بالتأكيد ليستْ المرّة الأولى التي تعرضُ فيها السينما قِصة تحوّلِ الطيّب إلى الشرير تحت وطأة الألم، أو الظروف، أو المجتمع. ولطالما صفقتْ الجماهير لمشاهد الانتقامِ -الجائر في بعض الأحيان- وتعاطفتْ مع المبادئ التي تقدّمُ لها شرًّا مُبررًا، فهي بذلك ترى انعكاسًا لما في داخلها أكثرَ مما تراهُ في نموذجِ البطلِ الجيد. بل وفي بعضِ الأحيان اعتُبِرَ الشَّرُّ في الظّروفِ القاسيةِ ثورةً من أجلِ إنهاءِ هذه الظروف.

هذا النموذج المُستهلكْ للتحوّل، وللثورة، وللشرير ليسَ ما نُشاهدهُ في فيلم «Joker». فجوكر ليسَ له مبدأ ولا يسعى للانتقام من المُسيئين فقط. حتى أولئك المهرّجين الذين اتخذوا من قناعهِ شعارًا لمظاهراتهم- والتي لم تكن مثالًا للثورة والتغيير والإصلاح بل مثالًا للشغب والعنف والتدمير- لم يكترثْ هو في أن يكونَ قائدًا لهم، وأنكرَ انتماءه إلى رسالتهم؛ فلا رسالةَ لهمْ ولهِ سوى الفوضى، والفوضى فقط.

هكذا وجدنا أنُفسنا أمامَ رسالةٍ مُعقّدةٍ ومُربكةٍ وخَطيرة، هو الشّرُ المُطلقُ إذًا؛ ذاكَ الذّي لا يَتجمّل ولا يدّعي، ولا يَملكُ إلا قانونًا واحدًا: ألّا ينتمي للقوانين! فكيفَ نُبررُ لمنْ لا يبررُ لنفسه؟ وكيفَ نبحثُ عنْ مبدأ لمنْ يسعى فقط لكسرِ المبادئ؟

من المُذنب الحقيقي؟

لمْ تَكنْ مُشكلةُ «آرثر فليك» (شخصية بطل الفيلم) الأساسّية في التّنمُّر، ولا أعتقدْ أنَّ «تود فيليبس» (مخرج الفيلم) أرادَ أن يُلقي باللوم على أفرادِ المُجتمع ويقدّم لنا جوكر نسخة «13 Reasons Why». فرغمَ مُساهمةِ الاعتداءاتِ الفرديةِ التي تعرَّضَ لها خلالَ الفيلم- والتي ربما لم تكن إلّا في رأسه- في تحويله إلى جوكر، إلا أنّها ليستْ سببًا في حالةِ الانفجارِ الجماعية العشوائية التي شاهدناها في الفيلم بوضوح، والتي تُوّجَ فيها رمزًا لتمرّدِ العديدِ من الجماهير الغاضبة.

فهنا يخبرنا أنَّ الُمشكلةَ لمْ تَعد مُشكلة آرثر وَحده، وليستْ قصة ولادةِ الجوكر فحسب، بل إنَّها مُشكلةُ الُمهرّجين والمَنسيّين وغير الموجودين. أولئك الذيَن وَجدوا أنفسهم تحتَ عجلةِ نظامٍ قائمٍ على النفعيّة الفردية، غير مبالٍ بعجزهم عن صعودِ تلك العجلة، ومُعليًا مبدأ المنافسةِ الحرة، دونَ مراعاةٍ لاختلافِ الطبقات (الّذي يخلّ في تكافؤ الفرص ويجعلُ من المنافسة غير عادلة). وفي غيابِ مفاهيمِ التكافُل الاجتماعي، وتخلّي الدولة ومُؤسساتِها عن دَورِهم في توفيرِ الخدماتِ الأساسيّة، وجدَ أصحاب رؤوسِ الأموال فُرصَتهم لاعتلاء السّلطة، وأخذِ زمامِ الّسيطرة واستغلالها فيما يُعمّق الفجوة بينهم وبينَ هذهِ الفئات العاجزةِ المُتزايدة.

عندئذ يُسمَّم المُجتمع بالفجوة الطبقيّة والاستغلال والكراهية، ويصبُح من العدالة اعتبار الاعتداءاتِ الفردية التي تعرّضَ لها آرثر نتيجةً وليست سببًا. فما الذي تُنبتهُ التُربةُ الفاسِدة سوى زَرعٍ غير صالح؟!

في النهاية يمكنُ القَول إنَّ آرثر والمُجتمع هم ضحايا الِنظام، وجوكر والفَوضى همْ نتائجه.

نظام ظالم آخر… والنتيجة ذاتها

وفجأة سقطت الفكرة في رأسي كلوح زجاج كبير ما لبث أن تكسّر وأحسست بشظاياه تتناثر في جسدي من الداخل… قلت لنفسي: أوف… ثم ماذا؟!
وقلت لنفسي: لا بد أن أكون موجوداً رغم كل شيء…
إن كثيراً من الناس إذا ما شعر أنه يشغلُ حيزاً في المكان يبدأ بالتساؤل: ثم ماذا؟ وأبشع ما في الأمر لو اكتشف بأن ليس له حق (ثم) أبداً… يُصاب بشيء يشبه الجنون، فيقول لنفسه بصوت منخفض: أيّ حياةٍ هذه؟! الموت أفضل منها… ثم مع الأيام يبدأ بالصراخ: أيّ حياة هذه؟! الموت أفضل منها… والصراخ يا سيدي عدوى؛ فإذا الجميع يصرخ دفعة واحدة: أيّ حياة هذه؟! الموت أفضل منها… ولأنّ الناس عادةً لا يحبون الموت كثيراً فلا بد أن يُفكروا بأمر آخر.
غسان كنفاني – رواية «أرض البرتقال الحزين»

«ثم ماذا؟»؛ هذا النّوع من الأسئلةِ المُلّحة الذي ما إن أتى لنْ يكون بِوسعهِ أنْ يبرحَ حتى يروي ظمأهُ تمامًا.

