عندما نتحدث عن الأغنية السياسية في مصر يصعب أن نضع تاريخًا محددًا لبدايتها وبخاصة أن تجارب الغناء السياسي لم تظهر بشكل واضح إلا مع انتصاف القرن العشرين أما قبل ذلك فكانت تجارب وليدة اللحظة صنعت للمشاركة والتعليق على الأحداث السياسية.

في البداية لا بد أن نفرق بين الأغنية السياسية المحضة وبين الأغاني الوطنية «أغاني البروباجندا الدعائية للأنظمة»، ونحاول تلمس الطريق نحو وضع تعريف مبسط للأغنية السياسية حيث اتفق الغالبية على أنها الأغنية الملتزمة بقضايا الناس في مضمونها وتحمل بين طياتها بوادر تغيير وثورة على الأوضاع الاجتماعية والسياسية مع التأكيد أنها لا بد أن تحتل جزءًا أساسيًا من مشروع الفنان وليس على الهامش من فنه يصنعها عند الحاجة إليها فقط.

عصر النهضة (1800-1899)

رغم أن عصر النهضة شهد تطورًا موسيقيًا قاده الشيخ المسلوب ومحمد عثمان وعبده الحامولي فإن هذا التطور كان مقتصرًا على الألحان فقط ومحاولة تهذيبها حيث وضع المسلوب اللبنة الأولى في فن الدور الغنائي وكان أغلب الغناء يسير في ركاب المجتمع الإقطاعي العثماني وحفلات تقديم فروض الولاء والطاعة للحكام وحفلات زواج أبناء الطبقات العليا دون أن نجد نصًا شعريًا واحدًا اهتم بشؤون الناس الحياتية ومحاولة رصد قضاياهم الاجتماعية والسياسية.

مع ثورة عرابي بدأت تتشكل ملامح أغنية سياسية حيث أنشد الشعب العديد من الأناشيد والأهازيج في المظاهرات التي تندد بالاحتلال الإنجليزي وتمجد في الثورة وأبطالها «يا عرابي الله ينصرك بجيش المؤمنين يا عرابي بكره عسكرك يكيد المجرمين»، «يا عزيز يا عزيز كبة تاخد الإنجليز»، ثم كتب إسماعيل صبري دور «عشنا وشفنا» الذي يعتبر أولى الصرخات ضد القمع الذي كانت تمارسه قوات الاحتلال أواخر القرن العشرين من حيث الكلمات الجريئة «عشنا وشفنا سنين واللي يعيش يشوف العجب – غيرنا تملك و صال – وإحنا نصيبنا خيال – هو ده العدل يا منصفين»

الملاحظ في تلك الفترة أن الأغاني والأناشيد الوطنية خرجت بشكل عفوي من الشعب ودون تنظيم حيث كانت مجرد رد فعل على الأحداث السياسية الملتهبة التي تعيشها البلاد مثلما خرج الشعب يمجد في البطل إبراهيم الورداني قاتل بطرس غالي قاضي حادث دنشواي وأنشد الشعب يوم إعدامه «قولوا لعين الشمس ما تحماشي، أحسن غزال البر صابح ماشي» تلك الأغنية التي أصبحت تراثًا شعبيًا بعد ذلك يتناقله الأجيال وأعاد صياغتها وتهذيبها الشاعر مجدي نجيب مع بليغ حمدي بعد نكسة 67.

سيد درويش

قد يحلو للبعض أن يبدأ تاريخ الأغنية السياسية في مصر من عند سيد درويش وهي الإشكالية التي طرحها فيكتور سحاب في كتاب السبعة الكبار في الموسيقى العربية حول المبالغة في حصر  سيد درويش كفنان يمتلك توجهًا سياسيًا على حساب إسهاماته العظيمة في الغناء العربي حيث وضع البذرة الأولى في تطويره.

