يتعرض هذا المقال في طرحه لاتجاهين: اتجاه ينشغل بما كُتِبَ عن تجربة «الإسلام الآسيوي» بشكل عام والتجربة التاريخية الإسلامية في إندونيسيا بشكل خاص، واتجاه يستعرض لقطات من سفري لإندونيسيا منذ عام ونصف تقريبًا [1]. وبالتالي، نسعى وراء الارتحال بعيدًا عن عالم العرب للتوجُّه نحو عالم آسيوي تفاعل مع الإسلام وتشرَّبه على امتداد قرون، ثم التخصيص أكثر من خلال التداخل مع تجربة دولة إندونيسيا مع الإسلام والحداثة.


إن المقتنعين بأنهم يدركون/يعرفون عن الإسلام أكثر من الآخرين، وفي الوقت نفسه تملأهم مشاعر الكراهية تجاه مخلوقات الله الذين لا يسافرون معهم على نفس الطريق الذي يتَّبعونه، وهؤلاء الذين يدَّعون امتلاكهم للحقيقة المطلقة ولذلك السبب خوَّلوا لأنفسهم أن يتصرفوا كنوَّاب عن الله في الأرض (أي خلفاء) ويقومون بإخبار الآخرين، في لهجة آمرة، كيف يحيون، فإن كلامهم وتصرفاتهم لن يؤدوا إلى حضور الله. إن حلمهم بإقامة دولة إسلامية بالكاد مجرد وهم، وذلك لأن الدولة الإسلامية الحقيقية لا تتأسس في بنية أي حكومة، وإنما تتأسس في قلوب هؤلاء المنفتحين على المحبة لله ومخلوقاته.

الرئيس الأسبق لإندونيسيا –الراحل– عبد الرحمن وحيد من مقدمته لكتاب «وهم الدولة الإسلامية»


تختلف معادلة التأثُّر والتأثير، بطبيعة الحال، فيما يتعلق بالإسلام، حين نقارن بين سياق ظهور الإسلام في مجتمع شبه الجزيرة العربية وبين تحركه لدخول آسيا. وإذ يصبح الحال كذلك، يلزم لنا أن نفهم طبيعة تلك المجتمعات الآسيوية من حيث أنظمتهم الثقافية، ولغاتهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، ومعتقداتهم وكيف ينعكس كل ذلك على تفاعلهم مع الإسلام.

وإذ يتعلق الأمر، في البداية، بلحظة الالتقاء بين الإسلام وهذه المجتمعات، فإنه يلزم التنويه بأن طبيعة التلاقي نفسها –في تراوحها بين السلمية والعنف– تلعب دورًا هامًا في إنتاج نواتج معادلات التأثير والتأثُّر بين الإسلام وهذه المجتمعات. كذلك يندرج الوعي الجمعي والثقافة السائدة لهذه المجتمعات ضمن أهم العوامل المؤدية لفهم دور الدين الإسلامي فيها. وبالتالي فإن الدين ليس وحده «العامل المؤثر في حياة الناس ومسيرة المجتمع التاريخية وإنما هناك عوامل أخرى عديدة تنهض بدور مهم كالاقتصاد والبنية العرقية الثقافية التي زُرع فيها الإسلام والتركيبة الاجتماعية والتاريخية وحتى المناخ .. إلى غير ذلك من العوامل التي تؤثر في الإسلام وتلوُنه بألوانها وتظهره في لبوس خاصّ» [آمال قرامي (آ. ق): الإسلام الآسيوي].

والحق أن الرؤى تتعدد فيما يتعلق بطبيعة دخول الإسلام للبلدان الآسيوية؛ فقد ظل الإسلام، على سبيل المثال، ينتقل لجنوب شرق آسيا على امتداد قرون. والظاهر أن المصادر الأوَّليَّة لنشاط البعثات التشيرية الإسلامية تمثلت في جوجارات Gujarat ومالابار Malabar في غربي الهند. ثم أتى العرب من حضرموت بالتحديد. ويذهب أحد الباحثين في الشأن الإندونيسي إلى أن أهل منطقة الـ Indies [2] تحولوا إلى الإسلام «بطرق سلمية» [نصر حامد أبو زيد (ن. ح)]. كما أن تلك الأسلمة قد تمت من خلال جهود كل من التجار والدعاة والغزاة .. (إلا أن) انتشار الإسلام بطريقة سلمية (تمَّ بفضل) البعثات التجارية التي نهضت بدور مهم في الدعوة إلى الإسلام فكانت بذلك سببًا من أسباب تعرّف الشعوب الآسيوية على هذه الحضارة أولًا ثم اعتناق الدين في مرحلة ثانية ..» [آ. ق].

