مؤخرًا على لسان مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، بأنها «لن تسمح مطلقًا» بغزو تايوان، فكان رد بكين أنها مستعدة للحرب، وقالت صحيفة «جلوبال تايمز»، الناطقة باسم النظام الصيني، إن هناك استعدادات لمهاجمة الجيش الأمريكي في حال اندلاع أي صراع عسكري مقبل، وأن التهديد الأمريكي فارغ من المصداقية، لأن واشنطن لن تحمل نفسها مخاطرة الدفاع عن تايبيه، ودعت الصحيفة مستشار الأمن القومي لـ«إغلاق فمه الكبير» وتجنيب دولته مزيدًا من الإحراج، وعقب نشر هذا التهديد الكلامي نفذ سلاح الطيران الصيني طلعة جوية تضم قاذفتين نوويتين لإرهاب تايوان.

تدرك الولايات المتحدة مدى أهمية تايوان بالنسبة لها؛ فإلى جانب أسباب عديدة يعد احتمال استيلاء بكين على الجزيرة أحد أسوأ السيناريوهات التي يمكن تخيلها أمريكيًا ففي حال وقوع ذلك لن يمكن احتواء صعود الصين، وفي المقابل سيتضاءل نفوذ واشنطن بمنتهى السرعة بسبب انهيار مصداقية الردع الأمريكي عالميًا وستسارع الدول المختلفة –خصوصًا الآسيوية- للحاق بالقطار الصيني أو التوصل إلى صيغ جديدة لإدارة علاقاتها الخارجية بما يتلاءم مع المعطيات المستجدة.

وتشكو تايبيه من تكرار الطلعات الجوية الصينية خلال العام الماضي والتي تكثفت في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، على منطقة الدفاع الجوي الخاصة بها (وهي مساحة تسيطر عليها تايوان فوق المياه ملاصقة لمجالها الجوي لمنح الدولة مجالا أكبر للرد على هجمات أي طائرات معادية)، وعادة ما تصف بكين تلك الطلعات بأنها «تدريبات» عسكرية.

ووصلت درجة التوترات بين تايبيه وبكين أعلى مستوى لها على مدار عقود، وفقًا لتقييم وزير الدفاع التايواني، تشيو كوو تشنج، الذي قال في 6 أكتوبر/تشرين الأول، إن الجيش الأصفر سيكون قادرًا على غزو بلاده بحلول 2025 بأقل قدر من الخسائر، وأعلن أمام البرلمان الوطني أن الوضع أصبح أشد سوادًا من أي وقت مضى منذ انضمامه للخدمة بالجيش، وأن أقل أزمة أو خطأ قد تشعل الموقف في أي لحظة.

وفي سابقة هي الأولى من نوعها منذ اعتراف واشنطن بالصين في سبعينيات القرن الماضي، كشفت الرئيسة التايوانية تساي إينج وين في نهاية أكتوبر/تشرين الأول وجود عدد صغير من أفراد الجيش الأمريكي لمساعدة قواتها المسلحة، مبينة أنها تثق بأن الأمريكيين سيدافعون عن بلادها ضد الغزو الصيني، وأعلن قائد القيادة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادي وجود حاجة لتسريع وتيرة العمل مع الحلفاء في المنطقة للتعامل مع التحديات الماثلة أمامهم.

وتأتي اليابان على رأس تلك القوى المتحالفة مع واشنطن لاحتواء الصين، ويخشى صانعو القرار في طوكيو من أن الصراع على تايوان يمكن أن يوفر للصين فرصة للاستيلاء على جزر سينكاكو المتنازع عليا مع بكين أو حتى أرخبيل أوكيناوا الواقع في أقصى الجنوب الغربي، رغم أن الصينيين لا يثيرون حاليًا أي مطالبات خاصة بهذا الأرخبيل، لكنهم تحدثوا عن ذلك من قبل، وأثار الأكاديميون الصينيون ووسائل الإعلام الحكومية تلك المسألة.

 وفي وقت سابق من هذا الشهر قال رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي في منتدى أمني، إن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي إن تعرضت تايوان للغزو، وأن حالة الطوارئ في تايوان هي حالة طوارئ بالنسبة لليابان أيضًا، فبسبب تحالفها مع الولايات المتحدة من المرجح أن تنجر اليابان إلى صراع على تايوان وقد استعدت لذلك بنشر أنظمة صاروخية متطورة على طرف جزر ريوكيو على بعد 200 ميل فقط من تايوان استعدادًا لليوم الموعود.

