في نظام متعدد الأقطاب لا تهيمن فيه السلطة، ولا تتركز فيه القوة حول مركزين دوليين، يمكن أن تكون الأنظمة متعددة القطبية أكثر تعاونًا، حتى على افتراض شكل تناغمي للسلطة، حيث تعمل بعض القوى الكبرى معًا على وضع قواعد اللعبة وتأديب من ينتهكونها. ويمكن أيضًا أن تكون أكثر قدرة على المنافسة، كما أنها تدور حول توازن القوى أو أن تكون صراعية عندما ينهار التوازن.
ريتشارد هاس

لم تحظَ قدرات الصين المتنامية اقتصاديًا وعسكريًا بقدر أكبر من الاهتمام في دوائر النخب الغربية، مثلما تشهده في الآونة الأخيرة. فقد سمح الارتفاع الاقتصادي للصين بتوسيع قدراتها العسكرية في الوقت الذي تتبنى فيه بكين سياسة خارجية متزايدة، وهو ما جعل الولايات المتحدة تدير ركابها من الشرق الأوسط إلى آسيا في ظل إدارة أوباما، وخلقت تخبطًا في سياسة ومواقف إدارة ترامب تجاه النظام الشيوعي في بكين. وربما ذهب بعض المحللين إلى التنبؤ بحرب تدور رحاها بين بكين وواشطن بأدوات مغايرة لتلك التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.


ما بعد الكولونيالية: كيف تخطط بكين لخوض الحرب؟

في ظل تحولات ما بعد الكولونيالية، ومع إعادة هيكلة النظام الدولي وتحوله من نمط أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، لا تهيمن فيه قوة واحدة على السياسة الدولية، خاصة في أعقاب الخسائر التي تكبدتها واشنطن في أفغانستان والعراق والأزمة المالية العالمية 2008، وكذلك تغير قواعد إستراتيجيات روسيا بحربها في جورجيا وأوكرانيا وإعادة صياغة تدخلها في الشرق الأوسط بعد تغير الفواعل المؤثرة به، سعت بكين إلى أن تلعب دورًا في تغيير قواعد اللعبة دون خسارة جندي واحد، فكيف؟.

ففي أعقاب تأسيس الدولة الصينية الحديثة في 1949 وانتهاء حروبها مع الهند، تبنّت بكين إ ستراتيجية الانكفاء على النهوض الاقتصادي والتنمية المستدامة مع الحفاظ على تواجدها الدولي عبر الشراكات العالمية والقوة الدبلوماسية الناعمة بديلاً عن التدخل العسكري المباشر كآلية لتعزيز علاقاتها الدولية فإستراتيجيتها دفاعية الطابع، كما أنها لا تسعى إلى إملاء شروطها وسياساتها على الدول؛ بل تؤسس علاقاتها وشراكاتها على الحوار الحضاري من خلال نشر القيم الثقافية والدبلوماسية العامة والتعاون الاقتصادي واحترام سيادة الدول.

ولكن يأتي ذلك في إطار الاحترام المتبادل من الأطراف الخارجية لسيادة ووحدة أراضي الصين وعدم التدخل في شئونها الداخلية. وفي إطار التحولات السياسة الدولية عملت بكين على التخلي عن عدم تدخلها العسكري، ووسعت منذ عام 2004 آليات ووسائل تدخلها، وحددت توجهاتها في إطار الحفاظ على السلام العالمي، وتقديم المساعدات الإنسانية والدفع نحو عمليات الإغاثة وعمليات الإجلاء لمواطنيها من مناطق النزاعات، وحماية خطوط الاتصالات البحرية، ومكافحة القرصنة خاصة في منطقة خليج عدن، وأخيرًا محاربة الإرهاب

أدرك النظام الصيني من خلال قراءة تحولات ما بعد الكولونيالية والحرب الباردة أن الهيمنة العسكرية المباشرة أدت إلى تدهور اقتصاديات الدول الكبرى وتراجع مكانتها الدولية وفقدانها كثيرًا من الحلفاء، لهذا سعت بكين إلى تبني مفهومًا مغايرًا للهيمنة يمكنها من تحقيق مأربها، فهل نجحت؟.


