في السادس من ديسمبر/كانون الأول 1987، اجتمع سبعة من كوادر وكبار قادة العمل الدعوي الإسلامي معظمهم من الدعاة العاملين في الساحة الفلسطينية وهم: أحمد ياسين، وإبراهيم اليازوري، ومحمد شمعة (ممثلو مدينة غزة)، وعبد الفتاح دخان (ممثل المنطقة الوسطى)، وعبد العزيز الرنتيسي (ممثل خان يونس)، وعيسى النشار (ممثل مدينة رفح)، وصلاح شحادة (ممثل منطقة الشمال).

وقد أسفر هذا الاجتماع عن الإعلان عن تأسيسي حركة «حماس»، وبداية الشرارة الأولى للعمل الجماهيري الإسلامي ضد الاحتلال الإسرائيلي. ووزعت الحركة بيانها التأسيسي في 15 ديسمبر/كانون الأول 1987، إبان الانتفاضة الأولى. وفي 18 أغسطس/آب 1988، صدر ميثاق الحركة.

وبالأمس، الأول من مايو/آيار 2017، أي بعد مرور ما يقارب الثلاثين عاماً، «جدّدت» حركة حماس ميثاقها، وأصدرت ما يُسمى بـ«الوثيقة السياسية لحركة حماس: وثيق المبادئ والسياسات العامة»، وذلك قبيل أسبوع على إتمام الخطوات الأخير لانتخاب المكتب السياسي لحماس، وإعلان رئيسه الجديد خلفاً لخالد مشعل.

وقد ذكر «صلاح البردويل» عضو المكتب السياسي لحركة حماس، أن الحركة تعد الوثيقة منذ خمس سنوات، وأنها استغرقت في التفكير كل تلك الفترة، لتخرج وثيقة معبرة بدقة كاملة عن رؤية حماس بكافة القضايا السياسية وتستفيد من كل الممارسات التي مارستها سياسياً، وأضاف:

الوثيقة ليست جديدة، وإنما هي إعادة ترتيب لكل ما صدر من ممارسات وخطاب سياسي لحركة حماس طوال أكثر من 30 عاما، وهذا تم ترجمته في هذه الوثيقة، لتظل شاهدة على حقيقة حماس التي لا تقبل التأويل هنا وهناك من أي جهة كانت.

وهناك محللون يرون أن الوثيقة الجديدة ليست الأولى من نوعها التي تتطرق وتمس بسياسة حماس، إذ سبقتها العديد من الرؤى والمواقف مثل: رؤية مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين عندما طرح هدنة طويلة الأمد مقابل وقف العمليات المسلحة، وهدنة طويلة الأمد مقابل الانسحاب من غزة والضفة، وتبعها برنامج حماس السياسي الانتخابي في عام 2006، وتبعها وثيقة الأسرى التي وافقت عليها حماس.


الميثاق القديم والقيادة الجديدة

قبل التطرق لمضمون الوثيقة، لابد من الإشارة إلى ملاحظتين جوهريتين:

  1. رغم تأكيد خالد مشعل وأعضاء المكتب السياسي لحماس على أن الوثيقة الجديدة لم تنسخ ميثاق الحركة الذي كُتب عام 1988، وأن برنامج عمل سياسي، إلا أن المقارنة السريعة بين الإطار العام لكلتا الورقتين تنفي ذلك. حيث إن محاور الوثيقة الجديدة تكاد تكون مشمولة بالكامل في الميثاق القديم – بجانب المحاور الاجتماعية التي تضمنها الباب الثالث في الميثاق القديم – باستثناء المحور الخاص بـ«النظام السياسي الفلسطيني» في الوثيقة الجديدة، فالسلطة لم تكن قد تأسست عند وضع الميثاق عام 1988.
  2. رغم أن حماس قاب قوسين أو أدنى من تشكيل قيادة سياسية جديدة، فإن القيادة القديمة هي من وضعت الوثيقة وأصدرتها. بالطبع ربما يحمل التشكيل الجديد للمكتب السياسي أسماء عديدة من التشكيل السابق، ومن المؤكد أيضاً أن نفوذ خالد مشعل وتأثيره لم يكن ليخفت بمجرد تنازله عن قيادة الحركة، ولكن ألم تكن القيادة الجديدة الأجدر بصياغة ملامح برنامجها السياسي والإعلان عنه؟ والإجابة ربما يحملها أحد احتمالين: الأول، أن إعلان مشعل للوثيقة الجديدة جاء كنوع من التكريم له، كونه القائد الذي وضع البرنامج السياسي بعد التأسيس بـ 30 عاماً. الثاني، أن الوثيقة بشكلها الحالي جاءت وفق تفاهمات إقليمية ودولية مُحددة، أراد مشعل أن يتأكد من تضمينها في برنامج الحركة، خشية أن تنحرف القيادة الجديدة بعيداً عن هذه التفاهمات.

ما الفرق بين ميثاق الحركة ووثيقتها؟

اتفق المحللون أن الوثيقة الجديدة لم تضف شيئاً جوهرياً في القضايا السياسية الكبيرة، مثل: مبدأ المقاومة، وعدم الاعتراف بإسرائيل، والتمسك بكل فلسطين، فتلك الثوابت لدى الحركة لا يمكن تغييرها.

ولكن كان هناك ثلاثة تغيرات أساسية ميّزت هذه الوثيقة عن ميثاق 1988:

1. تراجع الصبغة الدينية

الله غايتها، والرسول قدوتها، والقرآن دستورها، والجهاد سبيلها، والموت في سبيل الله أسمى أمانيها.

