مقدمات عديدة شهدها أواخر العصر الأموي وبداية العصر العباسي أفضت إلى تشكيل حركات دينية وسياسية سعت للثورة على الدولتين الإسلاميتين، كان أبرزها حركة «بهافريد» في إيران، والتي ارتكزت إلى موروثات زرادشتية مطعمة بتعاليم إسلامية.

يذكر خالد عزام في «موسوعة التاريخ الإسلامي / العصر العباسي»، أن حركة «بهافريد» أقدم الحركات الدينية السياسية التي ظهرت في خراسان في أواخر عصر الأمويين، وأثناء استفحال الدعوة العباسية هناك، واستمرت بعد تأسيس الدولة العباسية.

صاحب هذه الحركة، التي ظهرت عام 747، رجل يقال له بهافريد (Behafarid) بن فردردينان، من قرية روى من مدينة أبرشهر الإيرانية، وكان مجوسيًا زرادشتيًا تكهن وادعى النبوة.

إحياء الديانات المجوسية

بحسب «عزام»، لا يمكن فصل ظهور هذه الحركة عن السياق السياسي والديني الذي شهدته تلك الفترة التاريخية، فقد حاول التنظيم العباسي في خراسان أن يكسب أتباعًا من سكان الأقاليم الشرقية قبل الثورة العباسية، مستغلين الوضع المتردي الذي كان يعيشه هؤلاء، فأحيا فيهم آمالًا كبيرة إن هم أيدوا الثورة، وبذلك ظهرت من جديد في تلك الأقاليم بعض تعاليم الديانات المجوسية (الزرادشتية والمانوية والمزدكية)، متلبسة بثوب إسلامي أحيانًا، أو بعبارة أخرى جاءت تلك التعاليم متطورة عن تلك الديانات بعد تأثرها ببعض تعاليم الدين الإسلامي.

يذكر غلام حسين صديقي في كتابه «الحركات الدينية المعارضة للإسلام في إيران في القرنين الثاني والثالث الهجريين»، أن خراسان كانت تشهد في ذلك الوقت حالة من عدم الاستقرار؛ فمن جانب كان نصر بن سيار الليثي الكناني آخر ولاة الأمويين على خراسان يقاتل حارث بن سُريج الذي ثار على الدولة الأموية واستولى على أجزاء منها، حيث انطلق من بلدة الفارياب جنوب غربي إيران إلى بلدة بلخ، فدخلها، ثم الجوزجان، ثم الطالقان، ومرو الروذ (بالقرب من الحدود الأفغانية حاليًا).

 ومن جانب آخر، كان ابن سيار في نزاع مع الثائر جُديع بن علي الكرماني الذي كان يخاف شره فسجنه، لكن الكرماني فرَّ من السجن، واجتمع معه ثلاثة آلاف رجل، وخرج من جرجان وتغلب على مرو، ثم ظهر أبو مسلم الخراساني، فاتفق معه على قتال ابن سيار.

تزامَن ذلك مع إرسال زعيم الدولة العباسية، قبل ظهورها، إبراهيم بن محمد الإمام دعاته إلى خراسان حيث التحق به عدد كبير من الناس، كما كان أبو مسلم الخراساني بصدد إعلان دعوته للخلافة العباسية أيضًا.

وفي الحقيقة لم يكن في خراسان حاكم قوي يسيطر عليها.

ويبدو أن «بهافريد» وجد في هذه الظروف القلقة فرصة مناسبة للترويج لدعوته، وإعلان نبوته المزعومة، بعد ما لاحظ استعدادًا لدى الناس للثورة ضد العرب، وكان لقوة شخصيته، دور في تصاعد شأنه، فالتف عدد كبير من الناس حوله من مدينة زوزن وقرى خواف وزاوة بنيشابور ومناطق أخرى.

غير أن ما أسهم في تزايد أعداد مؤيدي «بهافريد» أيضًا، أن عددًا من الإيرانيين في هذه المناطق ومناطق أخرى آنذاك كانوا قد بقوا على دينهم القديم، ولم يعتنقوا الإسلام، وكانت المراسم والشعائر الدينية تتسم بالحرية النسبية، ما سهّل عليه استقطابهم.

 
/

قميص أخضر من الجنة

بحسب الروايات التاريخية، فإن «بهافريد» قبل أن يعلن عن نفسه نبيًا ذهب إلى الصين، وبعد عودته منها جلب معه قميصًا أخضر ناعمًا دقيق الصنع، وعند وصوله إلى بلده في خراسان صعد ليلًا إلى قبة أحد المعابد دون أن يراه أحد، فرآه في الفجر أحد الفلاحين، ثم تجمع الناس حوله، فزعم أنه صعد إلى السماء في فترة غيابه عن الأنظار وهناك شاهد الجنة والنار، وأن الله قد منحه هذا القميص الغريب الذي كان من الجنة.

