منذ أيام وأغنية «نور» كالحمى تصيب كل من رآها بالذهول وبجودة العمل ككل. فراشة جديدة تطير في سماء جهود الدفاع عن حقوق المرأة التي ابتلاها الله أن تكون في مثل مجتمعاتنا. الأغنية التي وصلت إلى عندي أنا، وأنا المنقطع عن ساحات التواصل الاجتماعي منذ فترة طويلة، ولكن يبدو أن العمل الجيد يجد جمهوره بالفعل.ولكن من غيري اهتم بما لم يقله العمل؟! بما لم لم تروِه صفحة مذكرات «نور» عن حياتها؟ ربما لأني لا أجد كل يوم فتاة تعمل في ورشة ميكانيكا سيارات، فلم أقتنع بقصة فيديو الأغنية. وحتى لا يلتبس الظن، فأنا لست هنا لأقلل من قدر هذا المجهود الطيب المنتهي بهذه الأغنية، ولكني هنا أردت رواية قصة «نور» التي أقابلها مرارًا وتكرارًا في حياتي. «نور» التي تتعدى أن تكون «صدفة» في ورشة ميكانيكا، إلى أن تكون «لازمة» حياتية تمر بجواري كل يوم.ربما لا توحي هيئتها أبدًا أن لديها اسمًا غير «أم صابر»، ولا حتى هي باتت تذكر أنه منذ نحو ستين عامًا قد أطلق عليها والدها اسم «نور». يرتبط اسم «نور» لديك عادة بفتاة جميلة من أسرة متوسطة أو أيسر حالاً، لكنه استحالةٌ أن يرتبط لديك ببائعة الجبن التي تقابلها على عتبة مترو «المرج» أو محطة قطار إقليمية.حتى في لفحات البرد القارصة، فموعد الرابعة فجرًا للاستيقاظ لم يفتها أبدًا إلا وهي مستيقظة. تبدل لباس النوم بجلبابها الأزرق بنقوش الورد بكل جنباته، تلف قطعة القماش على رأسها لتحمل عليها قد «الجبن القديم» تعلوه الفطائر. الحمل الذي لا يقدر على حمله كثير من الشباب في سن ولدها صابر الذي حتى بعد أن تزوج لم يكف عن طلب النقود منها. تقف على طلعة الدائري، تستجدي مواصلة لا يتأفف سائقها من هيئة «نور» ويقبل بمساومتها المريرة على الأجرة ولا يتهمها بالبخل الشديد، ولا يعلم أن كل جنيه تستلبه منه في نهاية المساومة، يذهب لزواج الابنة أو للعلاج أو لإعالة أسرة كبيرة تنتظر بيع كل قطع الجبن نهاية اليوم بفارغ الصبر.قبل السادسة صباحًا عليها أن تحط «قدرها» في المكان المحدد وإلا بات عليها أن تخوض شجارًا كبيرًا حتى تنتزعه مرة أخرى ممن سيستولي عليه.في وضع آخر يكون السن اعتبارًا في الوظيفة أو حتى إحالة المعاش، ولكن من يقنع قطع الجبن هذه أن «نور» تعدت الستين من العمر منذ سنوات. من السادسة فجرًا حتى الثامنة مساءً كل يوم، عليها أن تؤجل شيخوختها وضعف بصرها حتى لا يسرق أحد من «أولاد الحرام» كيس نقودها، عليها حتى أن تؤجل جوعها برغيفي خبز تدسهم في أردأ قطعة جبن لديها هذا اليوم، عليها أن تحتمل نظرات التأفف من بضاعتها المكشوفة، ومن سوء معاملة «أمين الشرطة» لها باعتبارها «شحاذة» وهي التي تبذل من العرق ما لم يبذله هذا «الشحط» يومًا طوال حياته. نور كانت هناك ترتقب من يدرك قصتها.كانت تجلس بجانبي في عربة الأجرة، يجاورها شاب لا يمكن أن يقل عمره عن عشرين عامًا، ولكن من النظرة الأولى تعلم فورًا حجم التأخر العقلي الذي ولد به هذا الطفل الكبير. من يوم أن أنجبت «نور» طفلها «عبد الله» وقد علمت أن الابتلاء الرباني قد أصابها في ولدها. رغم الفقر وقلة الحاجة وتخلي الكل، أدركت نور أن عبد الله لا يمكن أن يعتني به حتى والده الذي تهرب دومًا من مسئولياته، ولربما مرت عليه أيام استشاط فيها غضبًا من «تخلفه» و«لماذا رزقتني يا الله بهذا الطفل المعوق؟»؛السؤال الذي لم يخطر ببال نور أبدًا.في سنوات ولدها كلها لم تفكر يومًا كيف تحولت من امرأة إلى مجرد عصا يتكئ عليها هذا الطفل الكبير حتى وهو يقضي حاجته، وتضطر طوال كل هذه السنوات أن تباشر بيديها العاريتين مسؤولية تنظيف ولدها الكبير. يمنعها التصاقها به أن تمارس أدنى درجات حقوقها ولو حتى الاختلاء لقضاء حاجتها، فهي عادة ما تتسرع في إنجاز كل تلك الأمور خشية أن يغيب عن عينيها لثوان معدودة، الله وحده يعلم ما يمكن أن يحدث بها. لا يمكنك أن تجد طفلاً «معاقًا» واحدًا في مصر لا تعتني به أمه «نور»، ولكن من يلتفت للقصة؟