نحن نمتلك القوس والسهم ويمكننا ضرب الأهداف بقوة، لكن المشكلة هي أن بايرن ميونخ يمتلك بازوكا

هذه الكلمات للمدرب الألماني «يورجن كلوب» ترسم لنا طبيعة المنافسة الصعبة التي خاضها عبر سنوات مع ناديه السابق بروسيا دورتموند بمواجهة خصمه الأبرز بايرن ميونخ، المنافسة الألمانية التي رآها كثيرون من جمهور كرة القدم تقتصر بالسنوات القليلة الماضية على الأحمر البافاري والأصفر الفيستيفالي لم تمنح لغيرهم من أندية امتلاك السلاح القادر على مجاراة القوس أو زلزلة عرش البازوكا، لكن شركة «ريدبول» تأمل متسقبلًا بمفاجأة الجميع واقتناص فرصة لتحطيم الثنائية؛ بتعبير حربي آخر فإن لايبزيج قد يكون القنبلة الموقوتة!

لكن خريطة منافسة البوندزليجا لم تكن عام 1978 كما نعرفها اليوم، بل شهدت آنذاك سطوع أسماء تنجح بالكاد الآن باحتلال مراكز وسط الجدول مثل فرق شتوتجارت ومونشنجلادباخ وكولن، فيما جاءت أندية دورتموند وميونخ بالمراكز الحادية عشرة والثانية عشرة على التوالي، لكن موسم 78/77 حمل ما هو أهم وأكبر تأثيرًا بتاريخ المسابقة الألمانية من ذلك.

فعلى الرغم من أن قصة هذا الموسم التاريخي لم تلقَ رواجًا إعلاميًا عربيًا يناسبها، فإنها لا تزال واحدة من أبرز وقائع البوندزليجا وأكثرها إثارة وتحولت فيما بعد لمادة ثرية تدلل على ما يمكن أن تصل له اللعبة الشعبية بفضل المنافسة إلى إثارة منقطعة النظير تخطت حتى تسجيل 12 هدفا بمباراة رسمية مسجلة!


الطريق لـراين شتاديوم

احتفلت الجريدة الألمانية ذائعة الصيت «بيلد» خلال عام 2012 بمضي خمسين عامًا على افتتاح البوندزليجا، فاختارت الجريدة خمسين حدثًا مهمًا وقعت خلال السنوات الماضية بهدف توثيقها لجمهور المسابقة الألمانية.

من بين تلك الأحداث اختار المحرر «والتر ستراتن» واقعة موسم 78 التي شهدها بنفسه مباشرة من ملعب «راين شتاديوم»، فالتقى المدير الفني لبايرن ميونخ آنذاك «يوب هاينكس» الذي شهدت الملاعب الألمانية تألقه كقائد لهجوم مونشنجلادباخ قبل أن يبرع أيضًا كمدرب كبير.

لقد كنا نصرخ في بعضنا كلاعبين بهدف التذكير بضرورة تسجيل 10 أهداف!

هكذا بدأ «هاينكس» الحديث عن ذكرياته كلاعب بآخر مباريات موسم 77 / 78 الذي شهد صراعًا محتدمًا على القمة بين ناديه وبين كولن، حظي النادي المنافس بمهاجم لا يقل كثيرًا عن قدرات «يوب»، وهو «ديتر مولر» الذي قاد ناديه رفقة زملائه لتسجيل 86 هدفًا فقط بـ 34 مباراة، لتتحول أغلب مباريات كولن خصوصًا خارج الديار لرحلات تنزه جماهيرية لمشاهدة 5 أو 6 أهداف في شباك الخصوم والعودة من جديد لمدينتهم الساحرة كولونيا.

هكذا تربع كولن على صدارة الدوري بأداء فني جدير بتلك النتائج القوية، فيما لاحقه نادي مونشنجلادباخ بعد أن قلل الفارق بالنقاط وصعد من المركز الخامس وحتى الثاني بفضل 9 انتصارات وتعادلين، وأمل رفاق «هاينكس» باستغلال التعثرات القليلة للمتصدر وقلب الطاولة وإضافة اللقب الرابع على التوالي خلال الفترة الذهبية للنادي الذي تمتع حينها بأسلوب لعب هجومي اجتذب جماهيرية كبيرة بكل ألمانيا!

استمرت المنافسة بين الناديين، لكن بقي كولن على القمة مستفيدًا من أرقامه التهديفية الكاسحة حتى دخلت البطولة مرحلة الحسم، تحديدًا قبل آخر جولتين تساوت أعداد النقاط، لكن فارق الأهداف رجح كفّة فريق «مولر» الذي كان عليه استقبال شتوتجارت بالجولة التالية، أما الوصيف فكان على موعد للقاء هامبورج خارج الديار، تمكن كولن من الفوز بنتيجة 2 / 1 أما مونشنجلادباخ فقد قدم عرضًا قويًا ليفوز 2/6، ليصل فارق الأهداف لعشر أهداف فقط قبل المواجهة الأخيرة وإعلان البطل.