وفي المقابل، يميل بعض المؤرخين إلى القول بأن الإسلام قد انتشر في بعض البلدان الآسيوية بقوة السيف (مثل أذربيجان التي فُتحت بعد قتال شديد سنة 22 هـ، وهمذان التي فُتحت سنة 23 هـ)، إلا أننا نجد أيضًا أن الأمور قد تتحول من السلمية للعنف أو العكس؛ فـ «تذكر المصادر أن حملات فتح الهند كانت في البدء سلمية لكن سرعان ما عقبتها حملات عنيفة قادها الغزاة الأتراك ثم المغول فالأفغان وقد قامت على النهب والتخريب مما جعل عددًا من سكان الهند ينعتون الإسلام بأنه (الإسلام الغازي المناهض للحضارات القديمة)» [آ. ق][3].

ويتحول الإسلام، حين إهمال البعد الثقافي والطبيعة المجتمعية لمن يذهب الإسلام إليهم، إلى «وصفة سحرية» يتم من خلالها مداواة من يُنظر إليهم –وفق الوعي الأصولي أو التاريخي التحليلي المؤدلج- في المجتمعات غير العربية باعتبارهم مرضى أو مجاذيب أو فئة ضالة يجب هدايتهم، ولا يلزم توجيه الاهتمام لكل ما ساهم في تشكيلهم جيلًا وراء جيل إلا بهدف النقض والهدم بشكل أوَّلي. وفق هذه الرؤية، نجد أن حضور الإسلام هو حضور «تعديل مسار» و«توجيه» و«وصاية» وليس أبدًا حضور «تفاعل خلَّاق».

بمعنى آخر: إن كان الله قادرا على أن يقول للشيء «كُن فيكون»، فإن الأمر يصعب أن يكون كذلك مع دينه. وذلك لأن الله في مفارقته [4] لا يستوي مع وحيه –المُتَنَزِّل في سياق ثقافي/ تاريخي/ اجتماعي/ اقتصادي/ جغرافي محدد … إلخ– إذ يندرج في مسار حركة التاريخ؛ فينضبط بها، ويضبط من يحيون هذه اللحظة التاريخية في آنٍ وفق مفهوم التأثير والتأثُّر [5]، أو ما أفضل تسميته بـ «التلاقح الثقافي».

ويتبدى لي «التلاقح الثقافي» بعلاقة بين طرفين، أحدهما «خارج» سياق الآخر، ذاهبٌ إليه، يريد إما فرض نفسه عليه أو التفاهم معه، والآخر، وفق طريقة دخول الأول، يتشكل رد فعله تجاهه: إما مقاومةً أو تفاوضًا أو تبنيًا على تعدد درجاته. وقد يكون التلاقح، وفق هذه الاحتمالات عنيفًا، دمويًا، وقد يكون تفاوضيًا أو منفتحًا (في انعكاسٍ فعلي لمرونة). وقد تحتَّم على الإسلام، في السياق الآسيوي، بشكل شبه عام، «أن لا يصدم الجماعة وينزعها من جذورها بعنف شديد» [آ. ق].

كما أن الآخر، الذي يستقبل الإسلام، قد تلعب طبيعته دورًا هامًا، بل ومركزيًا، في تحقيق الانسجام أو التوفيق بينه وبين الإسلام الوافد؛ فـ «اعتناق الهندوس الفقراء للإسلام لم يمنعهم من الاحتفاظ بموروثهم القديم ومن الاعتقاد بضرورة أداء الصلاة في المساجد وفي سائر دور العبادة والتوجُّه بالدعاء إلى الله والآلهة في نفس الوقت، (كما) دافع لفيف من المفكرين عن نزعة التلفيق بين الديانات Syncretism معتبرين أن الجمع بين الهندوسية والإسلام طبيعي في هذه البيئات. فالمجتمعات الآسيوية عرفت منذ القدم تعدد الديانات والمذاهب والطرق، مما جعل الحدود بين مختلف المعتقدات، في كثير من الحالات تبدو مطاطية ومرنة. فما كان من الممكن حسب هؤلاء المفكرين، الانتقال إلى التوحيد بصفة ثورية … (وكذلك الأمر في البوذية حيث أن) اتصافها بقدرة كبيرة على هضم المتناقضات واستيعابها جعل فئة من المسلمين لا ترى مانعًا في الجمع بين الممارسات القديمة والممارسة التي حاول الإسلام إرساءها في تلك البيئة … (أما) في الصين حافظ عدد من المسلمين على معتقداتهم القديمة وتمسكوا بالطقوس العائلية والعشائرية القديمة غير مبالين بالتعارض بين مقتضيات الدين الجديد وما قامت عليه الأديان القديمة من ركائز. فكان المسلمون يقومون بتأدية طقوس تخصّ كلًا من الكونفوشية والطاوية والبوذية، إضافة إلى الطقوس الجديدة التي جاء بها الإسلام..» [آ. ق].


