إن سيرة مالكوم إكس الذاتية ما هى إلا ترتيلةٌ تُمجّد روح الإنسان التي يُمكنها البقاء والاستمرار في مواجهة أكثر الظروف إفسادًا وتدميرًا، والإنسان في مقدوره تحقيق هذا البقاء والاستمرار لأنه يحلم دائمًا بعالم من البراءة الأولى.
عبد الوهاب المسيري

في غالبية الثورات والحركات النضالية الكبيرة، يشعر المشاركون في تلك الثورات على اختلاف أزمانهم وأماكنهم وقضاياهم برابطة ما تجمعهم، وكأنهم جميعًا جزء من مسيرة طويلة من الثوريين تسير دائمًا إلى الأمام. ومنذ انطلاق ثورات الربيع العربي التي اتسمت بخفة الحمولة الأيديولوجية، تم استحضار العديد من النماذج الثورية في المخيال الجمعي للمشاركين في الحراك، وتنوعت تلك النماذج من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين من تشي غيفارا إلى سيد قطب، مرورًا بمالكوم إكس الذي تمر بنا ذكرى اغتياله.

رحلة مالكوم إكس أو الحاج مالك شباز كما سيُسمي نفسه فيما بعد، كما فسرها الدكتور عبد الوهاب المسيري، هي رحلة ولّدتها النزعة المثالية الثورية لدى مالكوم إكس؛ رحلة كان وقودها الدائم حنين إلى عالم من العدالة والمساواة لم يرَه مالكوم ولكنه – كأي ثوري – أنصت بقلبه ووجدانه لذلك الحنين الفطري الذي يحمله تجاه عالم من البراءة والحرية.


وحيد في عالم من العداوة

بدأت سيرة مالكوم بيُتمٍ مُبكر،فوالده القس المسيحي المتدين اغتالته إحدى المجموعات المتطرفة من العنصريين البيض بسبب نشاطه السياسي ودعوته لتقوية مجتمع السود. وبعد حادثة الاغتيال، تم محاصرة والدة مالكوم اجتماعيًا فعجزت عن حماية أبنائها. وفي الأخير، قامت الرعاية الاجتماعية بأخذه من والدته وتنشئته داخل مؤسساتها التعليمية والتربوية الخاصة، ليتحول مالكوم داخل تلك المؤسسات إلى رقم في سجل مدني داخل مؤسسات عملاقة تحوى آلاف الأطفال ليس لديهم أسماء سوى أرقامهم.

يروي مالكوم في سيرته أن شغفه الخاص وحلم أمه له كان أن يدرس القانون ويصبح محاميًا؛ لكن خلال تتبع سيرته، نرى بوضوح تواطؤ كل شيء ضد مالكوم وضد حلمه ،حيث رفضت المؤسسات التعليمية والتربوية التي تعهدت بتنشئته، والمعلمون المقربون من مالكوم، فكرة أن يكون محاميًا، وكانت أسباب الجميع واحدة: أسباب بيولوجية وعرقية مُنحصرة فقط في كونه أسود اللون. كان هذا سببًا رئيسيًا في مرض نفسي طويل أصاب أمه؛ يروي مالكوم إكس.


أخلاقية العصابات أم عدمية امريكا

في شباب مالكوم إكس، وبعد فقدانه أي أمل في الاندماج بالمجتمع الأمريكي كمواطن له نفس الحقوق والواجبات، عمل مالكوم كعامل في القطارات متنقلاً بين الولايات والمدن الأمريكية، حيث أورد في سيرته أن تنقله الدائم في محطة القطار أنقذه من الانضمام إلى الجيش الأمريكي أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية.

