تلك الحقيقة غير منفية بالمرة. السنون الماضية من عمر الساحرة المستديرة أثبتت أن الجماهير لا تنسى الأحداث التي تقع داخل إطار الملعب، وأن أغلبها لا يؤمن أبدًا بأنها أحداث تجري فقط وفقًا لما يدور خلال ـ90 دقيقة مشهودة، أو بين 22 لاعبًا موجودين فوق المستطيل الأخضر، فإن الوقائع التاريخية والسياسية يلعبان في الخطوط الأولى بالنسبة لساكني المدرجات.

عبر ذلك العمر المديد من اللعبة حملت كل لقاءات المنتخب الأرجنتيني ضد نظيره الإنجليزي ضغائن كبيرة داخل نفوس شعوب الدولتين، وانتقامات تزداد حدتها كلما مرت السنون وتوالت عليها المباريات بنتائجها المثيرة. واحدة من القصص التي وقعت خلال ذلك العداء التاريخي الواضح كانت بين الأنيق والهادئ «ديفيد بيكهام» وبين المعروف بشغبه الدائم وانتمائه الشديد للجماهير «دييجو سيميوني»، فمن واقعة تبدو لوهلتها الأولى عادية وغير مؤثرة، إلى تهديد بضياع المسيرة وضياع الروح أيضًا.


صغار الضحايا

كل ما سيُحكى وقع في فرنسا، تحديدًا بـ«سانت إيتيان» في النصف الثاني من العام 1998، 30 حزيران/يونيو، خطأ عادي في منتصف ملعب «جيوفروى جيشار» تسبب في أن يحيا «بيكهام» وعائلته لسنين طوال تحت تهديد القتل الذي وصله من أحد المتطرفين، وذلك على إثر حالة الطرد التي تعرض لها في مواجهة المنتخب الإنجليزي ضد نظيره الأرجنتيني في دور الـ16 من كأس العالم 98.

قبل ذلك بعدة سنين وتحديدًا في عام 1986 تمكن راقصو التانجو من إقصاء منتخب الأسود الثلاثة من ربع نهائي المونديال المقام وقتها في المكسيك. لتدور السنين ويلتقيان مرة جديدة، بعد أكثر من عقدٍ كامل، حين صعد المنتخب الإنجليزي من مجموعته السابعة في الترتيب الثاني خلف المتصدر رومانيا، ليضرب موعدًا مع مواجهة، اشتعل فتيلها قبل صافرة الحكم بسنين طويلة، ضد المنتخب الأرجنتيني الذي كان قد تصدر المجموعة الثامنة. رُفع الأدرينالين عند الجماهير في إنجلترا إلى حد لا يمكن وصفه، آملين في تحقيق انتقام يُثلج القلوب من ذلك الإقصاء القاتل قبل أعوام. لكن أحداث اللقاء سارت كعادتها، بما لا تشتهيه السُفنُ.

افتتح «باتيستوتا» التسجيل من ركلة جزاء عانقت الشباك رغمًا عن الحارس «سيمان»، بعدما ارتطمت الكرة بيده اليُمنى ومن ثم تجاوزتها إلى أحضان المرمى، لكن سُرعان ما عدل «آلان شيرر» بركلة جزاء تشبه الأولى في التنفيذ، حيث سكنت على يمين الحارس أيضًا، ثم تمكن «مايكل أوين» من وضع الإنجليز بالمقدمة في الدقيقة الـ16 تقريبًا من الشوط الأول، غير أن «زانيتي» أبى أن تنتهي أحداث الشوط الأول قبل أن يضع هدف التعادل لصالح منتخب بلاده في الدقيقة الأولى من الوقت المحتسب بدلًا من المُهدر في النصف الأول من المباراة.

عقد الأهداف كان قد انقطع عند ذلك الحد، ولم يتمكن أي فريق من هز شباك نظيره في كل ما تبقى من عمر المباراة، وأُرجئ الحسم إلى ركلات الترجيح التي أعلنت أحقية راقصي التانجو في الصعود إلى الدور التالي، بعد الفوز بنتيجة «4-3»، معيدة نفس الإنجاز السابق بإقصاء الإنجليز من البطولة في أدوارٍ متقدمة.

فيما بعد المباراة، لم تجد الجماهير من تُخرج فيه غضب ذلك الخروج المُحبط غير «بيكهام»، تاركين كلًا من «بول أينس» و «ديفيد باتي» اللذين أهدرا ركلتي ترجيح تسببتا بشكلٍ مباشر في الخروج، وآمن أغلبيتهم بأن الطرد الذي لحق بـ«ديفيد» بعد دقائق قليلة من بداية الشوط الثاني هو المتسبب في ظهور المنتخب بشكلٍ مُخذل في الدقائق المتبقية منه، ولولاه ما وصلوا إلى ركلات الترجيح من الأساس.

