تعد مسألة الكلي من أكثر الإشكاليات المزمنة التي تتردد على الوسط الفلسفي، منذ تاريخ الفلسفة الأول، وما زالت تثار إلى يوم الناس هذا، ولا ينحصر طرحها على شكلها المنطقي الذي أُثير في زمن أفلاطون وأرسطو، ولا على شكلها الفلسفي لدى مُتقدمي ومُتأخري الحكماء، بل أخذ ينحى باتجاه المنعطف اللغوي وعلاقة الفكر بالمعنى وعملية الفهم، فتحول مدار بحث الكلي، من مسألة منطقية محضة إلى تأويلية في العصر الحديث للفلسفة.

كما أنه من الجدير أن ننتبه إلى أن معالجة إشكال الكلي ليست تحت علم واحد، بل عادةً ما يُزاحم إشكالات موجودة في علوم أخرى، ولذا فإن حل إشكالية الكُلي لا بد وأن ينطلق من حيثيات محددة، لاعتبار ألوان الإشكال قد تجدها متلبسة بعلوم عدة؛ في المنطق والفلسفة وفلسفة العلوم والرياضيات، بل حتى في اللسانيات، وهذا ما جعل أكبر عقل لغوي يعيش بيننا اليوم، وهو نعوم تشومسكي، يقول عن هذا الإشكال إنه أكبر مؤثر على البحث الدلالي اللغوي، وحلّه يمنحنا أفقاً جديداً لفهم الإدراك البشري.

سر المفهوم

يتلقّى الإنسان مفاهيم الموجودات التي يحسّ ويشعر بها، أي تلك الوقائع الجزئية التي تتشخّص في عالم الواقع، مثل: يوسف، هذا الكتاب، هذا البيت، هذه النافذة. فإنه لو تأملها، وجد كل منها لا ينطبق على فرد آخر، ولا يُصدَّق إلا على ذلك الموجود وحده، وهذا هو المفهوم الجزئي، وهو الذي (يمتنع صدقه على أكثر من واحد).

أمّا الُكلي، الذي هو موضوع المقالة، فهو ما ينبثق في الذهن ويتجاوز الصور المُشخّصة في الخارج، فالإنسان إذا رأى جزئيات متعددة، وقاس بعضها إلى بعض، سيرى أنها مشتركة في صفة واحدة انتزع منها صورة مفهوم شامل ينطبق على كل واحد منها، فمفهوم الكوب مثلاً يصبح أعم من الكوب الذي تتناول منه قهوتك الصباحية، والنار تصبح مفهوماً أعم من النار التي تراها من هذا الموقد أو ذاك القنديل، وهذا المفهوم الشامل هو المفهوم الكلي، والذي يعرفه المناطقة بأنه (المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على أكثر من واحد، مثل: إنسان، وحيوان، وسيارة، وحصان، وعالم، وأبيض).

أبيّن هنا أن المفهوم الكلي يفرض اصطلاحاً مطلقاً يتجاوز حدود الإدراك الحسي، فما من أحد مثلاً يستطيع الإشارة إلى أحد في العالم الحسي ليقول (هذا هو الإنسان)، أو يشير إلى ساعة معينة ليقول (هذا هو الزمان)، إنما نحن ننتزع من عالم الحس الصور الشخصية، فتصبح كليات، لأن العقل هو موطن المفاهيم أو الكليات، فينتزعها ويبدعها مهما بدا اختلاف نشأتها.

طبيعة الإشكال

شهدت المذاهب الفلسفية انقسامات واسعة في هذا الصدد، وطعن بعضها على تفسير كيفية صعود الصور الحسية إلى رتبة التجريد المفاهيمي، وانقسمت إلى ثلاثة مذاهب مشهورة في إثبات/نفي وجود الكليات في خارج الذهن، وهي كالتالي:

  1. المذهب الواقعي: وهو الذي يعترف بوجود المطلق/الكلي في الخارج، مثل أفلاطون وأصحابه من المؤمنين بالمثل.
  2. المذهب التصوّريّ: وهو الذي يقول بوجود المطلق/الكلي في الذهن، مثل أرسطو وأغلب المشاء والحكماء.
  3. المذهب الاسمي: وهو الذي ينفي وجود المطلق/الكلي في الذهن والخارج، ولا يستدل بالكليات، بل يعتبر تحققها الذهني أفكاراً مجردة.

والنقاط المحورية للاسميين في نقدهم للكلي عائد بصفة عامة إلى أن المفهوم الكلي لا يمكن إدراكه بالحواس، لأن الحواس لا تستطيع إدراك إلا الأشياء الجزئية، واعتبروا بأن عالم الواقع لا يحتوي إلا على الجزئيات، علاوة على ذلك فإنهم شدّدوا على أن المفهوم الكلي لا يمكن أن يكون موجوداً في الذهن، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يحتوي إلا على أفكار مجردة عن الأشياء الجزئية.