في حي هارلم بمدينة نيويورك، تعرف مالكوم إكس على واحدة من عصابات السُود، سيشكل انضمامه إليها وعي مالكوم إكس وبداية تمرده الواعي على عنصرية المجتمع الأمريكي. مثلت العصابة السوداء التي تعتمد على بعض الأعمال الإجرامية الصغيرة كالتهريب وتنظيم المراهنات وغير ذلك، المحضن الاجتماعي الآمن لمالكوم الشاب لفترة من الزمن. في مذكراته يحكي مالكوم إكس أن فرد العصابة مثله كمثل أي فرد في جماعة مُهمشة، هو نتاج أساسي للتمييز العنصري، بل والطبقي، داخل المجتمع.

يفسر الدكتور المسيري ذلك موضحًا أن في مجتمع تسود فيه العنصرية العرقية والنزعة الاستهلاكية، تغدو التشكيلات الاجتماعية المهمشة والمقصاة من النظام الاجتماعي السائد أكثر أخلاقية، وتحتوي على رحابة إنسانية وتراحمية أكثر من المتن الاجتماعي نفسه. وبالاستمرار مع سيرة مالكوم، نجد المقاييس الأخلاقية والتراحمية للعصابة تتجلى بصورة ما أسمى من قيم المجتمع الأمريكي المعلنة أو الرسمية في تلك الفترة، فرجل العصابة لا يخون زملاءه ولا حتى يكذب عليهم، والعصابة نفسها هي امتداد لأسرة الفرد، كما أن العلاقات بين أفراد العصابة – كما علاقة مالكوم بصديقه شورتي – علاقة صداقة ومحبة وجودية صادقة لا تكاد توجد في مجتمع الدولار والاستهلاك المبني على الصراع الطبقي والعرقي حيث يلتهم الإنسان أخاه الإنسان، كما أن هذا الكود الأخلاقي كان متسقًا بشكل كبير مع نفسه لأنه يُطبّق على السُود والبيض على السواء، وهذه قيمة أخلاقية لم تصل إليها الولايات المتحدة.


حركة أمة الإسلام: الإسلام كأيديولوجيا ما بعد استعمارية

انتهت تجربة مالكوم إكس مع تلك العصابة بإيداعه السجن، لتبدأ بذلك أشد تجارب مالكوم إكس جذرية؛ وهي اعتناقه الإسلام. ولكن أي إسلام الذي اعتنقه الحاج مالك شباز؟

قضى مالكوم إكس ست سنوات ونصف داخل السجن، تعرّف فيها على أعضاء حركة أمة الإسلام، وقرأ مالكوم مئات الكتب في الأديان وفلاسفة الشرق والغرب كنيتشه وكانط وتعاليم بوذا، وسلسلة ول ديورانت كاملة، والإنجيل بنسخه المتنوعة، وغير ذلك الكثير. وقام مالكوم بنسخ قاموس اللغة الإنجليزية كلمة كلمة لينمي مفرداته الخطابية والكتابية. يخرج بعد ذلك مالك شباز من السجن ليُصبح ألمع الوجوه الإعلامية لـ «أمة الإسلام». وليخرج من أعماق اللاوعي الأميركي الأبيض أسوأ كوابيسه السوداء.

كانت حركة أمة الإسلام جماعة منغلقة وراديكالية إلى حد بعيد. كان هدف الحركة الاجتماعي والسياسي هو الاستقلال الاقتصادي، ومن ثم السياسي والاجتماعي، عن مجتمع البيض، وأخيرًا إقامة دولة للسود في الولايات المتحدة أو في أفريقيا؛ إلا أن الحركة عدا الضغط والعمل لتحقيق أهدافها، رفضت بشكل قاطع أي شكل من أشكال المشاركة السياسية من شأنها أن تخلق نوعًا ما من الاندماج بين الحركة وبين المجتمع الأمريكي.

شكلت حركة أمة الإسلام أو الأمة السوداء لأعضائها من السود المهمشين والمجروحين من تاريخ طويل من القمع العنصري والطبقي، هوية جديدة تبعث على الفخر والاعتزاز بالذات، وكان من آثار ذلك التحول الهوياتي نزوع بعض الأميركيين السود إلى إطلاق الأسماء العربية والسواحلية على أبنائهم، وهو أمر ظل مستمرًا حتى لحطتنا تلك.