في الحرب: عليك أن لا تضع اقتصادك تحت تصرف خصمك

نجحت بكين في ظل سياسات النهوض الاقتصادي والتنمية المستدامة أن تحقق معجزة اقتصادية جعلتها تحتل المركز الثاني عالميًا من حيث الإنتاج الصناعي بعد الولايات المتحدة، بالرغم من التحديات الكبرى التي واجهتها والمتمثلة في استيراد النفط، حتى أنها احتلت المركز الأول عالميًا كمستورد للنفط بعد توجه الولايات المتحدة لإنتاج النفط الصخري في 2013.

وتركزت جهود الصين حول أكثر من محور لتحقيق تلك المعجزة، حيث إنها تدور حول محور التنمية المستدامة داخليًا، وتطوير علاقاتها الاقتصادية خارجيًا وتأمين مصادر الطاقة المستوردة.

فقد عملت حكومة بكين على التحول من اقتصاد موجه إلى اقتصاد السوق، فركزت على النهوض الزراعي والصناعات الثقيلة والتكنولوجية والبنية التحتية وتشجيع الصادرات والانفتاح على المنافسة العالمية، فيما عملت على زيادة تجارتها العالمية؛ ومن أجل تأمين ذلك وتعويض أزمة نقص الطاقة والتقنية التكنولوجية لديها تأتي سياسة القوة الناعمة وبناء الشراكات العالمية كأهم آلية لضمان استمرارية النمو الاقتصادي لها.

تشير بعض التقديرات إلى أن الصين قد قامت بعقد أكثر من 50 شراكة متخطية بذلك الاتحاد الأوروبي (10 شراكات) والهند (20 شراكة)، كما تستهدف تلك الشراكات القوى الكبرى مثل روسيا، كتنسيق في مواجهة واشنطن، وثلاث شراكات مع واشنطن، وذلك لتأسيس نوع جديد من العلاقات بين القوى الرئيسية. ولكن من أجل تأمين تدفق نموها الاقتصادي والحفاظ على دورها العالمي والدولي في عالم أكثر تخبطًا، كان على الصين أن تجد لنفسها قوى ردع أقوى.


من الحظر يولد السلاح

مع نهاية عقد الثمانيات وتحديدًا عام 1989، اقتحم جيش التحرير الصيني بالدبابات ميدان تيانانمن الصيني، وقام بمذبحة ضد أكبر حركة ثورية صينية داعية للإصلاح الديمقراطي منذ إعلان قيام الدولة عام 1949. وفي ظل سجل انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها حكومة بكين، سعى الغرب إلى فرض عقوبات عسكرية وحظر بيع سلاح على الصين؛ لكنّ جيش التحرير الصيني كانت لديه من البدائل ما دفعه إلى إعادة هيكلة قدراته العسكرية، ليصبح ثالث أكبر قوى عسكرية على الأرض.

دفعت عملية حظر بيع الأسلحة الصين إلى محاولة استيراده من روسيا بدلاً من الغرب، فيما عملت على دعم الإنتاج الصناعي العسكري والتكنولوجي لتتحول من دولة مستوردة إلى ثالث أكبر دولة مصدرة للسلاح في عام 2016 بعد الولايات المتحدة وروسيا، كما عكفت بكين على زيادة حجم إنفاقها العسكري حتى باتت تحتل المركز الثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة من حيث الإنفاق العسكري متخطية بذلك روسيا في 2016، كذلك هدفت بكين إلى تطوير برامجها الاستخباراتية والتسليحية.

ويشير تقرير البنتاجون السنوي للكونجرس بأن الصين تسعى بشكل متسارع إلى تطوير قدراتها التسليحية مما جعل الفجوة بينها وبين أكبر قوة عسكرية، الولايات المتحدة، تتضاءل، حيث تمتلك الصين اليوم مثلاً أكبر قوة برية في العالم، فقد بلغ عدد أفراد القوات المسلحة الصينية نحو 205 مليون مقاتل.

وركزت الصين على عدد من مجالات التطور العسكري الصيني تتمثل في دعم تطوير برامج الصواريخ الباليستية متوسطة المدى، والعمل على تعزيز قدرات الأسطول البحري وبناء قوة قادرة على العمل عبر البحار، وإضافة العديد من الغواصات القتالية إلى أسطولها، والسعي نحو بناء حاملات طائرات متطورة حتى أصبحت أكبر قوة بحرية في آسيا.

