أسوأ مناظرة في التاريخ
الصحافة الأمريكية

بهذه الكلمات تحدثت الصحافة الأمريكية وقطاع كبير من الشعب الأمريكي عن  المناظرة الرئاسية الأولى التي عُقدت مساء 29 سبتمبر/أيلول 2020، بين الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، ومرشح الحزب الديمقراطي ونائب الرئيس السابق، جو بايدن.

دارت معظم النقاشات بشأن هذه المناظرة حول أن المرشحين قد أضاعا الفرصة الأولى لتعريف الناخبين الأمريكيين بسياستهما وتوجهاتهما المقبلة، وبدلاً من ذلك عمدا إلى توجيه الإهانات والاتهامات الشخصية إلى بعضهما البعض.  وفي ظل الأهمية التي يحتلها هذا اللقاء الذي يعد بمثابة المباراة النهائية لكأس العالم الخاص بسباق الرئاسة الأميركي، فالأمر يقتضي نظرة في تاريخ المناظرات الرئاسية التي شهدتها الولايات المتحدة.

كيف كانت البداية؟ وماذا عن أبرز المناظرات الرئاسية؟

ترجع فكرة المناظرات إلى عام 1858 حينما عُقدت سلسلة من 7 مناظرات بين المرشحين لمجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي أبراهام لنكولن وستيفن دوغلاس. دارت المناظرة ذلك الوقت حول المآزق الأخلاقية والاقتصادية التي تسببها العبودية، وانتهى الأمر بفوز دوغلاس بمقعد مجلس الشيوخ.

ومن بعدها شهدت الولايات المتحدة عدداً من المناظرات المتقطعة بين المرشحين للرئاسة داخل الحزبين الرئيسيين (الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي)، والتي عادة ما كان تذاع عبر الراديو. لكن بداية المناظرات الرئاسية المتلفزة كانت عام 1960.

1. جون كيندي v.s ريتشارد نيكسون (1960)

ففي ذلك العام وتحديداً في 26 من سبتمبر، انطلقت أول مناظرة رئاسية متلفزة في تاريخ الولايات المتحدة، بين السيناتور الديموقراطي حاكم ولاية ماساتشوستس جون كينيدي، ونائب الرئيس الجمهوري حينذاك ريتشارد نيكسون.

شهدت المناظرة تبايناً كبيراً بين المرشحين للرئاسة، حيث بدا كينيدي شاباً وسيماً واثقاً بنفسه كأنه رجل الساعة، أخذ ينظر بعمق في الكاميرات، ويتحدث بأريحية ويقدم إجابات واضحة وموجزة. بينما كان نيكسون يتصبب عرقاً وتبدو عليه عدم الجهوزية أو الاستعداد لهذه المناظرة.

من خلال اللقاء أيضاً انكشفت الأهمية الكبرى لتأثير التلفاز، إذ رأى أغلبية المشاهدين الأمريكيين الذين بلغ عددهم 70 مليون شخص أن كينيدي، قد خرج منتصراً. بينما رأى من استمعوا إلى المناظرة في الإذاعة أن نيكسون كان الأكثر خبرة، وأداؤه كان الأفضل. لكن بالنهاية، فاز كيندي وانتخب رئيسًا للولايات المتحدة بعد عدة أسابيع قليلة من المناظرة.

2. جيمي كارتر v.s جيرالد فورد (1976)

مر نحو 16 عاماً على مناظرة كيندي ونيكسون، انقطعت خلالها المناظرات التلفزيونية بين مرشحي الرئاسة، حتى أعاد كل من المرشح الديمقراطي، جيمي كارتر حاكم ولاية جورجيا آنذاك، والرئيس الجمهوري جيرالد فورد المناظرات مرة أخرى.

واجه المرشحان بعضهما البعض في 3 مناظرات دارت حول قضايا الشأن الأمريكي، والسياسة الخارجية، لكن أكثر اللحظات الفارقة بالمناظرات الثلاث، كانت اللحظة التي أعلن بها فورد في معرض إجابته عن سؤال حول النفوذ السوفياتي في أوروبا الشرقية، أنه «لا توجد سيطرة سوفياتية على أوروبا الشرقية، ولن تكون هناك أبدًا تحت إدارة فورد ».