يشبه المحرر الإنجليزي «ويل شارب» هذه المرحلة من التنافس بين الناديين كالتالي: لقد أراد كولن أن يسأل جلادباخ؛ هل يمكنك القفز عاليًا؟ فيرد الأخير، نعم ولكن لأي مسافة؟ فيجيب كولن، أقصي ما تملك، ليقفز جلادباخ قبل أن يفاجئه كولن بالقفز مترات أطول!

لم يستقبل جلادباخ بالجولة الأخيرة ضيفه بروسيا دورتموند على ملعبه بسبب الإصلاحات، ولكن توجه الفريقان لملعب «راين شتاديون»، فيما حاولت جماهيره توفير المناخ المساعد عبر الحضور الكثيف والمساندة الكافية لرفاق «هاينكس» بالوقت نفسه كان كولن بطريقه لمواجهة فريق سانت بولي الذي تأكد هبوطه قبل تلك المواجهة.

مهمة الفوز بفارق عشرة أهداف بالجولة الأخيرة تبدو مهمة شبه مستحيلة، خصوصًا إذا ما اقترنت بشرط آخر وهو تعثر المتصدر كولن أمام فريق لا يملك كثيرًا من الدوافع لتقديم عرض كبير، لكن لاعبي جلادباخ اتفقوا على ضرورة الفوز بمواجهتهم الأخيرة، محققين أكبر عدد من الأهداف والتشبث بالأمل الوحيد الذي يتمثل بمقاومة لاعبي سانت بولي للآلة التهديفية لكولن.

يوب هاينكس (يمين) وديتر مولر مهاجم نادي كولن.


بتعرف تعد لحد كام؟

كانت الأجواء الجماهيرية أفضل ما تكون للاعبي جلادباخ، يقدر موقع «فوتبول سايت» أن أعداد الحضور جاوزت الـ 38 ألف مشجع جاءوا جميعًا لدفع عجلة الفريق نحو حلم معقد يتعلق بنتيجة خصمهم بنفس القدر الذي يتعلق بضرورة تحقيقهم لفوز عريض بمباراة رسمية.

لم تمر دقيقة كاملة من عمر المباراة وكانت تلك الكتلة الجماهيرية تحتفل بهدف «هاينكس» الأول، ثم الثاني، قبل أن يضيف زميله «نيلسين» الهدف الثالث لتشير لوحة المباراة بتقدم مونشنجلادباخ على دورتموند بـ6 أهداف كاملة قبل أن يطلق حكم المباراة صافرة انتهاء الشوط الأول!

انتعشت الآمال من جديد بعدما تقلص فارق الأهداف بين المتصدر والوصيف الذي احتاج حينها فقط لأربعة أهداف للتعادل مع كولن وبتلك الروح نزل من جديد لاعبو جلادباخ الذين ظنوا أن الأمر بات يتوقف على 5 أهداف إضافية فقط، خصوصًا مع تلك الأخبار التي وردت من هامبورج عن ظهور سانت بولي بحالة أكثر تماسكًا أمام المتصدر من تلك المستسلمة بدورتموند أمامهم.

حاول لاعبو دورتموند الوقوف على أرض صلبة مطلع الشوط الأول بهدف النجاة من هزيمة تاريخية ستلحق العار بهذا الجيل من لاعبيه، لكن تلك العزيمة تفتت بعد 14 دقيقة فقط عندما أضاف خصمهم هدفه السابع، ليشتعل من جديد الملعب بصيحات الجماهير التي كانت تظن أن الأمور لدى تلك النقطة من الزمان تسير باتجاههم؛ مجرد ظن.

وبنظرة على الطرف الآخر من المعادلة، فإنك بالتأكيد بدأت بالتساؤل هل سيتنازل كولن عن التتويج بتلك السهولة؟ مهما استأسد سانت بولي فهل ستخضع القوة التهديفية لفريق «مولر» باللحظات الأهم التي ستقرر من سيكون البطل؟!

الإجابة المنطقية على كل تلك التساؤلات هي لا بالطبع، لقد أدى كولن موسمًا كبيرًا، ومن الطبيعي ألا يسمح لاعبوه أن يفلت درع البوندزليجا بعد أن كان بين أيديهم، ولهذا السبب فقد أمطروا مرمى سانت بولي خلال المتبقي من المباراة بـ 5 أهداف كانت كفيلة بترجيح كفة فريقهم دون النظر لنتيجة الوصيف الذي أنهى مباراته بـ 12 هدفًا، ليحتفظ كولن بفارق 3 أهدف ويثبت ذلك الجيل من لاعبيه أحقيته بعرش الكرة الألمانية خلال الموسم وقدرته على عرقلة مسيرة جلادباخ التي حصدت اللقب ذاته لثلاثة مواسم سابقة.