انتشرت الرواية بين الناس، وتزايد عدد أتباعه، فتحرك «بهافريد» في نيسابور قبل إعلان الثورة العباسية في رمضان سنة 129هـ/ 747م، ولم تقف قيادة الدعوة العباسية ضده، بل على العكس استفادت منه أول الأمر باعتباره عاملًا جديدًا يزيد من إضعاف الأمويين في خراسان.

مزيج الإسلام والزرادشتية

ادعى «بهافريد» النبوة، وأظهر كتابًا باللغة الفارسية زعم أنه أوحي به إليه، ودعا إلى نوع مُعدَّل من الزرادشتية المجوسية، وبشَّر بأنه خليفة زرادشت الذي اعترف به أنه نبي، إلا أنه رفض بعض تعاليمه وأدخل بعض التعديلات الأساسية عليها بما ينسجم مع مبادئ الإسلام وتعاليمه.

ويبدو أن «بهافريد» كان على دراية بأصول وآراء المسلمين والتي أثرت في شخصيته، كما أنه كسب شيئًا من المعرفة خلال زيارته للصين وبلاد ما وراء النهر، ما ترتب عليه خروجه بهذه التعاليم الممزوجة بين الإسلام والزرادشتية.

ويذكر المستشرق الإنجليزي إدوارد براون في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الأدب في إيران»، وترجمه للعربية أحمد كمال الدين حلمي، أن «بهافريد» أمر أتباعه أن يتركوا شعورهم تطول، وأن يتوقفوا عن الزمزمة عند الطعام (أدعية وأذكار كان الزرادشتيون يرددونها ببطء وبصموت مسموع)، وعدم شرب الخمور، والابتعاد عن أكل الميتة ونكاح الأمهات والبنات والأخوات وبنات الأخ، ولم تكن هذه الأمور محرمة في التعاليم الزرادشتية، لكنه أخذ تحريمها من تعاليم الإسلام، غير أنه أمر أتباعه بالسجود إلى عين الشمس على ركبة واحدة، وأن يولوا وجوههم دائمًا شطرها.

وفرض «بهافريد» على أصحابه سبع صلوات، إحداها في توحيد الله وعبادته، وثانيها في خلق السماء والأرض، وثالثها في خلق الحيوان ورزقه، والرابعة في الموت، والخامسة في البعث والحساب أو القيامة ويوم الحشر والحساب، والسادسة في أهل الجنة والنار وما يتدارك من أجلهم، والسابعة في مدح أهل الجنة.

ومن تعاليمه الأخرى أنه حدّد مهر المرأة بأربعمائة درهم، آخذًا في الاعتبار الأوضاع المالية السيئة في خراسان، حيث كان الكثيرون يغالون في تقدير هذه المهور، وهو ما أسهم في زيادة شعبية حركته.

كما أمر أتباعه بالامتناع عن ذبح الحيوانات إلا إذا هزلت وضعفت، وأن يتبرّع كلٌّ منهم سُبع ما لديه من مال لتُصرف على الأعمال العامة، مثل تعمير الطرق وإصلاح القناطر.

وقال «بهافريد» بحلول الروح، وكان من الداعين إلى مذهب الرجعة، معتبرًا أن الإنسان عندما يموت لا ينقطع عن الدنيا وإنما يختفي في مكان ما، وإذا مات سيعود إلى هذه الدنيا قبل يوم الدين. وربما أخذ الرجل هذا المبدأ من بعض الفرق الإسلامية المتطرفة (الغلاة) آنذاك.

وبحسب «صديقي»، فإن بعض هذه الشرائع والرسوم والآداب تعارض ما هو موجود عند الزرادشتيين في ذلك الوقت، وأن وضعها دليل على جرأته وجسارته، لكن يجب التأكيد على نقطة، وهي أنه منذ قرن قبل الفتح العربي وانتشار الإسلام في هذه المناطق، كان الكثير من الناس لا يؤمنون بدين زرادشت ولا يمارسون الطقوس الدينية بشكل مرتب.

لذا ليس من المستبعد أن «بهافريد» شعر بحاجة الناس للمحافظة على أصول الدين الذي كان يهدده الخطر ففكر في إصلاحه، بخاصة أن معنويات الناس ازدادت مع اضطراب الوضع السياسي وشيوع الفتنة، لذلك كان من السهل في مثل هذا الوضع تغيير التعليمات الدينية والإتيان بأخرى.

