لا يُساور الشك الآن المختصُّين في علم الأديان أن انبثاق الأديان مسألة مرتبطة تمام الارتباط بسياقها التاريخي والاجتماعي، وأنَّ الوعي الكامل لدى أتباع أي دين جديد بتمايزِهم الجذري منذ اللحظةِ الأولى عن أتباع الديانات السابقة عليهم (والتي تُشاركهم الماضي الروحي نفسه) مسألة تتَّسمُ بكثير من المبالغة وتحتاج إلى تدقيق، لأنها نابعة إلى حدٍّ بعيد من الوعي التراكمي الذي تَشكَّلَ بعدُ لدى الأجيال اللاحقة من الجماعة الجديدة، والذي تُمارسهُ هذه الأجيال بأثرٍ رجعيٍّ على أسلافها المؤسِّسين. ففعليًّا؛ لا تتحققُ النزعة الاستقلالية لدى أي دين إلا بصورة تدريجية، وذلك عندما يَتَشكَّلُ وعيٌ لاحق لدى الجماعة بوجودِ إمكانيَّة تصلح لإقامة ذلك التمايز الجذري بينها وبين من يُشاركونها ماضيها الروحي، حينها تتحول هذه الإمكانية إلى نواةٍ تبني عليها الجماعة استقلالها الروحي في التاريخ وتبلور هُويتها الدينية.


اليهودية والتوحيد المتأخر

بيَّنت المدرسة التَّاريخية الألمانيَّة منذ القرن الثَّامن عشر والتَّاسع عشر من خلال الكشوفات الأثريِّة أن مسألة الظُّهور المفاجئ للتَّوراة في عهد النَّبي موسى أمر لا علاقة له بالتَّاريخ، وأن عمليَّة كتابة نصوص العهد القديم استغرقت قرونًا مديدة، تأثَّر فيها الكَتَبَة بالأساطير والمعتقدات والطُّقوس البابليَّة والمصريَّة والكنعانيَّة السائدة في المنطقة، وقد خضعت تلك النُّصوص لعمليَّات إعادة تحرير متأخِّرة عبر الزَّمن، اتفقت عليها الفرضيَّات العلميَّة الثَّلاثة الكبرى في قراءة العهد القديم؛ الفرضيَّة الوثائقيَّة (Documentary Hypothesis) التي طرحها المستشرق الشهير فلهاوزن والتي تقول بوجود التَّوراة في كُتب مستقلَّة أُدمجت لاحقًا، والفرضيَّة التَّكميليَّة (Supplementary Hypothesis) التي تقول بوجود نصٍّ جوهري أُضيفت إليه محتويات تكميليَّة، والفرضيَّة الشَّظويَّة (Fragmentary Hypothesis) التي تقول بأن التَّوراة هي مجموع لشظايا ومنثورات صغيرة.

إن ما تفترضه اليهوديَّة كدين من نزعة توحيديَّة ومن استقلال روحي عن الشُّعوب الوثنيَّة المحيطة هو في حقيقة الأمر افتراض تبلور بصورة تدريجية وببطء شديد، وهو حصيلة مسار تاريخي معقد ومديد، أسقطته اليهودية بعد على ماضيها الأول. لذا؛ فإن نزعة من المفترض بها أن تكون جوهريَّة في العهد القديم كنزعة التَّوحيد يصعب كثيرًا على المرء أن يعثر عليها، فالإله يهوه هو «الإله المتفرِّد» عن بقيَّة الآلهة بالعبادة وليس «الإله الوحيد»[1].


من المسيح إلى كنسية الأُمم

الشيء نفسه ينطبق على الجماعة المسيحية الأولى، إذ لم تُعرِّف تلك الجماعة نفسها مطلقًا في البداية بوصفها «مسيحيَّة»، فقد كانوا أشبه بثوار على التَّقاليد الفِرِّيسيَّة والصدوقيَّة اليهوديَّة. مصطلح «المسيح» نفسه هو لقب يهودي، اقتصر معناه في البَدء على الشخصيَّات الدينيَّة والسياسيَّة اليهوديَّة من الكهنة والملوك الممسوحة بزيت المعبد المقدس والتي تحظى بمكانة رفيعة داخل الجماعة اليهوديَّة. لكن بعد أن خابت آمال الجماعة في قياداتهم الدِّينيَّة والسِّياسيَّة، اكتسب هذا المصطلح بمرور الزمن معاني خلاصيَّة (تأثرًا بالدِّيانة الزَّرادشتيَّة)، فتحوَّل المسيح الدُّنيوي إلى مسيح خلاصي ينتظرهُ الشَّعب اليهودي وكثرت الادعاءات المسيحانية قبل وبعد المسيح نفسه.

