في تمام الساعة السادسة وثماني دقائق مساءً، في الرابع من أغسطس/آب 2020، دوى انفجار كبير في مرفأ بيروت، وتحديداً في العنبر رقم 12، أعقبه انفجار ثان كان أشد قوةً وهولاً، نتجت عنه سحابة دخانية ضخمة تشبه عيشّ الغراب، ليُعادل هذا الانفجار زلزالاً بقوة 4.5 ريختر.

وقد أشارت التقارير الأولية إلى أن الانفجار كان بسبب شحنة من نترات الأمونيوم (شديدة الانفجار) تقدّر بنحو 2750 طناً موجودة منذ 6 سنوات في مستودع من دون إجراءات وقائية.

ما زالت ملابسات الحادث والأطراف المسئولة عنه مجهولة إلى الآن، وربما تنجح التحقيقات في الكشف عن الحقيقة، وربما لا.

من الشركة الفرنسية إلى اللجنة المؤقتة

تم افتتاح العمل في مرفأ بيروت رسمياً نهاية عام 1894، وكان تحت إدارة شركة فرنسية هي شركة «مرفأ وأرصفة وحواصل بيروت» بموجب امتياز من السلطنة العثمانية. وفي عام 1960 جرى استرداد الامتياز من الشركة الفرنسية ومنحه إلى «شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت»، برئاسة «هنري فرعون»، وعملت هذه الشركة على تطويره ليتحول إلى مرفأ إقليمي كبير. وجاءت الحرب اللبنانية لتقضي على هذا الدور. حيث كان المرفأ ميدان لمعارك شرسة بدأت في مايو/آيار 1976، وذلك بغرض السيطرة عليه ونهب ثرواته، التي قُدرت حينئذ بنحو مليار دولار.

وفي نهاية عام 1990 انتهت مدة الامتياز الممنوح للشركة، وخلال البحث عن بديل، شكّلت الحكومة لجنة مؤقتة لإدارة المرفأ، بدأ عملها عام 1993، واستمرت هذه اللجنة حتى اليوم وتحوّلت إلى لجنة شبه دائمة، وعُرفت باسم «اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت».

ومنذ ذلك الحين، تم تشكيل ثلاث لجان لإدارة المرفأ، آخرها وهي القائمة حالياً، تم تشكيلها عام 2002، وهي المؤلفة من 7 أشخاص، يتحكمون في إنفاق الأموال التي يتحصّل عليها المرفأ، فهي تحدد الأشغال وتُرسي الصفات بعيداً عن الرقابة الحكومية. حيث تفتقد هذه اللجنة إلى إطار قانون مؤسساتي، وهي لا تخضع لأي رقابة سواء من قِبل وزارة المالية أو من إدارة المُناقصات أو من ديوان المحاسبة أو من التفتيش المركزي، على الرغم من أنها تُدير مرفأ عاماً وتنفق أموالاً عمومية.

وبحسب دراسة صادرة عن المديرية العامة للدراسات والمعلومات في مجلس النواب في ديسمبر/كانون الأول 2019، فإن اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت تدير تعاملاتها المالية خارج أي أطر تشريعية، كما أن اللجنة لم تُودع وزارة المالية أي حسابات أو تقارير سنوية منذ أعوام عدة. وقدّرت الدراسة الإيرادات السنوية لمرفأ بيروت بنحو 240 مليون دولار يتم تحويل ما يقارب 40 مليون دولار منها إلى الخزينة العامة، في حين يتم إنفاق المبالغ المتبقية تحت بنود تشغيل وصيانة الميناء.

مرفأ استراتيجي

يشغل مرفأ بيروت موقعاً استراتيجياً مميزاً على ساحل البحر المتوسط، حيث يُشكّل مركز التقاء بين القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا. ويعتبر من أهم مرافئ المنطقة، وهو المنفذ البحري الرئيس لعدد كبير من الدول العربية. وقد شكّل محطة تجارية مهمة بين الدول العربية المنتجة للمواد الأولية والطاقة، والدول الغربية الصناعية. كما يعتبر مرفأ ترانزيت لدول عدة منذ أقدم العصور. وهذا ما جعل منه ممراً لعبور أساطيل السفن التجارية بين الشرق والغرب.