مثّل هذا التصريح صدمة للعديد من السياسيين، وأثار عدد من الأسئلة التعجبية حتى  أن مدير المناظرة آنذاك، ماكس فرانكل من صحيفة نيويورك تايمز، لم يتمكن من كبح دهشته قائلاً: «أنا آسف، ماذا؟ هل فهمت أنك تقول إن الروس لا يستخدمون أوروبا الشرقية كمجال نفوذ خاص بهم في احتلال معظم البلدان هناك…».

وبالنهاية فاز كارتر بالانتخابات الرئاسية، ما جعل البعض يقول إن السبب وراء ذلك هفوة فورد والتي تسببت  في تدمير شعبيته وكلفته خسارة السباق الرئاسي. لكن في المقابل، لم يوجد دليل في استطلاعات الرأي التي جرت آنذاك على أن المناظرة وتصريح فورد بها قد أضر بحملته الانتخابية. فالناخبون الأمريكيون لم يهتموا بها كثيراً، وانصب اهتمامهم بالأساس على قضايا الشأن الداخلي من قبيل كيفية التعامل مع الركود والتضخم وارتفاع أسعار الغاز ومعدلات الجريمة المرتفعة.

3. رونالد ريغان  v.s والتر مونديل (1984)

أثبتت هذه المناظرة، تمتع الرئيس ريغان بقدر كبير من الخبرة والذكاء السياسي، ففي ذلك الوقت كان عمره 73 عاماً، فيما بلغ عمر منافسه نحو 56 عاماً، وقد وُجه له سؤال متعلق بقدرته على مباشرة أعماله وإدارة الولايات المتحدة بهذا السن الكبيرة، لكن ريغان تمكن من التحايل على السؤال وتحويله لصالحه بل وإحراج خصمه، قائلاً «لن أخوض في مسألة العمر هذه أثناء حملتي الانتخابية. ولن أستغل، وذلك لأسباب سياسية، مسألة صغر سن وقلة خبرة منافسي».

أمام هذه الإجابة، أظهر المرشح الديمقراطي والتر مونديل، ابتسامة صفراء. وفي مقابلة تلفزيونية جرت بعد ست سنوات من تلك الواقعة أكد أنه علم حين ذاك أن رد يغان سيسبب له أذى كبيراً. وهو ما تحقق بالفعل، حيث تمكن ريغان من الفوز بفترة انتخابات ثانية انتهت عام 1989.

4. المناظرات الرئاسية  (1992)& (2000)

أثبتت المناظرات الرئاسية عامي 1992 و2000، أن سلوك بعض المرشحين قد يؤدي إلى استبعادهم في بعض الأحيان. ظهر ذلك بشكل واضح في المناظرات بين بيل كلينتون وجورج بوش عام 1992، خلال إجابتهم على أسئلة الجمهور، حيث أبدى كلينتون قدراً كبيراً من التفاعل والاهتمام بأسئلة الجمهور والرد عليها، فيما كان الرئيس الجمهوري المنتهية ولايته بوش أقل صبراً واهتماماً، كما أظهرته الكاميرات مرات عدة وهو ينظر إلى ساعته وكأنه يريد هذا الوقت وهذه الأسئلة السخيفة أن تمر سريعاً، مما جعل العديد من الأمريكيين ينظرون إلى موقفه كدليل على عدم الاهتمام بتطلعاتهم ومخاوفهم، ما أسهم إلى حد ما في فوز كلينتون بالانتخابات الرئاسية ذلك العام.

أما مناظرات عام 2000، فتكرر الأمر مرة أخرى ولكن بصورة مختلفة بين المرشح الجمهوري حاكم ولاية تكساس جورج دبليو بوش والمرشح الديمقراطي نائب الرئيس ألبرت أرنولد آل غور. خلال هذه المناظرة بدا آل غور وكأنه هو المنتصر بالمناظرة، حيث كان بالفعل مناظراً قوياً يتمتع بقدر كبير من الخبرة، لكنه في المقابل تعامل بشكل عدائي مع بوش، حيث تنهد كثيراً أثناء إجابات بوش وبدا متعجرفاً وعدوانياً، وتحرك من منصته سائراً نحو بوش، بينما كان الأخير يجيب على سؤال، حتى ظن البعض أنه بصدد الاعتداء على بوش أو الهجوم عليه. وفي المقابل من هذا الأسلوب العدائي، أظهر بوش قدراً جيداً من الانضباط وبدا هادئاً قوياً حتى فاز في المناظرة، رغم أن آل غور كان الأقوى في النقاش السياسي.  