ورغم ذلك، يطرح «صديقي» تساؤلات لم يجب عليها المؤرخون، منها إذا كان «بهافريد» يعترف بزرادشت نبيًا، فلماذا إذن عارض بعض معتقداته؟ هل كان يعد نبوته أعلى من زرادشت؟ أم أنه كان يتهم أتباع زرادشت بتزييف العقائد وتغيير تعاليمه؟

نهاية «بهافريد»

استمرَّ «بهافريد» في دعوته، وعندما جاء أبو مسلم الخراساني إلى نيسابور، لجأ إليه عدد من رجال الدين الزرادشتي بعد ما اعتبروا «بهافريد» عدوًا لهم ومنشقًا عنهم، وأطلعوه – أي الخراساني» على تعاليمه الجديدة، وقالوا «إنه أفسد دينكم وديننا»، وطلبوا منه أن يقتله ويريحهم منه، فأرسل أبو مسلم شخصين من أتباعه إليه، وهما شبيب بن واج الرورذي وعبدالله بن سعيد، وعرضوا عليه الإسلام، وصار «آفريد» مسلمًا ورفع شعار العباسيين.

ورغم إعلان «بهافريد» عن إسلامه، لكنه لم يكف عن التنبؤ، أي ادعاء النبوة، فجاء عبدالله بن سعيد إلى مدينة زوزن على رأس جيش وقبض عليه في جبال بادغيس، وجلبه إلى نيسابور وأمر أبو مسلم بقتله، وشُنق على باب جامع نيسابور وقُضي على أتباعه، وكان ذلك في عام 749.

مصير البهافريدية

لم تنته أفكار «بها فريد» بموته، فكما يقول أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، بقي أتباعه الذين يُطلق عليهم «الآفريديين» يؤمنون بأفكارهم ويعادون الزرادشتيين بشدة، ويؤمنون أن مؤسس طائفتهم صعد إلى السماء راكبًا على جواد، وأنه سينزل بسرعة وينتقم من الأعداء، وهو أيضًا ما ذكره أبو الفتح محمد الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل».

وروى أبو فرج محمد بن إسحق النديم في كتابه «الفهرست»، أن مذهب «بهافريد» استمرَّ إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ولعل ثبات الآفريديون على معتقداتهم يعود بعضه إلى اعتقادهم بحتمية رجوع مؤسس طائفتهم.

وبحسب «عزام»، كان الدافع وراء حركة «بهافريد» سياسيًا أكثر منه دينيًا، لأنه طمع بسياسته التوفيقية بين المجوسية الزرادشتية والإسلام في أن يضم إلى حركته المجوس إضافة إلى الموالي الفرس الذين لم يكن قد مضى على إسلامهم وقت طويل، وصولًا إلى تحطيم السيادة العربية والإسلامية على بلاده.

حركة «استاذ سيس» امتداد للبهافريدية

في عام 767م ثار شخص يدعى «استاذ سيس» على العباسيين، وبحسب «عزام» كانت أفكار هذا الرجل امتدادًا لتعاليم «بهافريد». ويذكر ابن الأثير الجرزي في كتابه «الكامل في التاريخ» أن «سيس» «ادعى النبوة وأظهر أصحابه الفسق وقطع السبيل».

وفي كتابه «الدعوة العباسية.. مبادئ وأساليب»، يذكر الدكتور حسين عطوان، أن 300 ألف مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان اجتمعوا حول «استاذ سيس»، فاحتل بهم مناطق واسعة من خراسان، ثم سار بهم إلى منطقة مرو الروذ، فاستولى عليها، وقتل القائد العباسي الأجشم المروروذي، واستباح عسكره، وهزم عددًا من القواد الذين تعرضوا له.

وأمام هذه التطورات، وجه إليه الخليفة أبو جعفر المنصور خازم بن خزيمة التميمي في جيش، فدحرهم «استاذ سيس»، وأوقع بهم هزيمة.

بعدها عاد ابن خزيمة، ونظم جيشه واستعد للقتال، واستطاع إلحاق الهزيمة بأتباع «استاذ سيس»، فقتل منهم سبعين ألفًا وأسر 14  ألفًا، فهرب «سيس» في نفر يسير من أصحابه، واختبأ في جبل، فحاصره ابن خزيمة وقتل الأسرى.

وإزاء هذا المتغير، احتكم الطرفان إلى حكم أبي عون عبدالملك بن يزيد الأزدي، أحد القادة العباسيين الأوائل في منطقة جرجان الإيرانية، فحكم أن يوثق «استاذ سيس» وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يُعتق باقي أتباعه، وعددهم 30 ألفًا، فأمضى ابن خزيمة حكم «الأزدي».

وبحسب «عطوان»، لم يشر أكثر المؤرخين إلى نهاية «استاذ سيس» باستثناء أحمد بن يعقوب، الذي ذكر في كتابه «تاريخ اليعقوبي»، أن خازمًا «أسره إلى أبي جعفر في بغداد، فقتله».

وينقل «براون» عن المستشرق الأسكتلندي ويليم موير، الذي ألّف ثلاثة كتب عن الخلافة الإسلامية منها «تاريخ الخلافة الأولى»، أن «الخيرزان» زوجة الخليفة العباسي أبو عبدالله محمد المهدي (744- 785) وأم الهادي وهارون الرشيد كانت أخت «استاذ سيس».