وأبرز هؤلاء الاسميين؛ ويليام أوكام (1285-1347م)، وجون لوك (1632-1704م)، وجورج بيركلي (1685-1753م)، وديفيد هيوم (1711-1776م)، وحديثاً برتراند راسل (1872-1970م).

برتراند راسل والمفهوم الكلي: عرض ونقد

وبناءً على موضوع المقالة فإننا سنأخذ بعضاً من نقودات الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني الشهير برتراند راسل لمناقشتها، وتحديداً الإشكالات الفلسفية على موضوع الكلي، بعيداً عمّا طرحه في مجاليّ المنطق والرياضيات، وبالأخص في كتابه الشهير (تحليل الفكر).

أولاً: عرض النقودات

  • نقده للتجريد واللجوء إلى المواضعة: اتضح نزوع راسل نحو الاسمية في كتابه (تحليل الفكر)، في اعتبار التجريد فكرة مرفوضة، فقال إن «ما يمكن قبوله هو الأفكار العامة فقط، والإنسان إذا أراد إعطاء الكلمات التي يستخدمها معنى، فعليه الاعتراف بأن ثمة فكرة خاصة يعدّها بذاتها تصبح عامة عندما يجعل منها فكرة تتجلى فيها جميع الأفكار الخاصة الأخرى من ذات الفئة». [1]
  • نقده لتطابق المفاهيم مع المصاديق: وقد اعترض راسل بشدة على نشوء المفاهيم العامة عند التصوّريّين، ولم يقبل أي تفسير يؤول إلى التطابق الذهني للكلي والصيرورة الخارجية في عالم الواقع، وانتقد الوحدة المفهومية التي يتميز بها الكلي في الذهن، فقال مُستدركاً على بيركلي إن «المفهوم الذي قدمه بيركلي غير ملائم، فالصورة بشكل عام هي نتاج لا لمثال نموذجي حي واحد، ولكن لعدة أمثلة نموذجية متشابهة مرتبطة مع بعضها». [2]
  • «اقتراح معقد»: أضاف راسل نقده لقيام المعاني الكلية في العقل قائلاً إن «اعتبار الأفكار التي تعني بعض الأشياء العامة، أي بعض الأشياء التي تتعارض مع الغامض والخاص في آن معاً، هو إعلان لاقتراح معقد».

ثانياً: تفكيك ونقد

  • المفاهيم العامة والمواضعة:

يرى راسل أن الفكرة الخاصة تصبح فكرةً عامةً تتجلّى فيها جميع الأفكار الخاصة الأخرى، غير أن هذا التجلّي المقصود لا يمكن فهمه إلا من خلال فهم فكرة التطابق، وهي التي تقوم عنده على المواضعة والاتفاق، وهذا يعكس فهمه لقيام اللغة؛ أي أن راسل يجوّز فرضية بناء المواضعات على الدلالة اللغوية قبل نمو العقل وصياغته للمفاهيم الكلية، غير أن هذا يلزم منه مشكلات أكبر في تصور العقل اللغوي.

فإن الكليات تتشكّل لدى الإنسان قبل أن يدخل محيط المواضعات في الحياة، وقبل أن يدخل في نظام الإشارات والدلالات اللغوية، التي لا تقوم إلا وسط جماعة لغوية ينتمي إليها، هذا لأن المواضعة بطبيعتها تتأخر عن هذه المفاهيم في عملية النشوء، بل إن هذه المفاهيم العامة هي مصحّح المواضعة، وأي افتراض معكوس سيتجه بنا نحو الدور المنطقي، حيث لا يمكن تصور قيام مواضعةٍ ما دون كليات ذهنية.

  • هل يلغي راسل جميع الصور الذهنية؟

على الأرجح أن راسل لا يعني في نقده للمحتوى الذهني جميع الصور، ولا أظن أنه ممن تجرّه محفزات التطرف المذهبي ليشمل في كلامه صور المفاهيم الرياضية وقواعد الفلسفة، ولو حملنا الكلام على نفس الدلالات التي جاء بها نصه بمعزل عن أي متغير آخر، فلن يليق ذلك بحجمه كفيلسوف رياضي، لأن ذلك يضرب مفاهيم كثيرة، ويؤدي إلى القول إن بعض الأسس الرياضية ما هي إلا صور خاصة عند عملية التحليل، ولذا فإن الحكم على راسل في هذه الجزئية بالتحديد يتطلب مزيداً من الفهم وتوسعة نطاق البحث للوصول إلى تمام مطلبه وتقريره.