5. أوباما V.S كلينتون (2007)

خلال هذه المناظرة تمكن المرشح الرئاسي باراك أوباما من إزاحة هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، ومن ثم الوصول إلى البيت الأبيض، كما نجح في إقناع الناخب الأميركي بجدارته وقدرته على قيادة أميركا فيما بعد لفترتين رئاسيتين.

والحقيقة، أن الجانب الأبرز في مناظرات أوباما هو أنها عادة ما تعطي أهمية كبيرة للسياسة الخارجية، حيث يقدم خلالها أوباما خارطة طريق توضح معالم سياسته الخارجية. فخلال هذه المناظرة سأل الصحفي المرشحين «هل أنتما على استعداد للقاء قادة إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا أو كوريا الشمالية دون شروط مسبقة خلال أول سنة من الرئاسة؟».

رد أوباما آنذاك: «نعم، سأكون على استعداد»، وبالفعل خلال الفترتين التي تولى فيهما أوباما رئاسة الولايات المتحدة، التقى أوباما رئيسين من تلك الدول، كوبا وفنزويلا، كما سعى للتقارب مع إيران عبر البرنامج النووي، الذي اعتبره أبرز نجاحاته الدبلوماسية.

وعلى السياق ذاته، جاءت مناظرة أوباما عام 2012 مع منافسه المرشح الجمهوري ميت روماني والتي تمكن أوباما خلالها أيضاً من إقناع المشاهد بأنه الأجدر بالرئاسة، على الرغم من تركيز  منافسه على أخطاء أوباما في ملف الاقتصاد.

وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، رفض أوباما تأكيد منافسه روماني أن روسيا هي العدو الجيوسياسي الأول للبلاد، وجاء هذا اتساقاً مع سياسته الخارجية غير التصادمية، لكن لم يحالفه الحظ آنذاك، حيث ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بعد عامين تقريباً، ما أثبت صحة فرضية منافسه.

6. ترامب V.S هيلاري كلينتون (2016)

كانت هذه المناظرة السياسية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورغم مختلف التوقعات القائلة بأن هيلاري في تاريخها السياسي الطويل، ستتمكن من هزيمة ترامب بسهولة، لكن ما حدث كان العكس من ذاك. فقد فاجأ ترامب الجميع بتصريحات جريئة ولاذعة في أحيان كثيرة.

كانت الدورة الثانية من المناظرة بينهما أكثر حدة من الجانبين، لم يتصافح المرشحان، وركزت  هيلاري على مواقف ترامب المتشددة تجاه المهاجرين واتهمته بالعنصرية والتعدي على المهاجرين والأمريكيين الأفارقة وذوي الأصول اللاتينية والمعاقين. وفي المقابل ركز ترامب على أخطاء ومواقف عدة لهيلاري مثل وصفها لبعض الناخبين بالمثيرين للشفقة، كما عمد إلى جعل الجمهور يضحك بالشتائم والمزاح بدلاً من تقديم آراء متعمقة حول القضايا السياسية والاجتماعية. وبالنهاية تمكن ترامب من الفوز بالانتخابات الرئاسية ليمر 4 سنوات ويبدأ معها مناظرته الجديدة مع جو بايدن.

هل تؤثر المناظرات على توجهات الناخبين؟

بالطبع تلعب المناظرات السياسية دوراً مهماً في إظهار شخصية المرشحين وكيفية تعاملهم مع الخصوم وخطابهم للأمريكيين، كما تزود الناخبين بمزيد من المعلومات والمؤشرات حول أسلوب المرشح في التفكير وطريقته المتوقعة لإدارة شؤون البلاد.

 وفي بعض الأحيان تسهم إلى حد ما في تغيير مسار الانتخابات الرئاسية، كما رأينا سابقاً في المناظرات بين كينيدي وكلينتون (1960)، وكلينتون وجورج بوش (1992)، وكذلك آل غور وجورج دبليو بوش (2000). فخلال هذه المناظرات صدرت سلوكيات وهفوات عدة عن المرشحين للرئاسة ساهمت إلى حد ما في تغيير نتائج الانتخابات.

