في مقال سابق بيّنا أن نقل الخبر يمكن تحليله إلى عناصر ثلاث: الناقل، وعملية النقل، والخبر المنقول نفسه.

وقد تكلمنا قليلًا – بمقدار ما تسمح به طبيعة هذه المقالات – في الناقل، ونتكلم الآن في عملية النقل نفسها.

(1)

في أيام والدي – رحمه الله – الأخيرة ساءت حالته ونقلناه إلى المستشفى، وجدت أخي يتصل بي صباح يوم يخبرني بوفاته، لم أشك لحظة في الخبر، فقد قارب الوالد – رحمه الله – الثمانين وحالته شديدة التدهور ومحجوز في العناية، لا مجال للشك في «الخبر».

على عكس الأمر كان الحال مع أمي – رحمها الله – فبرغم مرضها الطويل فإنها رحلت فجأة عنّا، لم تكن هناك مؤشرات للنهاية، وإن كنا نعرف اقترابها، اتصلت بأخي المسافر فكان أول رد فعله: أتمزح؟

أجبته: وهل في هذه الأمور مزاح؟

كان الفارق بين موقفي وموقف أخي هو «القرائن» الخارجية التي أحاطت بالحدث الذي نُخبر عنه، فالمريض الذي أوشك على الموت تصديقُ خبر وفاته أقرب للنفس من تصديقها لخبر وفاة مفاجئ لشاب قوي صحيح مثلًا.

لذا فقد تميل النفس لعدم تصديق وفاة الأخير فجأة أول الأمر، ولكن إن لاحظت أن مثل هذه الأخبار لا يدخلها الهزل عادة بين الناس، وأنها ممكنة في ذاتها، مالت نفسك للتصديق وتركت الشكوك، ولا سيما إن بدأ الناس يؤكدون الخبر المنقول.

لهذا نميل عادة إلى عدم التشكك في خبر مديرك في العمل بأن لديك لقاءً مع عميل مثلًا، لأن هذه الأخبار لا يدخلها الهزل، في حين أنك قد تتشكك عندما يخبرك أحدهم أنه كل يوم هناك مشاكسة ومشاكل مع زوجته، قد تحدث نفسك أن الناس يخافون من الحسد فيختلقون هذه القصص.

(2)

في الطريق لمكان جديد يكثر سؤالك للناس عن المكان، فإن اتفق وصفهم بأن المكان الذي تطلبه في اليمين الثاني من طريقك، فستجد نفسك أقل ترددًا في دخول هذا اليمين، رغم أنك شككت في جواب أول شخص لتردده وتلعثمه، ولكن العديد أخبرك بالأمر نفسه، لا مجال للشك إذن.

منذ سنوات طويلة كنت أسير مع أخي في مصر الجديدة مستقلين «الترام» من مدينة نصر، عندما وصلنا كانت رائحة الدخان تملأ الجو، بدأ الناس يتحدثون بأن متجر «الحرية» الشهير في هذا الوقت احترق، بدأنا بدافع الفضول في التحرك نحوه، وجدنا الناس يهرولون، سيارات الإطفاء والإسعاف، الدخان يزداد، والناس كلها تقول الأمر نفسه، وصلنا وقد اشتد الزحام حتى ملأ الناس الشارع ولم نستطع الاقتراب أكثر من ذلك، وبرغم أننا لم نشاهد ألسنة اللهب، فإن الأمر عندنا بات يقينيًا لا شك فيه، فهذه الجموع وسحابات الدخان هذه وسيارات الإطفاء وغيرها من «القرائن» تأبى إلا أن نجزم بأن الأمر يقيني لا شك فيه.

(3)

هذه الأمثلة المضروبة تشرح فكرة بسيطة يُعبِّر عنها علماء النقل بـ «القرائن المحتفة بالأخبار»، ومعظمها قرائن ترجع لقانون العادة التي تؤكد ندرة الكذب أو الوهم في هذا الأمر، بعض هذه القرائن عددي وبعضها حسي وعادي، لكنها لا شك تتفاوت في نفوسنا ولا نستطيع في لحظة معينة تكذيب كل هذا، بل ربما نصل في درجة معينة إلى اليقين الذي لا شك فيه.

من هنا جاء التقسيم الهرمي للأخبار، فخبر شخص مجهول أقل درجة من خبر شخص تعرفه وتثق فيه، وخبر هذا الثقة تتأخر رتبته عن خبر رجل مدقق لا يمزح ولا يكذب، وهذا بدوره تقصر رتبته عن مثله إن احتفت به قرائن حسية أو عادية تؤكد صحة كلامه، وهذا بدوره تقصر رتبته عن مثله إن تزايدت الأعداد من الناقلين للخبر المتفقين – من غير لقاء مسبق بينهم – على نفس الخبر.

