المخابرات العامة عالم خفي لا يعمل في النور، ولكن في الظلام، حيث قصص الجواسيس والخونة، وحكايات تستحوذ على العقول، لما تحتويه من تفاصيل غريبة غامضة، نرى فيها القلوب المتحجرة، والنفوس الشاذة.

في كتاب «الصناديق السوداء»، لمؤلفه مجدي كامل، والصادر في أكثر من مائتي صفحة، في طبعته الأولى عن دار الكتاب العربي بالقاهرة، نجد قصصًا مثيرة وعجيبة وخطيرة لأشهر مديري المخابرات في العالم قديمًا وحديثًا.

على رأس هؤلاء هاينريش هيملر النازي القاتل، ماركوس وولف الجاسوس الفولاذي، ويليام كولبي الرجل ذو الألف وجه، آلن دالاس مؤسس «سي آى إيه»، ويليام كيسي مهندس التصفيات الجسدية، جورج يونج وكيف جمع معادلة وضع فيها معًا عبد الناصر والإخوان والأمريكان، وصلاح نصر وحكايته مع عبد الناصر وفضائحه وانتهاكاته البشعة وحكاياته مع ممثلات عصره.

وفي الكتاب أيضًا تفاصيل مثيرة عن حياة عمر سليمان صندوق مصر الراحل، جورج تينيت صندوق بوش الأسود الذي قال في مذكراته إنه ورطه في فبركة أدلة وجود أسلحة دمار شامل بالعراق، عماد مغنية زعيم الجناح الاستخباراتي بحزب الله اللبناني، عبد الله السنوسي صندوق القذافي الأسود، ديفيد بترايوس جالب الفضيحة لإدارة أوباما بسبب قصة خيانة زوجية.

وهناك أيضًا كيم فيلبي رجل المخابرات الذي أذهل العالم، ومائير داغان ذراع الشيطان ومدير الموساد الإسرائيلي، بالإضافة لشخصيات مخابراتية أخرى تتحرك أمامنا على أوراق الكتاب من خلال أحداث حياتها الغامضة والمثيرة.


الذراع النازية

استهل مؤلف الكتاب بالحديث عن أقوى رجل مخابرات ربما عرفه التاريخ – على حد قوله – وهو هاينريش هيملر، الذراع اليمنى للزعيم النازي أدولف هتلر، وكيف أنه لم يكن في حقيقة أمره سوى الصندوق الأسود الذي يحمل بداخله أبشع جرائم هتلر وخطاياه، وأنه بمجرد انضمامه للحزب النازي والقوات الخاصة المعنية بتوفير الحماية الشخصية لهتلر والمعروفة بالـ «إس إس» عام 1925، استطاع تطوير هذه القوات بشكل مذهل، بحيث وصل عددها في عام 1933 إلى 52 ألفًا بعدما كانت لا تتجاوز الـ 280 عنصرًا عام 1929.

كما أنه استطاع إقناع الزعيم النازي بضرورة القضاء على أرنست روم قائد الـ «إس إيه» أو «الكتيبة الضاربة»، نظرًا لما يمثله من خطر على حياة هتلر، ويذكر الكاتب كيف تطورت مناصب هيملر فيما بعد، حيث تم تعيينه رئيسًا للجستابو عام 1934 ثم وزيرًا للداخلية عام 1943، ثم قائدًا لجيش أعالي الراين عام 1944، وهو الجيش الذي نفذ بنجاح عملية الرياح الشمالية أوائل عام 1945 لرد الجيش الأمريكي السابع والجيش الفرنسي الأول في منطقة السادس، ثم قائدًا لجيش فيستولا لإيقاف تقدم السوفييت نحو برلين.

وقد كانت نهاية هيملر هي الموت بعد أن تجرع بنفسه السم هروبًا من ويلات محاكمته على يد الحلفاء.


مجوهرات العائلة

وتحت عنوان «الرجل ذو الألف وجه» تحدث الكتاب عن ويليام كولبي، أحد أبرز مديري المخابرات الأمريكية ممن ارتبط اسمهم بالسجل الأسود للعمليات المخابراتية القذرة، والتي كشفتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية «سي آي أيه» في شهر يونيو من عام 2007 بعدما أماطت اللثام عما أسمته بـ «مجوهرات العائلة» والتي قصد بها رفع ختم السرية عن مجموعة ضخمة من الوثائق والانتهاكات التي مارستها المخابرات الأمريكية خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات.

وكان من أبرز ما كشفته تلك الوثائق ما قام به كولبي عبر برنامج مخابراتي حمل اسم «فينكس» بالإشراف على عمليات قتل لـ 21 ألفًا من قادة «الفيت كونج» السياسيين في فيتنام الجنوبية فيما بين عامي 1967، و1971 من خلال أساليب وحشية، وكيف أن محققي فينكس كانوا يستجوبون المشتبه بهم ثم يلقونهم من الطائرات أو يقطعون أصابعهم وآذانهم ويستخدمون الصدمات الكهربائية ويدقون الخوابير الخشبية في أدمغة بعض المسجونين.