تعتبر البانساشيلا Pancasila بمثابة الأساس الفلسفي الرسمي للدولة الإندونيسية. وتتكون كلمة Pancasila من مقطعين: الأول Panca ويعني الرقم (خمسة)، والثاني: sila ويعني المبدأ (المبادئ). وتشتمل على خمسة مبادئ يتداخلون فيما بينهم، ولا ينفصلون عن بعضهم البعض: الإيمان بإلهٍ واحد، أوحد. إنسانية عادلة ومتحضرة. وحدة إندونيسيا. الديمقراطية التي ترشدها الحكمة الجُوَّانية، والارتقاء فوق المفاضلات من خلال الممثلين للشعب بالانتخاب. والعدالة الاجتماعية لكل الشعب الإندونيسي. وفي تبني مصطلح الـ Pancasila لوصف الإيديولوجيا الرسمية لدولة إندونيسيا المستقلة حديثًا، فإن المؤسسين المسلمين للأمة الإندونيسية قد شيَّدوا ربطًا واعيًا بالماضي. في البوذية، الـ Pancasila (المبادئ الخمسة) تشير إلى كود الأخلاق الأساسي للبوذية، والذي تم تبنيه بواسطة أتباع جواتاما بوذا Gautama Buddha في تقاليد الثيرافادا Theravada والماهايانا Mahayana. إن هذه المبادئ الأخلاقية الخمسة بمثابة التزامات من شأنها أن تمنع عن القتل، والسرقة، والممارسات الجنسية المرذولة، والكذب، والسُكْر. لم تتم صياغة هذه المبادئ في سعي للإلزام القسري، وإنما كقواعد للتدرب يمارسها الناس طواعية لتسهيل الممارسة على طريق ينشد التحرر الروحي.
من كتاب: «وهم الدولة الإسلامية»

وفيما يتعلق بالسياق الإندونيسي، وهو السياق الأكبر من حيث عدد المسلمين الآن في العالم، فإن الإسلام، في دخوله لذلك السياق قد تلاقى مع «تاريخ طويل من التعايش السلمي الذي شمل البروتستناتيين، والرومان الكاثوليك، والهندوس، والبوذيين… (ولذلك السبب) يُعلِّق الباحثون المسلمون أهمية كبيرة للتعددية الدينية كعمود من أعمدة الديمقراطية (في السياق الإندونيسي). ولذلك فإن تطور الإسلام في إندونيسيا يختلف بشكل ملحوظ عن باقي البلدان المسلمة أو الإسلامية..» [ن. ح].

نلاحظ هنا أن الثقافة الإندونيسية تعددية الطابع، يتضافر لتكوينها تاريخ مجتمعي طويل من التعايش بين مختلف معتنقي الأديان مع وعي صار طبيعيًا بأهمية احترام «ما هو مقدس» عند «الآخر» باعتباره مواطنًا إندونيسيًا. ونؤكد هنا أيضًا على أنه «لا مناص من تأثر الفرد بالثقافة التي يعبر عنها لغته الأم، فهو لا يستطيع أن يدرك الأشياء إلا في ظل النظام الجاهز والأطر المتوافرة في لغته..» [آ. ق]. وهو الأمر الذي انعكس بالقطع على التفاعل مع الإسلام.

وإن كان أغلب المفكرين العرب يجمعون على أن «إندونيسيا قد عاشت أسلمة ناجحة ومن ثمَّ نراهم يفتخرون بكثرة عدد (المسلميين السلوكيين)» [آ. ق]، إلا أننا نرى أن أغلبهم يغفل –أو يقلل من أهمية– الثقافة السائدة في المجتمع الإندونيسي على تعدد الأطياف واختلاف المعتقدات، وهي الثقافة التي تشكلت قبل مجيء الإسلام لإندونيسيا؛ فدخول الإسلام لإندونيسيا جاء متأخرًا نسبيًا مقارنة بباقي مناطق الهند الشرقية، وعلى سبيل المثال فإننا نجد أنه «في إندونيسيا نلاحظ أن دخول الإسلام إلى هذا البلد جاء متأخرًا قياسًا على الهند أو إيران..» [آ. ق] (و)فيما صار يُعرف الآن (في العصر الحديث) بإندونيسيا، فإن أغلبية سكان جاوا Java وسوماترا Sumatra قد أصبحوا مسلمين بحلول القرن الـ 18.. [ن. ح]

