إنهم لا يسمحون للإنسان بأي شكل بأن يكون نفسه…

يكتب أورهان باموق مُتذكرًا في إحدى المرات أنه وجد صوته السردي المُميز أثناء تأليفه هذه الرواية، والتي ترجمها للعربية: الأستاذ عبد القادر عبد اللي، المُترجم السوري الذي تَرجم له أيضًا أشهر رواياته مثل «اسمي أحمر» و«ثلج» و«مُتحف البراءة».

ولد باموق[1] عام 1952 لعائلة تُركية عَلمانية من الطبقة المتوسطة ميسورة الحال، ويقول إن جده جَنى أموالاً طائلة في حياته، بددها الأبناء والأحفاد في مشاريع تجارية فاشلة وفي قاعات محاكم قضائية بسبب خلافات أُسرية على تقسيم التَرٍكة. واستغل باموق المكتبة التي احتفظ أبوه بها، في تزجية وقته بالقراءة. لكنه لم يكن ينوي أن يصير روائيًا، فقد ظل منذ طفولته إلى سن الثانية والعشرين يحلم بأن يصير مُهندسا معماريًا، وبالفعل درس في الجامعة التقنية بإسطنبول، على أمل أن يصير مثل مُعظم أفراد عائلته. لكنه قرر في السنة الثالثة من دخولها أن يترك كل شيء وراءه، وأن يتخلى عن ذاته التي خلقها من أجل ارضاء الآخرين. وبمجرد أن أعلن لهم أنه كاتب، حبس نفسه في غرفته لكتابة الروايات. ولينشر أول رواية له عام 1983 بعنوان «جودت بيه وأبناؤه»[2] التي فاز عنها بجائزة أورهان كمال للرواية[3]، وهي تحكي قصة عائلة برجوازية تركية تفقد ثروتها.

يقول باموق إن أمه بطبيعة الحال كانت قلقة عليه للغاية، «وكانت محقة لأنني لم أجنِ أي قرش في السنين الأولى من الكتابة!» يصرح مُبتسمًا. أما أبوه فقد كان مُتفهمًا لأنه كان يرغب في شبابه أن يكون شاعرًا، لكنه تخلى عن حلمه.

لا يقترب الإنسان جيدًا من كونه نفسه إلا عندما لا يجد ما يقصه. حين ينفذ ما يمكن للإنسان أن يشرحه…

تدور أحداث رواية «الكتاب الأسود»[4] في أواخر السبعينيات بإسطنبول، قبل أشهر معدودة من الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980. وتبدأ الأحداث بـ(غالب) الذي يشتغل في مكتب للمُحاماة، والذي تتركه زوجته (رؤيا) في مساء يومٍ دون أي سابق اِنذار؛ تاركةً وراءها رسالة مُلغزة من تسع عشرة كلمة، تُفقد غالبًا اتزانه. وبمرور الوقت، يتملكه إحساس قوي بأنها مُختبئة في شقة سرية مع أخيها نصف الشقيق (جلال صاليك)، كاتب العامود الصحفي الشهير. ويقوم غالب على إثر ذلك برحلة البحث عنها وعن جلال المُختفي أيضًا في مختلف زوايا المدينة الكالحة والحزينة. ورغم أن الرواية لا تلتفت للحدث السياسي بالأساس، إلا أنها تجعل مُسبباته تطنّ في الخلفية، جاعلة من التوتر الخفيّ بين الشيوعيين والإسلاميين وأفراد الجيش في تركيا، أرضًا تتحرك فوقها شخصيات الرواية الرئيسية.

وكعادة باموق، يستغرق في وصف مدينة إسنطبول والتغيرات التي مرت بها طوال السنين في روايته التي تقترب من الخمسمائة صفحة مُوثقًا لطبوغرافية المدينة التي ولد بها. وربما يعيب الرواية الإسهاب في الحكي، بالذات في الثلث الأخير منها. وهذه ليست المرة الأولى التي يَتلقى فيها باموق هذا التعليق، ففي مسيرته الكتابية نُشرت له عشر روايات تجاوزت كل واحدة الأربعمائة صفحة عدا اثنتين: «القلعة البيضاء» و«المرأة الصهباء»[5]. لكن ذلك التعليق لا يضايقه، خاصة وأن قراءه لا ينزعجون من ذلك. ويحكي شارحًا في إحدى الندوات أنه صادف في بداياته سيدة عجوز في الشارع، تعرفت على وجهه وسألته بنبرة فضولية: «أستاذ باموق، أستاذ باموق. هل تكتب رواية في الوقت الحالي؟». كان اسمه معروفًا إلى حد ما في ذلك الوقت. فأجابها متفاخرًا: أي نعم يا سيدتي. فقالت: «كرمى لله، اجعل روايتك التي تكتبها أطول قليلًا!».

عدا الكتابة، ليس ثمة ما يُدهش كالحياة.