كان الإنجليزي قد وجه ضربة خلفية لمتوسط الميدان الأرجنتيني «دييجو سيميوني»، الذي اعترف فيما بعد أنه بالغ في استقبال تلك الضربة، مثله مثل أي لاعب كان سيقع في نفس الموقف، من أجل زيادة قبح الصورة حتى يُدفع حكم المباراة لإخراج الكارت الأحمر. وبالرغم من أن ذلك الخروج كان مُحبطًا حقًا كغيره من الإخفاقات الطويلة التي تضرب المنتخب الإنجليزي في رحلته نحو كأس المونديال، لكن تلك الواقعة قد حملت غضبًا جماهيريًا كبيرًا ضد اللاعب الشاب حينها، حيث تحرك أحد المشجعين بغضبٍ جامح، وأرسل تهديداتٍ بالقتل إلى اللاعب الإنجليزي.

واقعة كهذه كانت من الممكن أن تمر مرور الكرام، لولا ذلك العداء السابق بين البلدين، والذي لا يمكن إخراج تأثيره من الملعب، والذي يمكن أن نؤكده أن «بيكهام» و«دييجو» ما هما إلا مرحلة صغيرة أو ضحايا صغار، ضمن حرب رُسمت عبر التاريخ. تسببت في أن يشعر الشعب في «بوينس آيرس» بأنه حقق بذلك الفوز انتصارًا على دولة بأكملها، وليس فقط منتخب كرة قدم.


السياسة: اللاعب رقم واحد في منتخب الأرجنتين

نحن نعاني ارتباطًا وثيقًا بين الحروب وكرة القدم والسياسة داخل الأراضي الأرجنتينية.بدأ الأمر من رئيس جمهورية الأرجنتين، «خوان بيرون»، الذي قاد البلاد في فترتين: الأولى بين عامي 1946 و1955، والثانية بدأت عام 1973 وانتهت بوفاته، امتلأت هذه السنوات بإدارة فاسدة وفاشية لكرة القدم وكل ما يُحيط بها.

رسخ «بيرون» لقواعد الاستخدام الدنيء للعبة من البداية، حين قرر أن تتحول الكرة وفرقها إلى واجهة سياسية لدولة تعاني فقرًا في كل المناحي الحياتية والاقتصادية، لدرجة وصلت إلى أنه رفض مشاركة المنتخب الوطني في كأس العالم 1949 والأعوام القليلة التي تلته، خوفًا من وقوعهم في خسارة من الممكن أن تودي بحياة مشروعه الفاسد، وقرر أن يظل التضليل مستمرًا من خلال الكرة المحلية.

خلال سنوات حكمه في البلاد نشر شعاراته السياسية الكاذبة من خلال المدرجات والجماهير التي كان يراها مجرد أداة لتحقيق أغراض سياسية تمكنه من المكوث أكثر في سدة الحكم، حتى وافته المنية في عام 74، لكن الأمر كان قد وصل ذروته من قبل تلك الوفاة، وباتت كرة القدم والسياسة، بكل ألاعيبها، عنصرين لا يمكن تفكيكهما داخل البلاد.

وفي عام 1976،قاد الجنرال «خورخي رافائيل فيديلا» انقلابًا عسكريًا أوصله إلى مقاليد الحكم في البلاد. ذلك العسكري، الذي توفى وهو يقضي عقوبة السجن على إثر جرائمه في حق الإنسانية، قد أكمل ما قد بدأه سابقه ولكن بصورة أكثر فظاعة. فقد عثا في البلاد فسادًا وعذابًا لكل السياسيين، واستغل التطور الذي ظهر في كرة بلاده من أجل التعتيم على كل تلك الأحداث وحتى لا يتطرق إليها أحد أفراد الشعب.

وصلت جرائمه بكرة القدم إلى حدٍ تلوث معه اللقب الأرجنتيني الأول بالمونديال عام 1978. حيث شابته شوائب التدخل السياسي على إثر اتفاق تم بينه وبين رئيس دولة بيرو، التي قد تلقت هزيمة كبيرة بـ6 أهداف نظيفة لصالح راقصي التانجو. حيث ذكر العديد من التقارير التي تلت البطولة أن هناك صفقات قد أبرمها الرئيسان على خلفية هذه المباراة من ضمنها موافقة الأرجنتين على استقبال السجناء السياسيين من بيرو وإخفائهم عن الأعين داخل سجون الدولة، في مقابل قبولهم تلقي هزيمة بأكبر من 4 أهداف تسمح لدولة «فيديلا» بالمضي قدمًا نحو اللقب، مما سيسمح له بالاستمرار في أعماله السياسية والمجتمعية المشينة دون غضب شعبي.