صنف سحاب أغنيات سيد درويش السياسية إلى خمسة أقسام الأول : الأغاني الوطنية المباشرة مثل أناشيد قوم يا مصري وبلادي بلادي وقصيدة بنو مصر، الثاني : أغاني الطوائف وأصحاب المهن مثل لحن الشيالين «شد الحزام»، لحن الموظفين «هز الهلال يا سيد»، الثالث: الأغاني السياسية المباشرة مثل «أهو ده اللي صار»، أما الرابع : فهي الأغاني غير المباشرة مثل «يا بلح زغلول»، ودور «عواطفك أشهر من نار»، أما القسم الأخير فهي الأغاني التي ينتقد فيها الأوضاع الاجتماعية مثل الغلاء في «استعجبوا له يا أفندية لتر الجاز بقا بروبية» أو الأوضاع السلبية للشعب مثل الأغنيات التي ينتقد فيها تعاطي المخدرات.

ثم تحدث سحاب عن نقطة مهمة جدًا وهي أنه يجب علينا التفريق بين القيمة السياسية للأعمال وبين القيمة الموسيقية لها ولا تجوز المقارنة بينهما وأن القيمة الفنية العالية في أغاني سيد درويش أفادت القضية السياسية والاجتماعية التي طرحها وهذا يفسر بقاء تلك الأغنيات في ذاكرة الشعب حتى الآن و بالضرورة ليس كل فن وطني سياسي فنًا عظيمًا لأن هناك بعض التجارب يمكن تصنيفها على أنها فن رديء حتى مع صلاح نية صانعه لكن في النهاية لن يمنحه حصانة ضد الانتقاد.

أغاني ثورة يوليو 1952

يصعب جدًا أن نضع تصنيفًا لكل ما جرى من غناء وطني بعد ثورة يوليو 52 وهل يمكن أن يدرج تحت بند الأغاني السياسية أم تم التأسيس لمرحلة جديدة استخدم فيها الغناء كوسيلة  لنشر أفكار الثورة والدعاية للنظام الحاكم.

تمحورت أغاني تلك الفترة حول شخص الزعيم القائد جمال عبد الناصر مستعينًا بصفوة المطربين والشعراء والملحنين لم يكن غناءً معنيًا بقضايا الشعب بل محاولة لإشراكه في قضايا حكامه ومشروعه القومي الاشتراكي، بدأت تلك الحقبة مبكرًا مع الأسابيع الأولى من قيام ثورة يوليو حيث غنت أم كلثوم «مصر التي في خاطري»،  «يا جمال يا مثال الوطنية»، «ثوار»، «حق بلادك»، «والله زمان يا سلاحي»، «نشيد الجلاء»، «أصبح عندي الآن بندقية»، ثم انطلق عبد الحليم حافظ كصوت الثورة الأثير بأغانٍ أهدى معظمها إلى جمال عبد الناصر بدأها بأغاني «العهد الجديد» ثم «إحنا الشعب»، «صورة»، «بالأحضان»، «يا أهلا بالمعارك»، «المسئولية»، «حكاية شعب»، ثم دخل عبد الوهاب نفس المضمار بعدة أوبريتات: «الجيل الصاعد»، «صوت الجماهير»، «وطني حبيبي».

رغم نجاح بعض تلك الأغاني فإن الجميع استفاق على وقع نكسة يوليو والغريب أن أعظم ما أنتج عبد الحليم (صوت الثورة) كانت أغنية «عدى النهار» التي صنعت وقت تنحي عبد الناصر وظلت هي الباقية من كل أغانيه الوطنية من فرط صدقها على العكس من الأغنيات الأخرى التي وصفها كاتبها صلاح جاهين بأنها ساهمت في تضليل وخداع الشعب.

تجارب غنائية سياسية على الهامش

بعد النكسة ظهرت تجارب غنائية أخذت توجهًا سياسيًا مثل تجربة محمد نوح التي مثلت البذرة الأولى في تيار الأغنية المصرية الحديثة واشتهر بكونه قادرًا على إلهاب حماس الجماهير في أغانٍ تنادي بالنهوض من كبوة النكسة مثل «مدد مدد» و«شيلي طرح الحزن» لم تكن تجربة نوح ناضجة سياسيًا بالقدر الكافي ومعه تجربة محمد حمام الذي بدأ الغناء من المعتقل صحبة العديد من المثقفين البارزين وخرج ليصنع أشهر أغنياته «بيوت السويس» تلك المدينة التي استقر فيها للغناء مع فرقة أولاد الأرض، أيضًا تجربة عدلي فخري التي كانت تجربة نخبوية بعض الشيء ولم تأخذ مساحة واسعة من ذاكرة المستمع.