وقد احتل مرفأ بيروت المرتبة 73 بين 960 مرفأً حول العالم، والمرتبة التاسعة بين 61 مرفأ عربي على مؤشر الارتباط بـ«شبكة النقل البحري المنتظم للمرافئ للعام 2019»، والذي يصدر سنوياً عن منظمة «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» أو ما يعرف بـ الأونكتاد UNCTAD.

وعلى الصعيد العالمي، يتمتّع مرفأ بيروت بارتباط أفضل بشبكات الشحن العالمية من مرفأ أسدود في «إسرائيل»، ومرفأ ألياغا في تركيا ومرفأ مانزانيو في بنما. ويكفي أن نعرف أن 70% من حركة التبادل التجاري بين لبنان ودول العالم تتم عبر هذا المرفأ.

وتبلغ مساحة المرفأ الإجمالية 1.2 مليون متر مربع، والمسطح المائي نحو مليون متر مربع. ويتألف المرفأ من أربعة أحواض، يتراوح عمقها بين 20 و24 متراً، أما عدد الأرصفة فيه فتبلغ 16 رصيفاً، تنتشر عليها المستودعات المسقوفة والمكشوفة. وتبلغ مساحة أحواضه نحو 660.000 متر مربع.

صندوق لبنان الأسود

رغم أهمية مرفأ لبنان الاستراتيجية والاقتصادية للبلاد، فإن أسلوب إدارته جعلت منه صندوقاً أسود… كيان مستقل عن الدولة، لم تستطع التحكم في موارده أو إدارتها على الوجه الأمثل، وحتى في ظل ذلك الوضع المختل، ما زال المرفأ واحداً من المراكز الأساسية التي يعتمد عليها ​الاقتصاد اللبناني​ والخزينة العامة لتحصيل الأموال.

ومن المستغرب أن الحكومة اللبنانية ذاتها لم تتحرك بقوة وحزم لتصحيح الأوضاع في ذلك الملف، لدرجة أن رئيس الحكومة السابق «سعد الحريري» -خلال مؤتمر صحفي عقده في المرفأ في سبتمبر 2019- ذكر أن هناك حملات على المرفأ، بعضها سياسي وبعضها لتحسين الوضع، في إشارة للهجمات التي يتعرض لها المرفأ من الرأي العام، مع كل كشف جديد عن قضايا فساد. مُضيفاً: «المشكل الأساسي الذي لدينا ليس بالإدارة؛ بل بالجمرك والتهريب. لدينا 150 موقع تهريب، والبعض لا يتحدث إلا عن التهريب في المرفأ، هناك مشكلة طبعاً، ولكن نعمل على حلها».

وهي تصريحات –في أفضل الأحوال- تعكس درجة من السذاجة السياسية أو التبرير، والذي ينتفي معهما أي إرادة لتصحيح الأوضاع هناك.

وتتحدث التقارير أن موارد المرفأ تنقسم إلى منافذ عدة، أهمها رسوم المرفأ والجمارك. بالنسبة إلى رسوم المرفأ، فإنها من بين الأغلى في العالم، وهي لا تدخل في حسابات المالية العامة. بالتالي، لا تخضع لرقابة ديوان المحاسبة، ولا تتولى وزارة المالية أي دور بشأنها، باستثناء تسلم حصتها من دخل المرفأ، 25% من أصل الدخل الذي تنفرد بتحديده لجنة إدارة المرفأ.

وتُقدّر رسوم المرفأ خلال عام 2016، وفق الوزير السابق «فادي عبود»، وهو من المتابعين لملف مرفأ بيروت، بنحو 300 مليون دولار بالحد الأدنى. وهذه الأموال يجب أن يكون مصيرها واحداً وهو خزينة الدولة، كما يقول عبود، «لأن رسوم المرفأ تعتبر ضريبة سيادية وعلى الدولة تحصيلها، ولكن الواقع أن أموال المرفأ لا تدخل خزينة الدولة ولا تندرج في سياق مالية الدولة».

