وخَلّفوني أعَضُّ الكفَّ مِن ندمٍ
وأُكثِرُ النَّوحَ، لمّا قلّتِ الحِيَلُ
صفيّ الدين الحِلّي.

يُعرّف الندم في اللغة العربية بأنه الأسف والحسرة على فعل ما، تم ارتكابه. أمّا عن المصطلح باللغة الإنجليزية، فيُعبر عن فكرة الندم بشكل أوضح، يطلق على الندم مصطلح «Remorse»، الذي ينقسم لمقطعين «Re» بمعنى إعادة أو تكرار، و«Morse» بمعنى ألم أو لدغة، ليكون المعنى في مجمله «إعادة تكرار للألم» أو «العذاب المتكرر» الذي يعبر عن حالة عذاب الضمير الذاتي الذي يعيش بها الإنسان.

أمّا على مستوى الدراسات النفسية، فقد اهتمت المدارس المختلفة بدراسة الندم والمصطلحات الأخرى التي تتشابه معه مثل الذنب والخزي والعار… إلخ. فالسبب المهم في الاهتمام بمفهوم الندم كونه جزءاً من الإحساس بالذنب، وهو العرض المهم في تشخيص مرضى الاكتئاب الحاد، أكثر الأمراض النفسية انتشاراً، والذي قد يؤدي إلى الانتحار ببساطة.

كما يُعرِّف علم النفس «الندم» على أنه:

الألم النفسي الناتج عما ارتكبه الفرد من فعل أو اقتراف معصية أو فاحشة، أو أي أمر خُلقي يُعاقب عليه المجتمع.

أمّا على المستوى الفني، فكان الندم من أكثر المشاعر الإنسانية التي تم التعبير عنها، سواء في الأدب أو السينما، وكذلك الفن التشكيلي كذلك. وسنقوم في هذا المقال برصد شكلين من التعبير عن الندم بين السينما والفن التشكيلي. ولكن في البداية من الضروري أن نرصد شكل العلاقة بين الفن التشكيلي والسينما.

بين جماليات الفن التشكيلي والصورة السينمائية

لا يمكن فصل الفن التشكيلي عن السينما بشكل عام والصورة السينمائية بشكل خاص، بدايةً من الأفلام التي تتحدث عن حياة مشاهير الفنانين التشكيليين، ومروراً باستخدام نفس المدارس الفنية مثل السريالية والواقعية والرمزية… إلخ، ووصولاً لاستخدام عناصر الفن التشكيلي من ملابس وديكور وألوان في إظهار الصورة السينمائية بأفضل صورة ممكنة.

فكيف تم استخدام كل التقنيات في كل من العملين المختارين للتعبير عن مشاعر الندم والحزن، كيف تحدثت العيون بالندم في لوحة «إيفان الرهيب» Ivan The Terrible لـ «إيليا ريبين» Ilya Repin من القرن التاسع عشر، وكذلك تعبيرات وعيون «عبد الملك زرزور» (الفنان محمود عبد العزيز) من فيلم «إبراهيم الأبيض» بعد ما قتل حوريته؟

تعقب المأساة عند الرهيب والزرزور

قيصر روسيا «إيفان الرابع»

كان «إيفان الرابع» أميراً لموسكو وقيصر عموم روسيا الأول خلال القرن السادس عشر. لُقِّب بـ «الأمير الرهيب» بسبب استخدامه طرق تعذيب شديدة الوحشية لمعارضيه، فكان تاريخ حكمه مليئاً بالبطش والدموية. الأمر الذي ظهر حتى مع أهل بيته، فقد تزوج ثماني زوجات ومُتن كلهن في ظروف غامضة.

كما أنه أجبر الزوجة الأولى والثانية لابنه على التخلي عنه وهجره، أمّا الزوجة الثالثة، فتعدى عليها بالضرب بسبب لبسها غير الملائم في نظره، مما أدى إلى وفاتها. وكان هذا الحدث بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لابنه واحتد بينهما النقاش، وبسبب نوبات الغضب التي تصيبه وإضافة إلى جنون الاضطهاد الذي أُصيب به، وبعد ما اتهم ابنه بتدبير مؤامرة ضده، قام الرهيب بضرب ابنه بصولجان ذهبي على رأسه ليسقط ميّتاً في الحال، فيستيقظ إيفان ويدرك حجم فعلته.