وأجد أنه يمكن حمل كلام راسل على الصور التي هي وليدة العلم التجريبي، والتي تتشكّل خلال تحولات المادة خارج الذهن، ولو أشكل راسل على هذه المسألة، فإنه قد حلها بنفسه في كتابه (مجال المعرفة الإنسانية وحدودها)، والذي يعد من أواخر كتبه، حيث قرّر راسل أن هذه المشكلة من الأساس هي مشكلة استقرائية.

  • الصورة المفهومية:

لم يستطع راسل القول بوجود أفكار عامة إلا باعتبار هذا الاقتراح «معقد»، فمن المعقد عنده أن ينتهي التفسير على هذا الوجه، وهذا من شأنه إلزام راسل نفسه بأن الاقتراح الذي قصده لا يمكن تفحصه من خلال الملاحظة الذاتية وما من طريق لكي نقول عنه إلا أنه مفهوم لا يمكن رصده في عالم الخارج. وراسل في نفس الكتاب يكرّر نفس الادعاء ولكن على نحو آخر، فيقول إن «الحدث الذي تستند إليه الصورة يمكن أن يكون متنوعاً ضمن حدود معينة دون أن تكون الصورة مختلفة بدرجة كبيرة». [3]

ولا يمكن قراءة هذا الكلام إلا عبر طريقين، الأول أن مقصود راسل من الواقعة هي واحدة بعينها، كما لو أن رجلاً شرب قهوة في الدقيقة الثامنة من الساعة التاسعة صباح هذا اليوم، أي أن هذه الواقعة محددة بالتفصيل الزماني والمكاني، فيكون التنوع في هذا الحدث واصفاً طبيعته وصيرورته، أو أن مقصوده كوب القهوة في مراحل متعددة غير محددة. وفي الحالتين، فإن هنالك صورة لمتغيرات ثابتة في عملية الاستحضار الذهني، هنالك صورة للكوب، والغريب أن راسل يصف كثيراً من الصور بحيثيات محددة مثل قوله «لا تختلف بدرجة كبيرة» و«متنوع الحالات» إلا أنه ما زال يُصرّ على اعتبار ذلك صورة غامضة.

أمّا ما قد يعترض عليه الاسميون في أن هذا الاختلاف في الصور ينقض القول بأن المفهوم الكلي مُتصف بالوحدة، وهو مماثل للاعتراض الذي ذكرناه أعلاه في (ب)، فهو ناشئ عن الخلط بين الأحكام المنطقية والأحكام الفلسفية، والكلية والوحدة المفهومية ليست بلحاظ وجود تلك الصورة وإنما بلحاظ المفهومية، أي مما تعكسه من أفراد ومصاديق، وبعبارة أخرى؛ فإن ذهننا عندما ينظر إلى المفهوم نظرة استقلالية بما أنه مرآة ويجرّب قابلية انطباقه على مصاديق متعددة فإنه ينزع منه صفة الكلية، وبذلك تتكون عنده صورة مفهومية واحدة، ومن الطبيعي أن تتفاوت وفقاً لقربها من المحسوسات.

خاتمة

من المهم عند مناقشة أطروحات برتراند راسل حول الكلي أن يمسك القارئ حيثية محددة، فالإضاءات النقدية العامة في هذه المقالة تقتصر على الواقعية التجريدية للكلي في الأذهان، إلا أن مسألة الكلي أعم وأعمق بكثير، وتتصل حيثياتها بمسائل أخرى، مثل الاستقراء وعبور الأحكام إلى أحكام كلية، وكيفية التنبؤ بمحمولات القضايا وموضوعاتها في المستقبل، كما أنها ذات خصوصية واستقلالية في علوم أخرى، بمباحث أخرى تُكتَب وتُناقَش باصطلاحاتها، مثل الرياضيات وفلسفة العلوم.

كما أنه من بالغ الأهمية قراءة برتراند راسل قراءة سياقية، وعدم إهمال الصيرورة التاريخية في عصره والاتجاه نحو الفلسفات التحليلية، فإن راسل ممّن حاولوا في العصر الحديث إيجاد مقاربات بين العقل الرياضي والعقل التجريبي، أي بين منتهى التجريد والواقعية، ومن الممكن أن تكون هذه القراءة مناسبة لصياغة مدخل يبحث العلاقة بين المفاهيم الكلية وتطبيقاتها على مصاديقها، على ضوء منهج تفسيري مغاير.

المراجع
  1. تحليل الفكر لبرتراند راسل، ص239 – دار الفرقد، ترجمة: فاروق عبدالحميد.
  2. المرجع السابق، ص242، بتصرف يسير.
  3. المرجع السابق، ص245.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.