وقد تداخل التكوين الأيديولوجي لحركة أمة الإسلام مع فهمها الديني والعقائدي للإسلام تداخلا مُربكًا، وصفه مالكوم فيما بعد بأنه كان قطعًا مُبعثرة من الإسلام، فتَشكل بشكل شبيه بأيديولوجيات العالم الثالث المناوئة للغرب والاستعمار، وإن كان بِحُكم ارتباطه بالعقيدة الإسلامية، احتوى على عُمق ميتافيزيقي أكبر. يوضح الكاتب عبد الرحمن الجيتاوي أساس ذلك بقوله: «مثّل الإسلام معادلاً موضوعيًا لطغيان النظام الغربي، ورافعة اجتماعية وسياسية للتغيير والمقاومة. هذه الخصيصة هي نفسها التي تدفع بالإسلام السياسي إلى المواقع الأمامية في الساحات العربية، وهي نفسها التي جعلت لبعض حركات الاحتجاج الأفروأميركي لونًا إسلاميًا».

ذهبت الحركة أبعد من ذلك، بأن جعلت الإسلام هو مقلوب تصورات الحداثة المسيحية البيضاء، حيث كانت الأيديولوجيا المهيمنة على الغرب الأبيض المسيحي تخلع على الإله ألوانًا معينة وتُكسبه سمات عرقية محددة، فشعر العديد من السود طوال أيام العبودية التي رعتها المؤسسات العلمانية والدينية على السواء، بأن المسيحية والمسيح مقصوران فقط على الرجل الأبيض والحضارة الغربية. هنا، أتى فهم الحركة للدين الإسلامي على نفس النمط، وإن كان بشكل معكوس، فالإسلام هو دين الإنسان الأسود المقهور، وهو مصدر هويته وقوته، وهو وسيلة المقاومة وغايتها، بل يعتقد أعضاء حركة أمة الإسلام أن الإنسان الأسود هو أصل البشرية، وهو الذي حكم الأرض منذ منشئها، وأن الشيطان هو الأبيض المسيحي، ومن ثم لا يجوز للمسلم الأسود أن يتعامل معه.

بالرغم من أن تعرّف مالكوم على حركة أمة الإسلام وإيمانه بأفكارهم يعد النقطة المفصلية الأهم في حياته، إلا أنه، كما يوضح الدكتور عبد الوهاب المسيري، لم يُشبِع رغبة مالكوم في الخلاص، ولم يُلبِّ شوقه الثوري والمثالي إلى ما ظل يحلم به طوال حياته.


رحلة الحج أو إسلام الشرق والغرب

لم أشهد في حياتي أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية.
مالكوم إكس

بسبب خلافات مع العديد من أقرانه في حركة «أمة الإسلام»، ترك مالكوم إكس منصبه كمتحدث رسمي للحركة، وقرر على إثر ذلك السفر إلى مكة والقيام بفريضة الحج. كان لهذه الرحلة أبلغ الأثر، ليس على فهم مالكوم إكس فحسب، ولكن على تاريخ تطور الإسلام في أمريكا حتى اللحظة. يقول مالكوم إكس في رسالة لزوجته ورفاقه:

في جدة في المملكة العربية السعودية في طريقي لمكة، تذكرت كلمات الله: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ». من مكة، مدينة الإسلام المقدسة، كتبت لأصدقائي بأمريكا، لم أشهد مثل هذا الترحاب وهذه الأخوة الصادقة، التي أراها تمارس على هذه الأرض العتيقة المقدسة، أرض سيدنا إبراهيم، وسيدنا محمد، وأرض كل رسل الله العظيم، ربما تُصدمون لأن هذه الكلمات تصدر مني، ولكن ما رأيته يدفعني لأعيد ترتيب معظم أنماط تفكيري التي عشتُ بها، وأن أُلقي بمعظم استنتاجاتي السابقة. خلال الأحد عشر يومًا الماضية أكلت من نفس الطبق وشربت من نفس الكوب ونمت على نفس الأرض وصليت لنفس الإله مع إخوتي المسلمين الذين تنوعوا ما بين الأعين الزرقاء والبشرة الفاتحة وذوي الشعر الأصفر وأصحاب البشرة البيضاء تمامًا.. كنا جميعا متساوين.. لا فرق بيننا لأنهم يؤمنون بصدق بإله واحد أزال رعونة تصرف البيض من عقولهم، ومن سلوكياتهم ومن تصرفاتهم، مرتديًا زي الحج أديتُ السبعة أشواط طائفًا بالكعبة وشربت من بئر زمزم وسعيت بين الصفا والمروة ووقفت على جبل عرفات مع أخي خاضعين ملبين «لقد جئت يا إلهي.. لبيك اللهم لبيك.. الله أكبر.. اهدنا يا رب بسلام». ولأول مرة بعد تسعة وعشرين عامًا قضيتها على هذه الأرض وقفت أمام خالق كل شيء وشعرت أني إنسان كامل. أخوكم المخلص.. الحاج مالك الشباز

هنا، تظهر آخر التحولات في شخصية مالكوم إكس أو الحاج مالك شباز. لقد مكنه هذا التفاعل الشخصي مع الحجاج المسلمين المجتمعين في مكة من كل مكان في العالم، من إدراك الأبعاد المثالية والثورية لفكرة عالمية الرسالة الإسلامية، حيث جميع البشر متساوون أمام الله خالق كل شيء. وقف مالكوم كأمريكي من أصل أفريقي في الحج على جبل عرفات، وشعر لأول مرة في حياته بخلاصه الروحي.

اقرأ أيضًا:عالمية الإسلام: اجتهادات في وحدة الدين وتعدد الرسالات

عاد مالكوم إلى أمريكا، وأعلن انفصاله عن حركة «أمة الإسلام»، ورفض بشكل قاطع مقولتها الأساسية بأن الرجل الأبيض هو عدو الإسلام رغم معرفة مالكوم بالتاريخ الاستعماري القمعي الطويل الذي مارسه في شتى أرجاء العالم، إلا أنه بلغ من السماحة والتحرر من العرقية حد رفض العنصرية، وأيضًا رفض مقلوبها، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الإنساني الصالح.

هذه هي سيرة مالك شباز إذن.. من تحول جذري إلى آخر، ومن سؤال إلى سؤال أصعب، ودائمًا تلك القدرة على التتلمذ والتعلم. استطاع مالكوم أن يكتشف نفسه ويكتشف روحه الحقيقية الجميلة. رفض مالكوم أخلاقيات المجتمع الأمريكي العنصرية والاستهلاكية على السواء، وفاض قلبه بحب مكة المكرمة حتى أنه ترك جزءًا من نفسه في تلك المدينة المباركة وحمل في قلبه دائمًا جزءًا منها. لم يكتفِ مالكوم بالبقاء في مكة أو المشرق الإسلامي، وعاد إلى أمريكا رافضًا أفكاره القديمة، ومُخاطرًا بحياته، وحاملاً حلمه الثوري القديم بعالم أكثر عدلاً وبراءة.

المراجع
  1. مالكوك إكس:سيرة ذاتية، أليكس هيلي،ترجمة ليلى ابو زيد ،دار بيسان للنشر والتوزيع.
  2. الفردوس المفقود،د.عبد الوهاب المسيري ،دار التنوير للنشر والإعلام.
  3. The Legacy of Malcom X، أحمد شوقي، ترجمة محمد حسن.
  4. تحولات مالكوم إكس ورحلته العربية، عبدالحمن الجيتاوي، موقع الجزيرة نت.