عبد الملك زرزور في الإسطبل
عبد الملك زرزور في الإسطبل
الجارية اللي تمنها دينار ضحكت على عقل السلطان
قادت جوا فقلبه النار وسايبته سهران ليل حيران
داب قلبه المخدوع فعنيها ضيع عمره وملكه عليها
واللي جراله ما كان عالبال
أغنية «الجارية والسلطان» – فرقة وسط البلد.

أمّا عن «عبد الملك زرزور»، فهو كبير وحاكم- بل وإله- حي «الأباجية» بأكمله، فهو القادر على إنهاء حياة أي شخص بإشارة منه لرجاله، فينتهي أمر المذكور في لحظتها، «وزي ما سيد شيبة الله يرحمه كان بيقول» فهو الآمر الناهي بكلمة بل بنظرة حتى.

وتبدأ حكايته مع «حورية» منذ 15 عاماً، حينما دخل زرزور المنطقة وسكن في البيت المقابل لبيت حورية، بنت الـ 12 عاماً، ولكنها كانت مكتملة النضج الأنثوي، فيقع المعلم في حبها من النظرة الأولى، ويعتقد أن الحصول على حورية أمر سهل وبمجرد عرض الزواج عليها ستوافق، ولكنها تتحول لطائر جارح يصعب امتلاكه، فيحكم عليها المعلم بـ«العنوسة»، وقتل كل منْ يتقدم لخطبتها.

أما قلب حورية، فهو مشغول بـ إبراهيم، الذي تكتشف أنه قاتل والدها، فتقرر الانتقام منه عن طريق الزواج من المعلم، ولكن بشرط، ألّا يكون زواجاً حقيقياً، الأمر الذي يقبله المعلم على مضض.

عمرك ما ادتيني ريق حلو.

ولكن من يهتم! يكفي امتلاكه الشكلي حتى لحورية، على أمل منه أن تميل له مع الوقت.

عشمي ذوقي يكسفك.

ولكن ما حدث لم يكن ما يتمناه المعلم بكل الأشكال، فأصبح المعلم ذليل حبه لحورية، التي أصبحت تطير من عشها كل فترة وتختفي من حياة المعلم ليتحول وجهه لوجه عجوز مكسور ينتظر عودتها فتعود الحياة معها، ولا يسألها حتى عن مكانها وسبب اختفائها، نفس المعلم الذي عاقب ابنه بضرب مبرح للتصرف من غير إذنه «تعك من ورا ضهري تبقى عدوي». فهو يقبلها بلا أي عتاب.

وبعد كل هذا التقبل يضع المعلم قانونه الأول والأخير في التعامل مع حورية: «أهون عليكي، تهوني عليا». وضع المعلم نفسه في مقارنة مع إبراهيم، وخيّرها بينه والموت مع إبراهيم؛ لتختار إبراهيم.

وبلا تردد يُصوِّب الزرزور فوهة مسدسه ويعالجها برصاصة لتسقط أرضاً، ويكاد المعلم يسقط أيضاً لولا مساعده «سراج»، الذي يتكئ عليه المعلم بعد ما قتل أحب الأشياء إلى قلب، حوريته.

المدرسة الفنية بين اللوحة والفيلم

يشترك كل من العملين في استخدام المدرسة الواقعية؛ فالفنان «ريبين»، ولوحته «إيفان» بالأخص، ينتمي لمدرسة الواقعية، التي من سماتها نقل ما هو في الطبيعة كما هو، أي أنها شكل من أشكال الرصد التسجيلي للأحداث السياسية والاجتماعية وما إلى ذلك.

الأمر الذي نجده كذلك في فيلم «إبراهيم الأبيض» للمخرج «مروان حامد»، والذي ينقل الواقع بشكل تسجيلي، وهو ما يؤخذ أحياناً على الفيلم من النُقّاد، كثرة مشاهد العنف والعراك المنقولة من الواقع للفيلم بشكل مُطابق. حتى في المشهد المعني به المقال نجد المدرسة الواقعية في كل العناصر حتى التمثيل.