ويُقدَّر أنه في حال تحصّلت الدولة كل مداخيل المرفأ، ستكون الحصيلة دخول مليار و100 مليون دولار إلى الخزينة، والتي لا يُحصّل منها حالياً سوى الفُتات. ويمكن للدولة عن طريق تلك الموارد تمويل سلسلة الرواتب المقدّرة بـ1200 مليار ليرة، أي نحو 800 مليون دولار.

استهداف حزب الله

لطالما أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى سيطرة حزب الله على مطار بيروت واستعماله لنقل أسلحة استراتيجية ومقاتلين عبر طائرات مدنية إيرانية، تحاول تتبع مسارات جوية غير شائعة الاستخدام في الأجواء العراقية والسورية بهدف التخفي عن رصد حركة الملاحة الجوية. وكذلك الأمر مع مرفأ بيروت، حيث تشير التقارير إلى استخدام حزب الله للمرفأ لنقل الأسلحة الإيرانية وتهريب المخدرات، وإدخال الكثير من البضائع لتجار محسوبين على الحزب، دون أن تمر هذه البضائع على اللجان المعنية لفحص جودتها ومدى مطابقتها للمواصفات، ولا على الجمارك لدفع الضرائب للدولة اللبنانية.

لذلك، فلا شك أن حزب الله هو الخاسر الأكبر على المستوى السياسي واللوجيستي من انفجارات مرفأ بيروت، لأنه من جهة فَقَد –وفق التقارير- أحد أهم منافذ التعامل مع العالم الخارجي وحلفائه، بما يضر بمصالحه الاقتصادية والعسكرية.

من جانب آخر، فإن ملفات الفساد التي تُحيط بإدارة المرفأ، والتي تشمل بشكل كبير حزب الله، ستضعه موضع اتهام سياسي، وربما في موضع المسئولية المباشرة عن هذه الانفجارات. ناهيك أنه جزء من الإدارة السياسية للبلاد، التي تتحمل أسباب وعواقب هذه الكارثة.

لذلك من غير المُستبعَد أن يكون هذا الحادث من تدبير أحد فرقاء الداخل أو أعداء الحزب في الخارج، نظراً لتداعياته المباشرة على مصالح ونفوذ الحزب في لبنان.

لماذا تضرب إسرائيل مرفأ بيروت؟

رغم الروايات الرسمية حول الحادث إلى الآن، ونفي معظم الأطراف تورط إسرائيل في الحادث، فإن هناك احتمالاً قائماً، بأن إسرائيل تورطت في هذا الانفجار بصورة أو أخرى، ربما تكشف عنها التحقيقات خلال الأيام القادمة، وربما تظل مجهولة إلى الأبد، لكن يظل الثابت الوحيد أن إسرائيل تمتلك أسبابًا ومبررات قوية –من وجهة نظرها- لاستهداف مرفأ بيروت.

بالطبع قد يكون استهداف مصالح ونفوذ حزب الله في لبنان أحد أهداف إسرائيل الجوهرية في حال سلّمنا بتورط الأخيرة في الحادث. لكنه سيكون هدف ثانوي في مقابل أحد هدفين رئيسيين.

الهدف الأول

هو تدمير إحدى أهم البنى التحتية التي يستخدمها حزب الله في تهريب الأسلحة الإيرانية إلى الداخل، وذلك وفق الزعم الإسرائيلي، الذي خرج بشكل رسمي في يوليو/تموز 2019 خلال جلسة لـمجلس الأمن، قال خلالها السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة، «داني دانون»، إن إسرائيل قد «اكتشفت قيام قوات القدس التابعة لإيران خلال عامي 2018 و2019 باستغلال القنوات البحرية المدنية، خاصة ميناء بيروت، لإيصال الأسلحة لـحزب الله». وأضاف دانون أن ميناء بيروت أصبح الآن «ميناء حزب الله».