الصين الواحدة

منذ تطبيع العلاقات بين الصين والولايات المتحدة عام 1979، اعترفت الأخيرة بسياسة «الصين الواحدة» التي تعني أن الصين وتايوان بلد واحد، وهو اعتراف حمال أوجه بشكل ما. فبكين ترى تايوان جزءًا منها تسعى لاسترجاعه تابعًا لها، بينما تايبيه كذلك تتبنى نفس المبدأ ولكن بمعنى استرجاع بر الصين الرئيسي تحت قيادتها. وقد شكل مبدأ «الصين الواحدة» منهجًا وسطًا بالنسبة لواشنطن التي قطعت علاقاتها مع الجزيرة رسميًا مقابل التطبيع مع بكين، لكنها أبقت علاقات غير رسمية ودعمًا لا يتوقف للطرف الآخر حتى اليوم.

تأسست تايوان عام 1949 تحت اسم «جمهورية الصين» على يد حزب الكومينتانج بقيادة شيانغ كاي شيك، بعد هزيمتهم أمام الشيوعيين في حرب أهلية مدمرة وفرارهم من البر الرئيسي للجزيرة. شغلت حكومة تايوان مقعد الصين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، واعترف بها الغرب كممثل شرعي للصين بدلا من الحكومة الشيوعية في بكين، لكن ذلك لم يستمر إلا حتى عام 1971 عندما تم الاعتراف بالصين الشعبية.

ظلت حكومة الحزب الشيوعي ترجئ حسم القضية وتراهن على أن الوقت في صالحها وظل عدد الدول التي تعترف بتايوان يقل تدريجيًا حتى لم يبق منها إلا بضع عشرة دولة لأنه لم يكن ممكنًا أن تحتفظ أي دولة بعلاقات رسمية مع طرفين كل منهما يدعي احتكار تمثيل الصين، لكن في عام 2000 انتخب تشين شوي بيان رئيسًا لتايوان واستمر حتى 2008، وهو من أنصار فكرة إعلان استقلال بلاده رسميًا وفك الارتباط بالبر الرئيسي بعدما صار من المستحيل التفكير في ضمه لتايبيه، ولكن تهديدات بكين أوقفت الخطوة.

وفي عهد الرئيس ما يينغ جيو (2008: 2016) شهدت العلاقات بعض التحسن، لكن مع مجيء الرئيسة الحالية تساي إينج وين، التي تدعم قرار إعلان الاستقلال، اشتعلت التوترات بشكل كبير، ومع إعادة انتخابها بأغلبية ساحقة عام 2020 احتدمت الأمور أكثر؛ فقد أعطى القمع الصيني لسكان هونج كونج نموذجًا سيئًا لما ستكون عليه الأمور في تايوان إن انضمت لبكين، وكذّبت تلك الاضطرابات مزاعم الصين بأنها ستتبع سياسة خاصة تجاهها وفق مبدأ «دولة واحدة ونظامان» الذي يعني الإبقاء على النظم السياسية والاقتصادية والقانونية للمناطق التي تنضم لها دون تغيير، وهو ما لم يتم الالتزام به في هونج كونج، وبالتالي اكتسب خيار الاستقلال الرسمي مزيدًا من القوة لدى التايوانيين.

وخلال الفترة الأخيرة شجع الأمريكيون تايوان وأكدوا أنهم لن يتخلوا عنها مهما حدث، وجددت إدارة الرئيس جو بايدن هذا التعهد بحزم، فالصين اليوم تمثل أكبر تحد للنظام الدولي والقوة الوحيدة التي تملك قدرات شاملة تؤهلها لتقويضه، لكن بكين تصر أن التزام واشنطن هذا لن يصل إلى درجة إشعال حرب ضد قوة عظمى من أجل دولة بعيدة لا تعترف بها رسميًا ولا تربطها بها معاهدة دفاع مشترك، وأن تلك الأبعاد الاستراتيجية التي يؤمن بها قادة البيت الأبيض لا تكفي لحشد الأمريكيين للتضحية بأرواحهم في تلك الحرب.