ولكن:

ماذا تقول العيون بعد تطبيق مبدأ «استأصل أعزّاءك» kill your darling؟
ايفان الرهيب لوحة
لوحة «إيفان الرهيب»

مصطلح kill your darling يمكن ترجمته للمثل الشعبي «الأيد اللي توجعك أقطعها»، أي التخلص من أكثر الأشياء حباً لقلبك إذا كانت هي مصدر الضعف أو الألم لك.

أمّا عن الابن، فيمكن رؤية دمعة وحيدة على أنفه مع نظرات من عدم تصديق أن الأمور تطورت بهذا الشكل، وأن منْ قتله هو أبوه، ولكن مع ذلك فإن يد الابن تُربِت على إيفان وكأنه يقول «لا عليك أبتاه».

في لوحة ريبين الواقعية «إيفان الرهيب» يظهر على عيون «الرهيب» نظرات الندم والخوف والرهبة من فعلته التي أدت إلى موت ابنه وولي العهد الوحيد، وبالتأكيد الأعز على قلبه، حتى لو لم يكن القتل بشكل عمدي وبسبب نوبة غضب إلّا أنه يمكن بسهولة رؤية كّم مهول من الندم على إيفان، ولسان حاله يقول: كيف سأعيش الباقي من عمري مع حقيقة أنني قتلت ابني الأقرب لقلبي؟

يغلب على اللوحة اللون الأحمر الذي يعبر عن المشاعر القوية، سواء كانت مشاعر انفعال أو غضب أو حتى حزن وندم. كما تقع بؤرة الإضاءة على إيفان وابنه، وكذلك لم تُغفل التفاصيل الأخرى كالصولجان أداة الضرب، أو الأثاث المبعثر الذي يوضح حالة الغرفة بعد نوبة غضب إيفان.

يُقال إنه بعد الحادثة عزل إيفان نفسه في الدير لمدة 6 أشهر بسبب شعوره بالذنب والحزن الشديد على ما فعله بابنه، ليخرج بعدها أشد بطشاً وعنفاً من ذي قبل، أي أنه سقط ضحيةً للاكتئاب الذي كما ذكر سلفاً من أهم أعراضه الشعور بالذنب والخزي، الذنب الذي أهم مكوناته الندم.

عبد الملك زرزور بعد قتل حورية

أمّا عن تعبيرات وعيون الزرزور بعد قتله حوريته، فهي تمثل وبشكل دقيق شكل المُحِب بعد أن يُفارق حبيبه، فقط ليتخلص من سيطرته عليه، ليكون حراً. تحوّلت تعبيراته من الغضب للحزن في أقل من 20 ثانية، ثم تحولت مرة أخرى للرعب والندم والحسرة على خسارته حورية التي ضحى بكثير حتى «ينول منها ريق حلو». قتلها والتفت ليتأكد أنه بالفعل قتلها بيده!

يغلب على المشهد ككل الإضاءة الخافتة، إلا فيما يتعلق بتعبيرات عبد الملك، التي تعتبر نقطة التركيز، فنجد الإضاءة على وجه تخفت بالتدريج بعد سقوط حورية قتيلة، الأمر الذي كرّره المخرج قبلها في مشهد عودة حورية بعد انتظاره لها في الإسطبل، ليكون دخول حورية هو عودة النور على وجه المعلم.

الجارية أم دينا اتدارت هربت ولا عادت بتبان…
وبقى السلطان يسهر ليلة وهى عنيها العسلي تنام…
باع ملكه بعرشه وتاجه… لغيره من أهل الشام
والجارية اللي تمنها دينار…
حبت واحد مالخدام
أغنية «الجارية والسلطان» – فرقة وسط البلد.

قتل المعلم حورية وإبراهيم، كما قتل المعلم نفسه بموت حورية، لأنها ببساطة لن تعود هذه المرة لتُنقِذه من الحزن في الإسطبل وتعيد له النور. كذلك قتل إيفان آخر جزء سوي في نفسه، عن طريق قتل ابنه ووريثه الوحيد، فبموت إيفان بدأ انحدار روسيا حتى وصلت لزمن القلاقل وسقوطها. أما عن «مملكة الزرازير» فبموت المعلم وحزنه على حورية ستسقط وتُبنَى مكانها مملكة أخرى يحكمها ملك قوي آخر حتى ظهور حورية جديدة، تسحره وتسلب لبه فتتسبب في هلاكه، تماماً مثلما حدث مع الزرزور.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.