مهندس التصفيات

وفي الفصل المعنون بـ «ويليام كيسي، مهندس التصفيات الجسدية» ذكر الكاتب أن المخابرات الأمريكية في الستينيات وضعت على قوائم القتل 346 زعيمًا وحاكمًا كان من بينهم فيدل كاسترو رئيس كوبا ومعه الرئيس الفيتنامي وييم والأسقف مكاريوس وفرانسوا بابا زعيم هاييتي وروفائيل تروجيليو رئيس الدومانيك وسوكارنو رئيس إندونيسيا وشارل ديجول رئيس فرنسا ثم جون كينيدي الرئيس الأمريكي.

وذكر الكتاب أن جمال عبد الناصر تعرض لعدة محاولات اغتيال فاشلة على أيدي المخابرات الأمريكية، وأن الرئيس الأمريكي رونالد ريجان أشرف بنفسه على إحدى محاولات قتل الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ضمن خطة وضعها ضابط المخابرات روبرت جيتس لاستيلاء جيش أمريكي مصري على ليبيا عام 1986؛ ففي 14 أبريل عام 1986 تم إرسال تسع طائرات موجهة بالليزر ومحملة بـ 30 قنبلة زنة 2000 رطل في اتجاه مجمع القذافي، ولكن نجا القذافي وأصيب اثنان من أبنائه وقتلت شقيقته ومائة من السكان الليبيين.

ومما ذكره الكتاب في هذا الإطار أن إصابة زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله بالإنفلوانزا كانت سببًا في نجاته من عملية اغتيال خطط لها الموساد إبان المؤتمر القومي الإسلامي ببيروت عام 2002.


خاص جدًا

«صندوق أسود من نوع خاص جدًا»، هو عنوان الفصل المخصص في هذا الكتاب للحديث عن مدير المخابرات المصري في عهد حسني مبارك، وهو اللواء عمر سليمان، والذي يذكر الكتاب أنه رئيس المخابرات الوحيد الذي خصص له جورج تينيت مدير وكالة المخابرات الأمريكية الأسبق فصلًا كاملًا من مذكراته الشهيرة.

وينقل الكتاب عن الصحفية الأمريكية جين ماير في كتابها «الجانب المظلم» ما يفيد بأن الإدارة الأمريكية كانت تستخدم عمر سليمان في اصطياد وملاحقة «الإرهابيين الإسلاميين» في جميع أنحاء العالم وجلبهم إلى مصر لانتزاع اعترافاتهم عبر أساليب تعذيب شديدة غير مسموح بها على الأراضي الأمريكية.

كما ينقل الكتاب عن السفير الأمريكي السابق بالقاهرة إدوارد ووكر قوله عن سليمان: «رجل ذكي جدًا وحصيف جدًا ولكن له وجه آخر سلبي يتعامل به مع الشعب المصري، فهو رجل كتوم متمرس في تعذيب السجناء بنفسه».

وقد نقل الكتاب أيضًا تعليقًا لأحد المواقع اليسارية بألمانيا على قيام مبارك بتعيين سليمان نائبًا: «إنه ليس رئيسًا لفرع مخابرات قذر وحسب وإنما جلاد وقاتل».


بوش المخادع

ويسوق مؤلف الكتاب في فصل حمل عنوان «بوش خدع الجميع حتى أنا» ما أثارته انتقادات جورج تينيت المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي أيه» التي وجهها للحكومة الأمريكية والتي اتهم خلالها الإدارة الأمريكية بأنها اتخذت قرار الحرب على العراق دون مناقشة جدية للتهديد الحقيقي الذي يمكن أن يمثله العراق، مؤكدًا أن المسئولين في الحكومة الأمريكية لم يناقشوا أبدًا إمكانية الحد من التهديد الذي يمثله نظام صدام حسين إلا من خلال اجتياح البلاد.

ويشير الكتاب إلى ما ورد في مذكرات تينيت التي حملت عنوان «في قلب العاصفة» من انتقاد حاد ولاذع للموقف الذي تبناه ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي وقتئذ مع بعض رجاله مثل بول وولفويتز ودوغلاس فايت، وقيامهم بتركيز جهودهم وأفكارهم في اتجاه الإطاحة بنظام الحكم في العراق، في الوقت الذي ركز فيه هو ووكالة الاستخبارات على الخطر الذي يمثله تنظيم القاعدة في العراق، الأمر الذي جعل تينيت يرجح أن القرار السياسي بغزو العراق ربما كان مبيتًا حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.