ما أريد قوله إن الإسلام تعامل مع ثقافة إندونيسية راسخة على امتداد القرون وتعاقب الأجيال، وهو الأمر الذي جعل من الإسلام ثقافة دخيلة على ثقافة راسخة. والأمر هنا يختلف عن السياق العربي في أنه وإن كان الإسلام عاملًا تأسيسيًا في قيام دولة العرب، في البدايات، في شبه الجزيرة العربية [6] (فيما أسميه هنا بثقافة الإسلام)، فإن الأمر يختلف تمامًا في السياق الإندونيسي (فيما أسميه هنا بالإسلام الثقافي) أي الإسلام باعتباره ثقافة جديدة، وهو ما يعني أن الإسلام لم يحضر في السياق الأخير بشكل تأسيسي كما هو الحال في إسلام الصحراء -بتعبير المفكر فهمي جدعان- أو إسلام «المنشأ والانبثاق».

«والواقع أن تركيز عدد من المؤلفين على أن أسلمة هذه المجتمعات لم تكن وليدة الفتوحات، أي السيف والدولة..» [آ. ق] فقط لا يشير إلى الصورة كاملة. ونقصد وجود عوامل أخرى ساهمت في تقبُّل الإندونيسيين للإسلام بشكل سلمي وهو ما يمكن أن نراه في ثقافة تميزهم بـ «انفتاحهم على الثقافات المختلفة وتُرَسِّخ التعددية (لدى هذه الشعوب) … (وهو) أمر مهم لأنه يلفتنا إلى أن للثقافة إيقاعًا تاريخيًا مختلفًا، فهي حصيلة تراكم تاريخي وعناصرها لا تتفاعل ولا تتآلف ولا تتكامل إلا على الأمد الطويل…» [آ. ق][7].

والحديث عن «إسلامات» متعددة هنا أمر مشروع تمامًا. ولعل القادم من المقالات سيسعى لتوضيح أن الإسلام مُنتِجٌ -شأنه كشأن أي دين [8]– لصيغ مختلفة تنبني على شروط موضوعية تتمثل، في البداية، وعلى سبيل المثال، في التاريخ والجغرافيا والوضع السياسي … إلخ. ثم تتعلق، بمرور التاريخ، بعوامل أخرى يمكن أن ندرج منها على سبيل المثال حضور الإسلام والمسلمين في الدول غير العربية؛ هل هو حضور أغلبية أم أقليَّاتي؟ وكيف ينعكس ذلك على طبيعة الممارسات والطقوس الإسلامية والعقيدة؟ ثم ماذا عن نظرة العرب لغير العرب من المسلمين؟ وماذا يمكن أن تقدم لنا محاولاتنا لفهم الإسلام خارج الجغرافيا العربية؟

وأظن أن تلك المواضيع أصبحت هامة بالنسبة لمجتمعات عربية لا زالت تعاني من هيمنة فكر القبيلة والتعصب على طرق تفكيرها في واقعها المعيشي اليومي، وفي تفاعلها مع الحداثة على امتداد تاريخ اللقاء «الصدامي» بينهما؛ أي سؤال المستقبل لعالم العرب.