وذكرت كذلك قوات الاحتلال الإسرائيلي، عبر حسابها في تويتر، أن «قوة القدس قد استخدمت شركات مدنية لتهريب معدات تصنيع الصواريخ من خلال منافذ مدنية لتصل مباشرة إلى حزب الله». وبيّنت قوات الدفاع طرق التهريب التي زعمت أن إيران تستخدمها في تهريب الأسلحة، والتي شملت الشحن الجوي إلى مطار دمشق الدولي، ومطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، والشحن البري عن طريق معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسوريا مروراً بالعراق، والشحن البحري عن طريق ميناء بيروت.

الهدف الثاني

هو ضرب المصالح اللبنانية في مجالي النفط والغاز والطبيعي، بشكل يحرم لبنان من هذه الثروة في مراحلها المبكرة، لأنه ضرب تلك المصالح في مراحل لاحقة، قد يجعل إسرائيل في مواجهة مباشرة مع الشركات العاملة في لبنان (توتال الفرنسية، وإيني الإيطالية، ونوفاتك الروسية).

وتخوض إسرائيل معارك إقليمية شرسة في مجال استخراج النفط والغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط، إضافة إلى محاولتها لتصدير هذه المواد الأولية، حتى تتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، وإحدى هذه المعارك يقع في لبنان.

فبعد تأخير لعدة مرات، وصلت باخرة الدعم اللوجستي Lundstrom Tide المُستأجَرة من قبل شركة توتال الفرنسية وكذلك باخرة الحفر Tungsten Explorer إلى مرفأ بيروت في فبراير/شباط 2020، وذلك لبدء عملية الحفر واستخراج عيّنات من التربة للتأكد من وجود الغاز والنفط في المياه اللبنانية.

وبناءً على الدراسات الأولية للشركات المتعهدة، فإن لبنان يمتلك ثورة غازية ونفطية هائلة تصل إلى حدود 95 تريليون قدم مكعب من الغاز و900 مليون برميل من النفط، أي ما يوازي 600 مليار دولار من عائدات الغاز و450 مليار دولار من عائدات النفط. العائدات الهائلة للثروة النفطية والغازية في لبنان سيؤدي حكماً إلى دفع العملية التنموية وخلق آلاف فرص العمل تدريجياً، وإنقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية الخانقة الحالية.

وتنقسم الساحة النفطية البحرية اللبنانية إلى 9 بلوكات، يقع البلوكات 7 – 8 – 9 في الجنوب في حين أن البلوكين 1 – 2 في الشمال، والبلوك رقم 4 الذي سيبدأ الحفر فيه بين بيروت والبترون. أما البلوك رقم 5 فهو في المنطقة الحدودية مع اليونان وقبرص. وتحاول إسرائيل الحصول على حصة من البلوك رقم 9، نظراً لجودة ونوعية الموارد النفطية الموجودة في لبنان وفي هذه البلوكات تحديداً.

وتشكِّل البلوكات 8 و9 و10 نقطة خلاف مع إسرائيل، وتزعم الأخيرة أن البلوك 8 جنوباً يقع أيضاً داخل حدودها. وفي ظل هذا الخلاف اقترحت الولايات المتحدة عام 2012 على لبنان أن تقوم بإعطاء 360 كيلومتراً مربعاً من المياه اللبنانية لإسرائيل من أصل 860 كيلومتراً مربعاً هي مجموع مساحة ما يسمى الحقل النفطي رقم 9، وبالتالي يحصل لبنان على ثلثي المنطقة الاقتصادية مقابل ثلث لإسرائيل. غير أن لبنان رفض هذا المقترح على أساس أن المنطقة بكاملها ضمن المياه الإقليمية اللبنانية.

لذلك، من غير المستبعد أن تُقدِم إسرائيل على خطوة من شأنها أن تُعطِّل العمل في أحد أهم مرافئ البلاد (مرفأ بيروت)، وهو الذي يستقبل معظم السفن المسئولة عن التنقيب عن النفط والغاز، كما أن كارثة بهذا الحجم، لا شك أنها ستُعطِّل الاقتصاد اللبناني وستُلقي بظلالها على كافة مشروعاته الاقتصادية، خاصة مشروعات الطاقة، التي كانت وشيكة.