تنقسم الرواية إلى جزأين، تتبادل الفصول فيهما بين صوت الراوي العليم الذي يحكي عن رحلة غالب، وبين المقالات المكتوبة بقلم جلال والمنشورة في جريد الملييت التركية. ويمكن للقارئ أن يلاحظ أن هذه المقالات يمكن استخدامها لفك الرموز الخفية في رحلة البحث.

شخصية غالب نسخة مُكررة للبطل التقليدي في الروايات. فقد نشأ كولدٍ مُهذب تفختر به العائلة، على عكس جلال الذي يُعد خيبة الأمل التي لم يتوقعها أحد، والذي فضل حياة العزوبية وفضح أسرار العائلة في مقالاته التي يكتبها.

حبكة الرواية هنا ليست الأساس، وهي إن أردتَ الصراحة: حبكة لرواية تشويقية تقليدية يسهل التنبؤ بها. ولقد تناولها باموق بطريقة أقل تفصيلًا وإمتاعًا في «القلعة البيضاء» التي كانت أول رواية تُترجم له، أعني هنا: استحالة أن يكون المرء نفسه. لكن بتغاضينا عن هذا الجانب الشكلي، سنجد معنى فلسفيًا أكثر عمقًا، يختبئ تحت ظاهر المفاجآت التي يتعرض لها غالب. وباعتراف الكاتب – الذي يُعد من الكُتاب الما بعد حداثيين – فالحبكة عمومًا لا تشغل باله سوى لجذب الانتباه والتسلية، وجعل القراء يستوعبون الأفكار والقضايا التي يريد إيصالها.

فغالب هنا لا يبحث عن زوجته فقط، بل يبحث عن ذاته أيضًا التي فقدها من أجل أن يصير غالبًا الذي يريده الناس، أو الذي يفترض به أن يكون.

منذ زواجهما، لا يستطيع غالب أن يصل لأعماق زوجته بسبب ذلك الفقد الذاتي. ويتساءل طوال الوقت: يا ترى من سيقابل إذا تجول في داخل حديقة أفكار رؤيا؟ زوجها السابق أم زملاؤها في الدراسة الثانوية؟ ينظر إلى مضيق البوسفور وإلى السُفن المارة التي تتسرب منها بُقع مازوت ذات سبعة ألوان. يراقب الجالسين في دكان المهلبية، ويتلصص على محادثات السائحين الأجانب. ولا يصل إلى الإجابة.

لماذا اختفت زوجته رؤيا؟

وفي رحلة بحثه عن ابن عمه جلال، غريب الطباع، يكتشف مقالاته عن المهدي المُنتظر وعن تاريخ الحروفيين[6]، وعن المعاني الخفية التي تحملها أوجه البشر، وعن لصوص بيه أوغلو، وعن شبيهات نجمات السينما التركية العاملات في مواخير إسطنبول.

كتابة أورهان باموق مُذهلة، كلوحة كبيرة معلقة على جدار مُتحف فن؛ مُفصلة وهائلة، كل كلمة بها توحي بشيء آخر. يكتب باموق بريشة رسام مهووس بأسماء شوارع ودكاكين وأزقة مدينته. وتعد روايته هذه طريقته الوحيدة لكي يُبدي إعجابه بالقصص التي يمتلئ بها هذا العالم الكبير، مؤكدًا على أن ليس ثمة ما يدهش كالحياة.. سوى الكتابة بالطبع!.

[1] تَسلَّم أورهان باموق جائزة نوبل للآداب في عام 2006. ويُعد أكثر الكتاب المقروئين بين طلاب الجامعات في تركيا، وحاليًا يُدَرِس لفترة مُحددة كل عام في جامعة كولومبيا الأمريكية.[2] أعادت دار الشروق نشرها عام 2016، بترجمة/ عبد القادر عبد اللي.[3] جائزة أدبية باسم روائي تركي وسيناريست شهير. [4] نُشرت الرواية عام 1990 في تركيا، وترجمها عبد القادر عبد اللي لتصدر عن دار المدى عام 2003، ثم باتفاق خاص مع دار الشروق نُشرت مُجددًا في مصر عام 2016. [5] نشرت بالتركية عام 2016، ولم تتم ترجمتها للعربية بعد.[6] وهي فرقة غنوصية إسماعيلية، أسسها فضل الله استر آبادي في القرن الرابع عشر الميلادي، ونشر كتاباته بعد وفاته الشاعر عماد الدين نسيمي. وتتشابه الحروفية في مواقفها من النص الإلهي المكتوب مع القبالانية اليهودية، في وجود معنى خفي وراء الحروف تنتظر من يفسرها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. Three authors in search of a body; THE BLACK BOOK by Orhan Pamuk trs Guneli Gun, Faber pounds 14.99
  2. The Black Book
  3. ‘The Black Book’ Reviewed by ROBERT HOUSTON
  4. Between two worlds
  5. Nobel Laureate Orhan Pamuk in Conversation with Andreas Huyssen
  6. Orhan Pamuk in the Serbian Academy of Sciences and Arts