[1] وأعرض تجربتي في محاولة مني لتبنّي ما يقوله آندريه مالرو في روايته «الأمل»: «أفضل ما يفعله الإنسان أن يحوّل أوسع تجربة ممكنة إلى وعي».[2] يشير مصطلح Indies، بشكل عام، إلى البلدان التي تقع جنوب وجنوب شرق آسيا.[3] وتلفت الباحثة النظر إلى أنه يجب التمييز بين الجيل الأول من المسلمين، وهم التجار أو الدعاة الذين استقروا في الهند وبين الأجيال التي تلتهم، وخصوصًا الذين اعتنقوا الإسلام من المنبوذين فقد «ساهمت الظروف الاقتصادية وطبيعة البنية الاجتماعية السائدة في الهند على دخول عدد من الفقراء في الدين الذي دعا إلى المساواة والمؤاخاة والعدل والرحمة وغيرها من القيم». ولعل الدين الإسلامي يتم تبنيه وفق هذا السياق باعتباره إيديولوجيا تستجيب لآلام للفقراء دعمًا ومؤازرًة.[4] في محاولة جادة وهامة لرسم حدود للمصطلحات، يميز فتحي المسكيني بين «المفارق transcendent»، و«المتعالي Transcendental»؛ حيث يشير الأول، بمعناه الديني، إلى ما يفارق عالم الحس، وبمعنى ما هو «غيبي»، بينما يحضر الثاني، بالمعنى الفلسفي، بما يتعلق بنمط معرفتنا القبلية، «نحن الكائنات البشرية العاقلة والحرة والمتناهية والتي تتميز بعدم امتلاكها لحدس عقلي قد يمكن من الدخول في اتصال مع عالم آخر، بل إن كل حدوسها حسية صرفة».[5] وبالنظر للمجتمعات الآسيوية، يتبين لنا أن «الإسلام والذي حلَّ في تلك الفضاءات الشاسعة لم يشمل كل المناطق بنفس الطريقة، كما أنه لم يدخلها في نفس التاريخ. فقد استمرت عدد من هذه المجتمعات محافظة على ممارساتها المعمول بها قبل ظهور الإسلام مثل تطبيق العرف وقانون العرض والتشبُّث بالرأسمال الرمزي الخاصّ بكل عشيرة. فكان على الإسلام أن يتعامل مع ما هو موجود حتى يستطيع أن يفرض نفسه بشكل أو بآخر فيتأثر بما هو موجود ويؤثر فيه..» [آ. ق].[6] في قراءة لمسار العلاقة بين الديني والسياسي، يذهب علي مبروك للإقرار بالتباين بين «الديني» و«السياسي» في التجربة المسيحية والإسلامية؛ «فقد اكتمل تشكُّل (الديني) في المسيحية في انفصال كامل عن مجال اشتغال السياسي، الذي لم تتصل به المسيحية إلا بعد قرون من استكمال تشكل الديني فيها. ومن هنا أن السياسي لم يتجذَّر في المسيحية، في قلب الديني، بل ظل كل واحد منهما قابلًا للاستقلال بمجال خاص … (في المسيحية) تبلور الديني في أصل مبدأه بوصفه شأنًا خاصًا؛ وبما يعنيه ذلك من أنه لم يتبلور كفضاء لممارسة عمومية»، بينما لم يكن الحال كذلك في عالم الإسلام «الذي كان الديني فيه ينبثق في قلب السياسي؛ أو في قلب السعي إلى تأسيس الدولة، وهو ما ينعكس جليًا في تلك المقولة التي تشيع في أدبيات الإسلام السياسي الراهنة بأن (الإسلام دين ودولة) … (بالتالي، يتعلق الأمر في حالة الإسلام) بالديني وهو يرى نفسه في تلازم صميمي مع السياسي منذ ابتداء انبثاقه، فكان لازمًا أن يتسيس».وسنرى بعد ذلك أن الإسلام الآسيوي يمتلك وضعًا مغايرًا عن إسلام المنشأ؛ حيث الثقافة السائدة في مجتمعات شرق آسيا تمتلك سلطة أكبر من سلطة الإسلام على هذه المجتمعات وذلك لرسوخها – أي الثقافة – في قلب مجتمعات تعددية، ذات نزوع روحاني بالأساس.[7] وترى الباحثة أن المجتمعات الآسيوية تعد «معينًا خصبًا لاكتشاف صور التعدد بين الديانات والتلاقح بين الثقافات. فهي في الغالب مجتمعات ذات تركيبة معقدة تعكس تعددية إثنية ولغوية وعقائدية وثقافية».[8] تذهب آمال قرامي إلى أن الإسلام -كباقي الأديان- «ليس منظومة عقدية دينية نظرية مغلقة بقدر ما هو تمثُّل بشري وممارسة اجتماعية يومية متغيرة تتأثر بظروف الواقع التاريخي وبأحوال الناس وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية فيتحول الدين نتيجة ذلك إلى ظاهرة اجتماعية لها دلالاتها ووظائفها».
المراجع
  1. آمال قرامي: "الإسلام الآسيوي"، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2006، من سلسلة: "الإسلام واحدًا ومتعددًا" تحت إشراف: عبد المجيد الشرفي.
  2. علي مبروك: "الخطاب السياسي الأشعري – من إمام الحرمين إلى إمام العنف"، مصر العربية للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 2015.
  3. فتحي المسكيني: "الكوجيطو الجروح – أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة"، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الجزائر، الرياض، بيروت، ط1، 2013.
  4. نصر حامد أبو زيد: Reformation of Islamic thought “A critical historical analysis”, Amsterdam university press, Amsterdam, 2006.
  5. The Illusion of An Islamic State, editor: H.E. Kyai Haji Abdurrahman Wahid, Prologue and Preface: Prof. Dr. Ahmed Syafii Maarif & C. Holland Taylor, Epilogue: KH. A. Mustafa Bisri, first English edition: May 2011. LibForAll Foundation Press.