وبعد ظهور يسوع النَّاصري وهدم الرُّومان للهيكل، انقسمت الجماعة اليهوديَّة على نفسها إلى عدة فرق أبرزها؛ الفريق المحافظ الذي دعا إلى التَّمسك بالتَّقاليد والطُّقوس الدِّينيَّة ذات الطَّابع الانغلاقي وهي الجماعة التي ظلَّت تُسمي نفسها إلى الآن «اليهود»، والفريق التَّحرري الذي لم يجد غضاضة في انضمام الأمميِّن (غير اليهود) إلى الدين، وهؤلاء بدورهم انقسموا إلى فريقين؛ الفريق الأول هم أتباع كنيسة الختان وهو فريق ذو نزعة محافظة يشترط الالتزام ببعض التَّعاليم اليهوديَّة الموروثة ومنها الختان، ويُشترط أيضًا على كل من يود الانضمام إليه التَّهوُّد أولًا ثم التَّحوُّل إلى المسيحيَّة لاحقًا، بينما كانت تعاليم الفريق الثَّاني أكثر تحررًا، إذ لم يلزم أتباعه باتِّباع التَّعاليم اليهوديَّة، ولم يطالبوا الرَّاغبين في الانضمام إليهم من المجتمعات الوثنيَّة بالتَّهوُّد، فبإمكان المرء اعتناق المسيحيَّة مباشرة دون المرور باليهوديَّة، وقد منح هذا الفريق الختان معنى مجازيًّا، فالختان عندهم هو ختان القلب، والشَّريعة اليهوديَّة ليست أكثر من لعنة أصابت اليهود، وهؤلاء هم أتباع كنيسة الأمم أو كنيسة القدِّيس بولس المؤسِّس الحقيقي للمسيحيَّة كما نعرفها اليوم.


من المؤمنين إلى المسلمين

أما فيما يتعلق بالإسلام، فقد أظهرت الجهود التي قام بها تيَّار المراجعيِّين أو التَّنقيحيِّين (Revisionists) في الدراسات القرآنية المعاصرة منذ نهاية السَّبعينيات وحتى الآن، ضعف مصداقية المصادر الإسلامية فيما يتعلق بالصورة التي تَنقلها عن الإسلام المبكر أو لنقل على الأقل (في أحسن الأحوال) افتقارها الشَّديد إلى الدِّقَّة، فقد كُتبت أقدم هذه المصادر بعد مرور أكثر من 120 عامًا على الأقل من وفاة النَّبي، ولم تتوفَّر بين أيدينا نُسخ منها إلا نسخًا تعود إلى القرن الثَّالث الهجري أي بعد حوالي أكثر من 200 عام. وتُظهر هذه المصادر تناقُضات حادَّة مع ما ورد في كلٍّ من: القرآن نفسه كمصدر تاريخي ينتمي إلى عصر النَّبي، ومع المصادر المعاصرة لحدث انبثاق الإسلام، سواء كانت سريانيَّة أو آراميَّة أو يهوديَّة أو مسيحيَّة أو زرادشتيَّة. فمثلًا يُرجِّح فريد دونر (Fred Donner) أنَّ جماعة الإسلام الأولى كانت تُطلق على نفسها اسم «المؤمنين»، حيث يكاد يتكرَّر ذكر الكلمة ما يقرب من الـ1000 مرَّة للتَّدليل على هذه الجماعة في القرآن، في مقابل 75 مرَّة فقط لكلمة «المسلمين»، وهو يرجِّح أن الدلالة الأولى لكلمة «مؤمنين» في القرآن تتسع لتشمل من اصطلح بعدُ على إقصائهم من دائرة الجماعة كـ«النَّصارى» و«اليهود» و«الصَّابئة»، حيث يدخلهم القرآن ضمن دائرة الإيمان:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. (سورة البقرة، آية 62)

ويشير أيضًا إلى تعمُّد القرآن نفسه التَّفرقة بين مصطلحي الإيمان والإسلام في الآية:

قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. (سورة الحجرات، الآية 14).