النكسة وصعود نجم وإمام

ألقت النكسة بظلالها على كافة مناحي الحياة في بر مصر ومنها عالم الأغنية حيث شهدت خفوتًا قويًا للأغنية الوطنية ذات الشعارات الرنانة التي تتبنى رؤية النظام وتمجد في شخص الحاكم البطل المخلص وانهارت الأحلام الوردية التي صاغها جاهين «تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا في كل قرية عربية» وانزوى مكتئبًا حتى وفاته منتصف الثمانينيات.

قبل النكسة لم يكن أحمد الشاعر أحمد فؤاد نجم قد انخرط في كتابة الشعر السياسي بل كان شعره غالبًا ما يدور في فلك عالمه البسيط مع رفيق دربه الشيخ إمام حيث كانا يجوبان الأفراح وليالي الأنس والمزاج في أحياء القاهرة القديمة.

عندما وقعت النكسة اختفى الثنائي داخل الغرفة الضيقة التي يسكنها في حوش قديم، ليخرجا علينا بأولى قصائدهما السياسية والتي عنونها الكاتب صلاح عيسى «البلاغ رقم واحد لتمرد هذا الجيل» وكانت القصيدة بعنوان «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا- يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار».

تلك القصيدة كانت بيانًا غاضبًا وإدانة واضحة للبيروقراطية العسكرية ، توالت بيانات نجم الشعرية اللاذعة التي تندد بالأوضاع التي أوصلتنا إلى النكسة منها الأغنية الشهيرة «بقرة حاحا» وحقق الثنائي انتشارًا واسعًا لدى جموع المثقفين حتى أصبحا ظاهرة فنية كتب عنها العديد من الأدباء والمفكرين مثل رجاء النقاش، أحمد بهاء الدين، لويس عوض ثم بدأت محاولات تدجين تلك التجربة التي لم تخرج من فلك تيار سياسي معين أو تتبنى أيدلوجية سياسية سوى أنها جاءت من الشعب والى الشعب، بدأ نجم ينشر بعضًا من قصائده على صفحات مجلة الكواكب الفنية التي بدأت في تغطية العديد من الندوات والسهرات الفنية التي يحييها الشيخ إمام متبوعة بآراء بعض الملحنين والمطربين في ظاهرة الشيخ إمام وتقييم تجربته وموقعه من الملحنين الحاليين، وكان للثنائي برنامج يلقي فيه نجم بعضًا من أشعاره ويغني بعضها الشيخ إمام وكان محظورًا تداول بعض القصائد مثل «بقرة حاحا» و«الحمد لله» نظرًا لحساسية الموقف لكن نجم بحسه الساخر كان يفعل العكس دائمًا حتى وصل الأمر إلى مسامع عبد الناصر الذي أمر باعتقال الثنائي وبدأت حملات ضدهما قادها أحد كبار مثقفي مصر عندما وصف أغنياتهم بأنها لم تكن نقدًا للأوضاع السياسية بل جلدًا للذات في وقت الكل يجب عليه الالتفاف حول القيادة الوطنية ومساندتها في الأزمة.

على الرغم من تبني اليسار المصري لتجربة إمام ونجم فإن غناءهم ظل مقتصرًا على شريحة ثقافية معينة في ظل مطاردة الأنظمة المستمرة لهما وخروجهما خارج البلاد لفترة لكنها تظل أصدق ما قدم في تاريخ الأغنية السياسية في مصر تجربة دفع ثمنها الثنائي كثيرًا من تشتت وغربة وأحكام قضائية واتهامات بتكدير السلم العام وإهانة رئيس الجمهورية ومن فرط صدقها أنه عندما قامت ثورة يناير لم يجد الثوار سوى أغنياتهم كي يعيدوا ترديدها مرة أخرى بعد سنوات طويلة من التهميش.