تدرك «نور» هذه المرة أن عليها أن تنجز كل شيء بنفسها. تدعو الله فقط أن يتركوها تتحمل كاهل كل هذه الأمور دون أن يدسوا أنوفهم فيما تفعله ولا في كيس نقودها. كانت تنتظر مواسم جني الفاكهة بفارغ الصبر، ترتحل وسط مجموعة من أكثر من «نور» من خليلاتها ينتظرن تلك المواسم بفارغ الصبر، يقطعن مئات الكيلومترات ليصلن إلى «الشيخ زويد» لجني ثمر الخوخ وتعبئته. كنت أمرّ عليهن يوميًا في هذا الموسم أثناء دراستي في السابعة صباحًا؛ لأجدهن يحملن على رؤسهن أقفاص الخوخ التي سهرن طوال الليل ينجزنها من خشب النخيل الذي أحال أيديهن إلى ما يوائم شظف عيشهن.في ذات مرة عددت لواحدة حملت في «نقلة» واحدة أكثر من 70 قفص خوخ على رأسها، وبعدها توقفت أنا عن العد. هذا رقم لا يقدر على حمله شيخ الجامع إياه الذي يقلل من شأن «نور» في خطبه، عزيمة أكبر منه وكلماته في تحمل شهور من العمل الشاق والنوم في جماعات في مساحات ضيقة كما سجون الأسر، وتقليل النفقات إلى أقصى حد تسمح به بطنك التي لم تشعر بالشبع منذ أسابيع، كل ذلك في سبيل ذلك المبلغ الذي تطمح «نور» أن يغنيها حتى موسم آخر تكون فيه لا زالت بكامل صحتها حتى تقنع صاحب العمل أن يوظفها.الكل في الجامعة يعرف «نور» الطالبة المجتهدة، ولكن لا أحد يعلم قصة «نور»!كانت نور مثالاً لتلك الفتاة التي تبتغيها يومًا ابنة لك؛ اجتهاد وذهن متقد، خلق قويم وطلاقة لسان، كان خليطًا جميلًا. لو كان حظك جميلاً مثلي، ستجدها كثيرًا حولك، كان الكل يعلم أن هناك مستقبلاً مشرقًا ينتظر تلك الفتاة المجتهدة»، ولكن لم يحكِ أحد يومًا قصة واقعها الأليم.«نور» التي تبتغي لنفسها الاحتشام قبل أن يطلبه غيرها منها، كان عليها أن ترتحل يوميًا من وإلى الجامعة في مواصلات لا تحترم الذكور حتى تضع حدًا لاحترام «نور». كان عليها أن تتعرض طوال اليوم للنظرات الخبيثة التي يراها جميع الذكور من حولها ولا يتجرأ أحد أن يضع حدًا لها.كان على نور أن تحافظ على مستواها التعليمي، فلا يهم في أي موعد من الشهر جاء الامتحان أو مواعيد التسليم، كان عليها أن تكون حاضرة دومًا بكامل طاقتها حتى في أيام «دورتها الشهرية»؛ الطبيعة الربانية التي يخجل الجميع منها وكأن الله ألصقها بـ«نور» عقابًا. كان عليها أن تعود بعد رحلة عذاب مع المواصلات إلى بيت لا يسمح لها أن تمسك صفحة قبل أن تنجز ما عليها من أعمال منزلية، وأن تقوم بدور الأم الصغيرة لكل طفل حولها وكبير أيضًا. عليها أن تتحمل نظرات والدتها حول الكتاب الذي استعارته من ممدوح زميلها ووجدت أمها اسمه عليه، أن تتحمل ضحكات زميلاتها الصفراء اللاتي يتباهين كل يوم بملابسهن الجديدة، وهي «نور» التي تنتهز الفرصة من وقت لآخر حتى تعدل من «جوربها» فلا يظهر الخرق الذي فيه للعيان.أن تتحمل نظرات المرضى النفسيين الذين دومًا ما يرون «نور» مجرد تفاحة معطوبة مهما بدا لك من سلامة قشرتها، ومضايقات زملائها الذين يتهمونها بالتخلف لمجرد أنها لا تريد لأحد أن يخترق خصوصيتها.وغدًا تتخرج «نور» وتنسحق أكثر في مجتمع يطالبها أن تبذل مجهودًا مضاعفًا حتى تتساوى بالرجل الذي لربما لا يحمل شطر ما تحمله نور من أعباء. و«نور» لا تنفك تفكر: أرجوكم، أريد أن أنجح، لا أن أنسحق. ساعدوني كي أبقى ناجحة، وكي أبقى أيضًا أنثى.في طريقك القادم، التفت حولك بحثًا عن «نور» تكافح من أجل لقمة العيش، أو من أجل أن تحفظ بعضًا من كرامتها قبل أن تتسول. ابحث عن «نور» صعيدية تقطع كل أسبوع الأميال حاملة طفلها المريض بالسرطان لتفترش به الأرض أيامًا حتى تجد فراشًا خاليًا لوليدها المتألم في معهد الأورام. ابحث عن «نور» البدوية التي نالت الحرب من جميع أفراد عائلتها، ونال العمر منها أكثر وما زالت صامدة في وجه الظلام تحاول أن تستجمع بعض ما تبقى لها لتعيش. ابحث عن «نور» التي ينقصها كلمة تشجيع حتى تستمر في ما تنجزه، عن «نور» التي، ولسنوات، تبحث عن يوم «راحة» دون عمل إضافي. عن «نور» الأم التي لا يسعنا أن نحكي قصتها أبدًا، عن «نور» الطفلة التي نأمل جميعًا -عما قريب- أن نوفر لها ظروف حياة أفضل من كل «نور» قبلها.عزيزتي «نور»، أنتِ أعظم من أن توفيكِ الكلمات شيئًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.