والتي توحي بالإعراض عن منح الأعراب عضويَّة في جماعة المؤمنين لمجرَّد وجودهم على الإسلام الذي يمكن فهمه هنا باعتباره حالة يكون المرء عليها ليس من الضروري أن تؤهِّله للانضمام إلى الجماعة التي ربما تضم في ثناياها يهودًا ومسيحيين وصابئة[2]. يقول دونر:

الأمر نفسه يتكرَّر مع باتريشا كرونه (Pateicia Crone) التي تذكر أن المصادر السُّريانيَّة واليونانيَّة المعاصرة لظهور الإسلام تُشير إلى أتباعه الأولين باسم آخر هو ماغاريتاي/ مهغرايه أو المهاجرون، وأن الجماعة لم تَشرع في استعمال كلمة مسلمين لغرض التَّدليل على هُويَّتها الدِّينيَّة الجمعيَّة إلا في عهد الأمويين، وأنَّ أوَّل مَوضِعْ ذُكِرَت فيه الكلمة لهذا الغرض كان على قبة الصخرة عام 71ه/ 691م، إضافة إلى أنَّه لا وجود لهذا المصطلح في المصادر غير الإسلاميَّة قبل القرن الثَّامن الميلادي، فأقدم ظهور له في المصادر السريانيَّة (مشليمانه) عام 153ه/ 770م.


تاريخ الأديان والمتخيَّل الدِّيني

إن معاني لفظ المؤمن ولفظ المسلم لن يُعاد تحديدها إلا في وقت لاحق، ربما في أواخر القرن الأوَّل الهجري، حين سيضحيان مترادفين بهدف إخفاء الطَّابع التَّعدُّدي لجماعة المؤمنين الأولى. ففي تلك اللحظة، تم فصل المؤمنين المسلمين عن اليهود والمسيحيين مرة واحدة وإلى الأبد؛ وهو ما عنى أن يغدو المسلمون منذئذ طائفة توحيديَّة متميِّزة.
يقول القدِّيس بولس في رسائله إلى أهل فيلبي:
ولكنِّي أفعَلُ شيئًا واحدًا إذ أنا أَنْسَى ما هوَ وَرَاءُ وأمتَدُّ إلى ما هُوَ قُدَّام”[3].

بهذه الطريقة تستحوذ الجماعة على النَّواة الرُّوحية النَّاشئة في أي دين بأثر رجعي، فتحوِّلهُ من مجرد حدث باطني انخطافي لا يمثِّل لمعاصريهِ أكثر من انفتاح بطريقة أخرى على الماضي، إلى حدث تاريخي اجتماعي يُكسب أتباعه هويَّة روحية مستقلَّة تتَّجهُ نحو المستقبل أكثر مما تتجه نحو الماضي، يعنيها الاختلاف أكثر مما يعنيها التَّشابه، وتتطلَّع إلى الفروع أكثر مما تتشبَّث بالجذور. لذا؛ تبدو وظيفة المؤرِّخ وكأنَّها تعكس المسار التَّكويني للدِّين في الزَّمن، تقلبه رأسًا على عقب، لتكشف عن التَّسلسل الزَّمني الواقعي للأحداث والأفكار. ولكن يا لسخف المؤرِّخ حين يظنُّ أن تولِّي هذه المهمة المُزعجة والشَّديدة الحساسيَّة بإعادة سرد الماضي الوقائعي لتشكُّل الدِّين الغرضُ منها القول بأن ما تعتقد فيه هذه الجماعات اليوم خرافة، فـالمتخيَّل الدِّيني للجماعة لا الوقائع التَّاريخيَّة هو ما يُشكِّل جوهر مسيرتها الدينيَّة بغض النَّظر عن التَّسلسل الزَّمني للأحداث.

وفي حين يبدو أن المؤرِّخ يُوصِدُ بابَ البحثِ مرَّة واحدة وإلى الأبد في وجه سرديَّات الماضي، يَنسِف صورتها الكليَّة، ويؤكد انتهاء صلاحيتها كما نؤمن بها، إلا أنَّه في حقيقة الأمر وبدراية منه أو بغير دراية يفتح مَعينًا لا ينضب من المقاربات التي تصلُح لدراسة هذه السَّرديات بوصفها تلك الحقيقة التأويلية التي حكمت المتخيل الديني للجماعة بما يحتويه من رموز ومجازات وأساطير.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. كارين أرمسترونج، الله والإنسان: على امتداد 4000 سنة من إبراهيم الخليل حتى العصر الحاضر، ترجمة: محمد الجورا، دمشق: دار الحصاد للنشر والتوزيع، ط1، 1996، ص26.
  2. باتريشيا كرونه، مايكل كوك، الهاجريون: دراسة في المرحلة التكوينية للإسلام، ترجمة: نبيل فياض، تورنتو: المركز الأكاديمي العربي، ص33 (انظر المتن والهامش).
  3. رسائل بولس الرسول إلى أهل فيلبي، 3: 13.