مع هذا، فواقع الحال يشير إلى أن دور المناظرات وإن كان مؤثراً في بعض الأحيان، لكنه ليس بالدور المحوري، فهي ليست عامل حسم في الانتخابات بشكل عام أو في التأثير على ميول الناخبين، فتأثيرها يكون واضح حال كانت هناك هفوات كبيرة وفارقة من المرشحين المتناظرين. أما غير ذلك، فهي تساعد فقط في توجيه الناخبين المترددين الذين لم يحددوا مرشحهم بعد.

ولعل أحد أبرز الأمثلة على هذا المناظرة بين ترامب وهيلاري كلينتون عام 2016، والتي أشارت معظم التوقعات آنذاك، إلى فوز كلينتون، بالنظر إلى فوزها بالمناظرة طبقاً لاستطلاعات الرأي بعد المناظرة، لكن ما حدث كان العكس من ذلك.

وقد أثبت هذا الأمر العديد من استطلاعات الرأي من بينها استطلاع رأي لمركز بيو للأبحاث، وضح أن 63% من الناخبين رأوا أن المناظرات كانت مهمة جداً أو مهمة إلى حد ما في مساعدة الناخبين على تحديد كيفية التصويت، لكن 10% فقط من الناخبين قالوا إنهم اتخذوا قرارهم بالفعل أثناء المناظرة أو بعدها مباشرة.

وبالنظر للعوامل وراء انخفاض تأثير هذه المناظرات في الناخبين، يبدو أن الأمر يرجع في أحد جوانبه إلى أن معظم التغييرات في تصور الناخبين بعد المناظرة قصيرة المدى. وفي جانب آخر، إلى الدور الكبير الذي يلعبه الارتباط الحزبي في الولايات المتحدة. فبحلول الوقت الذي تُجرى فيه المناظرات، يكون معظم الناخبين قد اتخذوا قرارهم بالفعل، نظراً لأن قرارهم هذا يعتمد على هويتهم الحزبية.

ماذا عن ترامب وبايدن ؟

دارت المناظرة بين الرئيس الجمهوري ترامب، ومنافسه الديمقراطي بايدن، وتناولت قضايا داخلية بحتة من قبيل سجلات ترامب وبايدن، قضية المحكمة العليا، فيروس كورونا المستجد، مسألة الاقتصاد، قضية العرق والعنف.

منذ الدقائق الأولى للمناظرة، تبادل المرشحان الاتهامات والإهانات الشخصية، والمقاطعات، إذ قاطعا بعضهما البعض بشكل متكرر، مما دفع بايدن  إلى مخاطبة ترامب قائلاً «هلا تخرس يا رجل». كما نعته بأنه كذاب ومهرج. قائلاً إن «كل ما يقوله حتى الآن كذب. أنا لست هنا لأبرهن أكاذيبه. الكل يعلم أنه كذاب». مضيفاً «من الصعب أن يحظى المرء بفرصة لقول كلمة واحدة بوجود هذا المهرج، عفواً هذا الشخص ».

سعى بايدن، خلال المناظرة، إلى اللعب على وتر جائحة فيروس كورونا المستجد، التي أودت بأرواح أكثر من 200 ألف شخص في الولايات المتحدة. فوضح أن ترامب أحد أسباب انتشار الوباء واستفحاله، حيث لم يبادر منذ البداية إلي تسخير كل الطاقات لتطويقه، مخاطباً الناخبين قائلاً «كم منكم استيقظ هذا الصباح وكان لديه كرسي فارغ على طاولة المطبخ لأنّ أحدهم مات بسبب كوفيد-19؟ ». كما وجه أيضاً اتهامات لترامب بالعنصرية والفساد والتهرب من تسديد الضرائب المستحقة عليه للخزينة الأمريكية.

في المقابل من هذا، اتهم ترامب منافسه بالافتقار إلى الذكاء وبأنّه دمية في يد اليسار الراديكالي.  قائلا: «أنت لا تمت للذكاء بصلة»، وأن بايدن حينما يبدي اعتزازه في أن أحد أبنائه قتل وهو يحارب في العراق مع الجيش الأمريكي، فقد تناسى بأن ابنه الآخر متهم بتعاطي المخدرات وقضايا فساد.

وبين هذه الاتهامات المتبادلة أضاع المرشحين بالفعل الفرصة الأولى لتعريف الناخبين بسياستهم المقبلة، ودفعوا قطاعاً كبيراً من الأمريكيين إلى القول بأنها أسوأ مناظرة في التاريخ.