كما أنها سعت إلى تحديث شبكة الدفاع الجوي وتعزيز المكونات الأساسية لها (IADS، الإنذار المبكر، وأنظمة سام) لتحتل المركز الأول آسيويًا والثالث عالميًا من حيث قدرات السلاح الجوي. وبالرغم من هذا التحديث المتسارع، إلا أن تقريرًا لمؤسسة راند يشير إلى أن سلاح الجو الأمريكي ما زال متفوقًا على غيره، فالولايات المتحدة لا تخسر حربًا في الهواء حتى في آسيا، وهو ما يفسر دعوة القيادة الصينية في أعقاب المؤتمر العام التاسع عشر إلى تطوير وتحديث قدرات السلاح الجوي ليصبح الأكبر والأقوى في العالم.

كما يشهد مجال الصراع حول الفضاء اهتمامًا أكبر لدى بكين والولايات المتحدة، حيث عملت الصين على إنتاج أنظمة صواريخ لاستهداف الأقمار الصناعية العسكرية. وعلى صعيد مجال الحرب السيبرانية، يشير تقرير البتاجون إلى أن بكين قامت بتنفيذ عدد من الهجمات الإلكترونية لعدد من أنظمة الكمبيوتر في جميع أنحاء العالم بما فيها الولايات المتحدة، بهدف جمع المعلومات الاستخباراتية ضد القطاعات الدبلوماسية والاقتصادية والدفاعية في الولايات المتحدة.

أما على مستوى التسليح النووي، فإن بكين تمتلك نظامًا ثلاثيًا للردع النووي عبر البر والبحر والجو، فهي تأتي في المرتبة الرابعة من حيث الترسانة النووية بمجموع 260 رأسًا نووية، فيما تحتل الولايات المتحدة المركز الأول بمجموع 7 آلاف رأس نووية، فيما تأتي بعدها روسيا ثم فرنسا.


هل ينجح ترامب في تحقيق توازن القوى في آسيا؟

الولايات المتحدة تسعى إلى توطيد علاقات بنّاءة مع الصين، ولكننا لن نتهاون مع التحديات الصينية للنظام العالمي التي تقوّض فيها بكين سيادة الدول المجاورة لها، وتعتدي على مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها.
وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون

في ظل المتغيرات الدولية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط والتي يشبهها ريتشارد هاس بحرب الثلاثين عامًا التي شهدتها أوروبا بين قواها المختلفة دينيًا وسياسيًا، وانخراط واشنطن وموسكو المسلّح فيها، ومع تعقد صراع الغرب مع كوريا الشمالية، يأتي انعقاد المؤتمر التاسع عشر العام للحزب الشيوعي الحاكم في الصين ليعلن استمرار نهجه نحو تنامي قدراته العسكرية والاقتصادية بشكل أسرع، وهو ما يثير قلق واشنطن الساعية إلى تحقيق توازن للقوى بين بكين وحلفائها بآسيا. فهل تنجح إدارة ترامب في تحقيق هذا التوازن؟.

فمع اقتراب مرور عام على تولي ترامب وإدارته شئون البيت الأبيض، يبدو أن واشنطن لا تمتلك بعدُ رؤية وإستراتيجية كاملة للتعامل مع الصين، فهي من ناحية تدرك مخاطر الصعود الصيني على حلفائها، ولكنها في نفس الوقت تدرك أهمية بكين الإستراتيجية في مواجهة كوريا الشمالية، ومن ثمّ سيكون على الولايات المتحدة العمل على تحقيق التوازن في آسيا، وهو ما بدا في محاولة تكوين جبهة رباعية في آسيا تتمثل في الهند واليابان وأستراليا بالإضافة إلى واشنطن أملاً في تحقيق هذا التوازن، وهو ما عبرت عنه زيارة وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون إلى الهند التي جاءت تزامنًا مع انعقاد المؤتمر العام للحزب، وقبيل زيارة ترامب إلى الصين في الشهر القادم.

في نهاية المطاف، فإن قواعد تشكيل الهيكل الدولي وتحديد الأدوار الرئيسية للفواعل المؤثرة في القطبية متعددة الأطراف هي التي ما زالت تحكم ماهية العلاقات بين القوى الكبرى، كما أن واشنطن وبكين تدركان أن عهد المواجهات المباشرة بين القوى الكبرى قد ولّى مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأن عصر الهيمنة الأحادية لم يعد يصلح لإدارة الساحة الدولية الشائكة، ومن ثمّ لن يكون أمام تلك القوى سوى العمل سويًا أحيانًا لوضع قواعد اللعبة وتأديب من ينتهكها في ظل قدرة عالية على المنافسة والتحدي.