لا مجال للحزن؛ تصح تلك الكلمات الثلاثة أن تكون عنوانًا لذلك اليوم التاريخي من شهر أبريل 78، فقد خرجت جماهير كولن محتفلة بالشوارع لاستقبال البطل المتوج الذي تمكن لاعبوه من حسم الصراع بعد موسم ماراثوني كانوا فيه الأجدر بالعرش، الأمر ذاته تكرر مع جلادباخ، فبعد أن حقق رفاق «هاينكس» تلك النتيجة الخرافية التي تحتفظ حتى الآن بأعلى سجل تهديفي خلال مباراة رسمية بعمر البوندزليجا استمرت جماهيره بالاحتفال داخل الملعب، بل خرجت بالشوارع لاستقبال الفريق الذي حاول واجتهد وقدم 90 دقيقة من الإثارة، وأحيا الأمل بنفوس جماهيره حتى وإن لم يحقق المعجزة.


فضيحة؟

لا تحتاج أن تكون أحد أنصار نظرية المؤامرة لتبدأ الشكوك بالدوران برأسك حول موقف دورتموند والربط بين النتيجة الثقيلة وبين افتراض تفويت اللقاء لجلادباخ بهدف مساعدتهم على الظفر باللقب في تلك الظروف الاستثنائية.

عمومًا فقد منحنا «أماند ثيس» لاعب دورتموند آنذاك إجابة شافية لتلك الشكوك، فوفقًا لتصريحات نشرتها عنه المجلة الإنجليزية Thesefootballtimes قال فيها بأن المباراة لم تُلعب بشكل عادل، وأن فريقه شعر بعدم الرغبة الحقيقية، لكنه عاد وأكد أنه لم يكن هناك ثمة أي اتفاق بين الفريقين قبل أو أثناء المباراة على الخسارة برقم معين، وإنما يرجع الأمر فقط للتخاذل.

يوافقه الرأي أحد أساطير مونشنجلادباخ «هيربيرت فيمر» الذي قضي 12 عامًا مدافعًا عن ألوان فريقه وفاز بلقب الفيفا لأفضل لاعب بالعالم عام 74 عندما نقلت عنه نفس المجلة تصريحات أبدى فيها ارتياحه بأن كولن هي من فازت بالدوري لأن أي نتيجة أخرى كانت لتفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الشبهات.

ولأن الألمان عادة لن يتركوا أمرا بهذه الحساسية دون التدقيق فيه، فقد افترض الاتحاد الألماني بداية وجود اتفاق مسبق بين الفريقين بهدف تفويت المباراة، وأجرت تحقيقا موسعًا ومقابلات مختلفة مع اللاعبين لتستقر نهاية لحقيقة أنه لا يوجد دليل واحد يشير لتلاعب قد حدث قبل أو أثناء المباراة.

علي الجانب الآخر، أعلنت إدارة دورتموند بعد ساعات من المباراة التي حملت نتيجة شديدة القسوة على فريقها إقالة المدرب «أوتو ريهاجل» بعد أن نال انتقادات لاذعة، ثم ألحقت به حارس المرمي «بيتر أندرولات»، المثير أن المدرب كان ينتوي تبديل حارسه بين الشوطين لكن الحارس أكد له أن كل شيء يسير على ما يرام ليتلقى 6 أهداف أخرى بالشوط الثاني!


Plot twist

لعلك انتبهت، عزيزي القارئ، لاسم مدرب دورتموند حينها الذي أقيل لفشله بإدارة المباراة وتحقيق أي تنظيم دفاعي أمام هجمات مونشنجلادباخ وتسببه في تلك النتيجة الثقيلة، لك أن تتخيل أن الرجل نفسه «أوتو ريهاجل» كان له بعد 26 عامًا أن يقود منتخبًا مغمورًا لا يمتلك أسماء ولا أدوات قادرة على صناعة الفارق كاليونان للفوز ببطولة أمم أوروبا 2004 متبعًا أسلوبًا دفاعيًا نموذجيًا قام على حسن التمركز والانتشار وإغلاق الثغرات أمام الخصوم وإدارة الهجمات المرتدة بفاعلية منقطعة النظير وضرب الخصوم من الكرات الثابتة!

كرة القدم عالم واسع، متعقد، قد يكون أحيانًا قاسيا، لكنه رغم ذلك شديد الجمال.