يعبرون عن الأول بخبر الواحد وعن الأخير – في درجة كثرة معينة – بالتواتر، وعن الأحوال الوسطى بخبر الآحاد المحتف بالقرائن.

وبقطع النظر عن الجدل في النوع الوسيط، وهل يمكننا فيه بسبب هذه القرائن الوصول لليقين أم ستبقى فقط غلبة ظن واحتمال قوي أقوى من الأنواع التي تسبقه في الرتبة، فإن ما نريد تقريره هو أن النفس صارت أشد تصديقًا، وتدرك – بداهة – الفرق بين الخبرين.

(4)

قد ترى أن الكلام السابق لطيف مقنع لأول وهلة، ولكن إن دققت النظر وجدت أن الأمر لا يسير دائمًا بهذا الوضوح، ولنوضح ذلك:

في الخيال الشعبي الكثير من الأساطير، كقصص «علي الزئبق» و«الشاطر حسن»، وهي قصص متناقلة بـ «كثرة»، وكلنا يعلم أنها خرافة من نسج القُصاص، ولا يصدقها إلا البله من الأطفال.

ولِمَ نذهب بعيدًا؟ ألم تخرج علينا بعض الأخبار مؤخرًا أن «ريّا» و«سكينة» أشهر سفاحتين في التاريخ الحديث هما في الحقيقة مناضلتان ضد الإنجليز، وتم تشويه صورتهما عن عمد؟

أليس الكثير من الوقائع التاريخية وقع تزييفها عن عمد وتمر السنوات الطويلة حتى تكشف الوثائق عن حقائق أخرى غير التي كان يتناقلها «الكثير» من الناس، بل كلهم، حتى لو تحدث غيرهم بهذا حينها لوصفوه بالجنون.

ولِمَ هذه الثقة في الكثرة وأي دارس لعلم الاجتماع يعلم ما يعنيه الوعي الجمعي وسهولة التأثير عليه وتوجيهه في جهة معينة؟

ألم تشاهد تلك التجربة التي صنعوها في عيادة أحد الأطباء في أثناء الانتظار، من إدخال واحد على مجموعة من الممثلين، يقومون وقوفًا – باتفاق مسبق بينهم – كلما سمعوا صوت صافرة، فلم يجد بُدًا هذا الشخص – بعد تردد – من مشاركتهم فيما يفعلون، ثم تم سحب هؤلاء الممثلين شيئًا فشيئًا، وظلوا في إطلاق الصافرة فظل الشخص يقوم وحده، بل بدأ في “نقل” هذه العادة المصطنعة إلى أناس جدد دخلوا عليه لا يعرفون شيئًا عن التجربة، ثم استمرت فيهم العادة؟

ألم تشاهد مقطع الفيديو المضحك لكاميرا خفية في أحد البلدان الآسيوية، من رجل يدخل في طريق فيجد العشرات يأتون جريًا مذعورين صائحين فيخاف بدوره ويجري معهم مذعورًا وهو لا يعلم السبب.

أليس هذا من تأثير الجموع على الخبر أو من تأثير العادات والسياسات على الجموع؟

بل إن علماء النفس يحكون أن النفس قد تبدأ في توهم أشياء محسوسة إذا ظل الناس يخبرونك بأنهم يشاهدونها، وفي قصص اجتماع الناس لمشاهدة العذراء – عليها السلام – يميل علماء النفس إلى فرضية أن ما شهدوه – إن لم يكن خدعة بصرية – فهو توهم جماعي، وحتى إن لم تر شيئًا فكثرة الناس حولك الذين يقولون نحن نراها ألا ترى ما نرى؟ ها هي هناك! سيجعلك هذا تبدأ في توهم الصور وتخيل الأشياء.

بل ألا ترى أن الأمم الأكثر عددًا منك تؤمن بأديان لا تؤمن أنت بها، وترى أنهم رغم كثرتهم على خطأ بيّن؟

وفي القرآن الكريم نفسه إنكار لصلب المسيح عليه السلام، على الرغم من أن الجموع الغفيرة التي شهدت الحدث تناقلته وصدقته، فأي فرق بينهم وبينكم، فتصدقون ما تنقلون ولا تصدقون ما ينقلون؟

فهذا كله ينقض ما تكلمت به عن الثقة بالكثرة والقرائن، بل يقدح في الثقة بسائر الأخبار.

وهذا كلام يحتاج إلى فك وتحليل دقيق لنميّز بين الأسطورة والنقل الصحيح، وبين الحقائق والأوهام، فليكن موضوع المقال القادم بإذن الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.