هكذا صاغ ميثاق 1988، في المادة الثامنة، شعار الحركة، الذي لم تخل مواده الـ36 من استشهاد كثيف بالآيات القرآنية، وهو الأمر الذي افتقدته تماماً الوثيقة الجديدة. وقد نجد تفسير ذلك في تصريحات بعض قادة حماس حول طبيعة الوثيقة، كونها جاءت تعبيراً عن فكر حماس السياسي، وهي أقرب إلى البرنامج السياسي، وأن ميثاق الحركة ليس لغة خطاب يفهمه الجميع، كونه يتحدث عن أدبياتها الأيديولوجية كذراع إخوانية في فلسطين، غير أنه لا يُمكن أن يفهمه الآخر المتمثل بالإقليم والعالم، لأن لغته غير مفهومة سياسياً فكان لزاماً صياغة الوثيقة للخروج من هذه الإشكاليات.

كما أن الوثيقة السياسية مُوجهة للخارج أكثر من الداخل، وهذا ما يؤكده قيام الحركة بترجمتها إلى ما لا يقل عن أربع لغات (عبرية، إنجليزية، فرنسية، ألمانية)، حتى لا يُترك المجال للتفسيرات والتأويلات المتعددة.

2. فك الارتباط عن الإخوان المسلمين

ستقوم إسرائيل وستظل قائمة إلى أن يبطلها الإسلام كما أبطل ما قبلها. (الإمام الشهيد حسن البنا، رحمه الله)

جاءت هذه الجملة عقب آيات سورة آل عمران على رأس ميثاق الحركة عام 1988. كما جاء في مادته الثانية:

حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين. وحركة الإخوان المسلمين تنظيم عالمي، وهي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وتمتاز بالفهم العميق، والتصور الدقيق والشمولية التامة لكل المفاهيم الإسلامية في شتى مجالات الحياة، في التصور والاعتقاد، في السياسة والاقتصاد، في التربية والاجتماع، في القضاء والحكم، في الدعوة والتعليم، في الفن والإعلام، في الغيب والشهادة، وفي باقي مجالات الحياة.
أمّا في الوثيقة الجديدة، فقد اقتصر تعريف الحركة على الآتي:
حركة المقاومة الإسلامية «حماس» هي حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينيَّة إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيَّتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها.

وهي بذلك لم تذكر حركة الإخوان المسلمين لا من قريب ولا من بعيد، وبالنظر إلى وجهة نظر الكاتب التي تمت الإشارة مُسبقاً بأن الوثيقة الجديدة جاءت لتنسخ الميثاق القديم. فإنه يمكن القول إن حركة حماس أعلنت – بشكل متوار – فك ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين.

أسباب واحتمالات كثيرة قد تكون وراء هذه الخطوة؛ فبعد صدامات الحركة مع حلفائها القدامى (نظام بشار الأسد وإيران)، وبعد ما جنته من تأييدها لإخوان مصر بعد 30 يونيو/حزيران 2013، ربما أدركت حماس أنه من الأفضل التحلل من أي ارتباطات سياسية، قد تُلزمها بمواقف مُحددة، أو تورطها في قضايا شائكة، لا ناقة لها فيها ولا جمل.

وربما الأزمة البنيوية الوجودية التي تمر بها جماعة إخوان مصر، قد خلقت هوة في المواقف والآراء السياسية بين الطرفين، مما دفع حماس للتخلي أو فك الارتباط عنها.

وربما جاء فك الارتباط هذا بناءً على تفاهمات إقليمية ودولية، كشرط مسبق لاستئناف علاقات إقليمية – توترت فيما سبق – أو لبدء جولة مفاوضات جديدة برعاية دولية أمريكية.

3. القبول بدولة فلسطينية على حدود 1967

لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية
فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة.

كان هذا هو نص البند الـ20 كما جاء في وثيقة حماس الجديدة، وهو الذي أثار الكثير من الجدل واللغط حتى قبل الإعلان الرسمي الوثيقة، بعد أن تسرب إلى الإعلام.

وهنا لابد من الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أساسية: الأولى، أن هذا النص – وكذلك الوثيقة – لا يحمل ما يفيد نية الحركة للاعتراف بإسرائيل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. الثانية: قبول حماس بدولة 1967 وفق صيغة توافق وطني فلسطيني وعربي، لا يعني أنها صارت هدفاً واستراتيجية خاصة لحماس. الثالثة: أن مضمون هذا النص قد ورد سابقاً على لسان الشيخ أحمد ياسين في لقاء تلفزيوني، أي أنه ليس بالأمر الجديد أو الدخيل على سياسة حماس.


من الوارد إذن أن حماس هدفت من وراء هذه الصياغة إلى تبديد واحدة من مصادر الانقسام الفلسطيني، وخلق حالة من التوافق العربي حول صيغ التفاهمات الممكنة. ومع ذلك، ورغم كل ما سبق، فلم تكن حماس مضطرة إلى وضع مثل هذا النص «المثير للجدل» في وثيقتها السياسية، فكان من الممكن أن تكتفي بتصريحات رسمية في مناسبات عدة تحمل نفس المضمون، دون أن يكون جزءًا من برنامج الحركة السياسية الذي قد يستمر لثلاثين عاماً أخرى.