«ليس هنالك ثم ماذا»؛ وهذه الإجابة التي دَوتْ فجأةً في رأس لاجئٍ- في قِصّة غسان كنفاني- فأصابتهُ بالجُنونِ بعدَ لحظةٍ واحدةٍ من الَوعي بحقيقةٍ مُروعة: أنَّهُ وبالرُّغمِ منْ كلّ محاولاتِ التذويب التي حوّلتهُ من إنسانٍ إلى حالةٍ مُستغلّةٍ سياسيًا واقتصاديًّا ما زالَ موجودًا، وأنَّهُ رغمَ وجودهِ ليسَ لديهِ الحقّ (ثم) أبدًا.

الحقيقةُ ذاتُها التي تَفجرّت في وَعي آرثر بعدَ لحظةِ جنونٍ قتلَ فيها ثلاثةً من أبناءِ الطبقةِ الغنية. آرثر الفقير، المريض جسديًّا والمضطرب عقليًّا ونفسيًّا، الفتى الوحيد الذي وُلِدَ بلا أبٍ أو عائلةٍ داعمة، لم يفلح في اكتساب الأصدقاء، ولم يتمكن من الحصولِ على تعليمٍ خاص أو عنايةٍ صحيةٍ مُناسبة. الّشاب الذي افتَقر للموهبةِ في المجالِ الذي حلمَ أن يشقّ طَريقهُ فيه ليخرجَ من الدهاليز المُعتمة الى المسارحِ والأضواء.

آرثر الذي اجتمعتْ لديهِ كلّ الظروفِ التي تَجعلهُ في أعمقِ نقطةٍ في القاع، مَحرومًا من كل وسائلِ الصعود. تَدوس عليهِ كلّ الأقدام لترتفع، وبلا أيدٍ تُمتد إليهِ لترفعه. أيقظتهُ الحقيقة في اللحظةِ التي خَسرَ فيها كلّ شيء. فشعرَ بوجودهِ لأول مرّة وسُمعتْ صَرخَته. ولأنَّ «الصُراخ عدوى» التَقطَها كلّ منْ عامَلهُمْ النظامُ كَمُهرّجين «فإذا بالجميعِ يَصرخُ دَفعةً واحدة». أمّا آرثر الذي تمنّى يومًا أنْ يكونَ لموتهِ معنى عوضًا عنْ حياته، اكتشفَ أنَّه كالبقيّة «لا يحبونَ الموتَ كثيرًا» ولا بدّ لهُ من فِعلِ أمرٍ آخر.

خلفَ آرثر واللاجئ وكلّ منْ كان ضحيةً للعنصرية والتمييز قبَل أنْ يُصبحَ جانيًا؛ أنظمةٌ أُسسّت على مبادئ ظالمة وقامتْ بإقصاءِ الضُعفاءِ والأقليّاتِ من مُعادلتها، دونَ أن تُدركَ أنّها تُركّب قنابلَ موقوتة، وتَزرعُ ألغامًا في أرضِها.

فئاتٌ اعتادتْ أنْ تُعطَى ما يكفي بقائها فقط؛ لتُستغلَّ في بناءِ النّظام، ودون أن يسمحَ لها بالخروجِ عن هذا الهدف. ربما يُوقظها يومًا ما من موتها السريري وأحلامها المُستحيلة، جوكر يُخبرُها أنْ لا حقَّ لها بالصّعود ولا أمل، وأنْ لا خَيارَ لها إلا أنْ تَموت، أو تَسحبَ المُجتمع كلّهُ إلى الأسفل، وتُسقِطَ النظام في الفوضى.

وصفة الجوكر السحرية

هكذا استطاعَ «تود فيليبس» حلَّ مُعادلةَ الفوضى الصّعبة؛ في قاعِ مجتمعٍ فاقدٍ للانتماء، غارقٍ تحتَ مظلةٍ من شعارات في دواماتٍ بلا معنى.

كما تمكّن من فكّ شيفرة الجوكر الخاصّة؛ فنسجَ من زيّه الأيقونيّ مهنةً سابقةً رديئة لم تعطهِ إلا الذُّلّ، وأرجعَ ميلهُ للسخرية وإلقاءِ النكات العدوانية إلى حلمٍ بريءٍ لم يتحقق، وأضافَ لصوتِ ضحكاتهِ المستفزّة التي لا تنقطع إيقاعًا حزينًا لعجزهِ عن وَقفها.

ليُوجّه لنا سؤاله الأخير:

ما الذي تَجنيه عندما تترك مريضًا عقليًّا وحدهُ في مجتمعٍ يَهجرهُ ويُعاملُه كقمامة؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.