مظاهر كاستبعاد النجم الأول لفريق بيرو «خوسيه فيلاسكيز» وقائد المنتخب، «هيكتور تشومبيتاز»، كانت كافية لتجعل لاعبي المنتخب الأرجنتيني يعترفون بعد سنين أنهم لم يشعروا أنهم يستحقون ذلك اللقب الغالي، وأن الأحقية كاملة تذهب للجيل الذي تلاهم بقيادة «دييجو أرماندو مارادونا»، لكنه ندم غير كافٍ لأن ذلك الفوز قد أخفى العديد من الكوارث التي تمت داخل البلاد في نفس الفترة، حتى إن سحب اللقب من الأرجنتين نتيجة التلاعب، فلن يُغير هذا من الواقع الأليم شيئًا.


المونديال أغلى أم الانتقام؟

مارادونا، الأرجنتين، كأس العالم، ديفيد بيكهام، دييجو سيميوني،
مارادونا يقود الأرجنتين لحمل كأس العالم عام 1986.

بحلول الثمانينيات، كانت القوة العسكرية قد تحكمت أكثر وأكثر في كل الأمور داخل الدولة بشكلٍ كاد أن يفيض معه كيل الشعب. كان على الحكم العسكري أن يجد شيئًا يطفئ به تلك النيران الموشكة على الاندلاع، فكانت حرب الـ«فوكلاند» خير وسيلة.

الفوكلاند هي جزر دار عليها نزاع حاد بين عدة دول في السنين الأولى من القرون الوسطى. انفض أطراف النزاع وبقي طرفان فقط، هما بريطانيا والأرجنتين. عمليات استيلاء من هنا وحروب عسكرية برًا وبحرًا من هناك، حتى انتهى الحال بالجزر تحت إمرة بريطانية بعد هزيمة نكراء تلقاها الجيش الأرجنتيني بأسطوله البحري.

النظام العسكري كان قد صوّر الحرب على جزر الفوكلاند من البداية على أنها خطوة وطنية شجاعة لاستعادة حقوق الأرجنتين المغتصبة، بالإضافة إلى ما أثير في ذلك الوقت عن اكتشاف ظواهر بترولية في تلك الجزر توحي بأنها غنية بالبترول، فهما عصفوران بحجرٍ واحد، غطاء اقتصادي يسمح للنظام بالسيطرة، ولو لمدة بسيطة، دون مشاكل اقتصادية، وكذلك غطاء شعبي بعد الدفاع عن الأراضي المحتلة وكل تلك الشعارات التي آتت ثمارها فعلًا بين أروقة الناس هناك.

لكن خسارة النزاع على تلك الجزر، كان بمثابة صدمة ضخمة للسلطة وللشعب في آن واحد، فكان لهم «مارادونا» هو المنقذ الأكبر من كل تلك السقطات في شتى بقاع الدولة.

بعد الفوز بالمونديال عام 1986، خرج «روبرتو بيرفومو»، أحد رفقاء «دييجو» الفائزين باللقب،ليؤكد أن ذلك الكأس كان مجرد هدف ثانٍ، بعدما تمكنوا من تحقيق الهدف الأسمى بالفوز على الإنجليز في ربع نهائي البطولة. بل إن «مارادونا» نفسه أكد أن الفوز عليهم كان خير انتقام مما جرى فوق أرض الفوكلاند، وأنه شعر بأنه ينتصر على دولة بكل قواتها. ذلك المرض الذي يخلط السياسة ودناءتها بكرة القدم كان قد تفشى في الجميع بلا أي رادع، وتناقلته الجينات بين كل بني جلدتهم.

المؤكد أن كل من شاهد واقعة «سيميوني» و«بيكهام» من معسكر الأرجنتين كان يتبادر إلى ذهنه سنوات طويلة من النزاع ضد الإنجليز وبريطانيا، أو تذكر أحدهم جدًا له قد مات على إثر تلك الحرب وبطلقات إنجليزية، وفي المعكسر المعاكس كان يبادلونهم نفس الشعور بالغضب والكره، ربما نؤكد حتى أن كلا اللاعبين تذكر تلك الوقائع في اللحظات التي تبادلا فيه الشجار في كل مرة وتحديدًا تلك التي حدثت في فرنسا، وهو ما ساعد على أن يتحول خطأ عادي نراه في كل مباراة تقريبًا إلى كارثة كادت تودي بحياة واحد من أهم اللاعبين في تاريخ اللعبة.