كانت الخليقة ما تزال في بدايتها حين أكل الحسد والغيرة قلب هابيل، فأقدم على قتل أخيه قابيل، في قصة معروفة تتكرر بروايات مختلفة في الكتب السماوية، مذاك والمشهد يتكرر خلال التاريخ البشري وإن بأشكال مختلفة.

في القرن الخامس قبل الميلاد، حكم أثينا من يُطلق عليهم «الطغاة الثلاثين» بعد أن ألغوا الديمقراطية القديمة وأعدموا خصومهم دون رحمة أو تردد. في عام 1095، أطلق البابا أوربانوس الثاني الحملة الصليبية على البلاد الإسلامية، لتكون الأولى ضمن حملات عديدة استمرت قرنين من الزمن، غرق فيها المشرق العربي في الدماء. في ذات الفترة في عام 1258، كانت بغداد قد تحولت إلى رماد على يد المغول الذين امتدت إمبراطورية الرعب والخراب خاصتهم من شرق الصين إلى غرب أوروبا.

من إبادة السكان الأصليين في أمريكا، مرورًا بعقود الطاعون (الموت الأسود) وحروب الثلاثين عامًا التي حولت معظم أوروبا إلى رماد، ووصولاً إلى زلزال لشبونة وحربين عالميتين حرقت فيها البشرية نفسها مرة أخرى في محارق الهولوكوست، حافظ الأسد مُبيدًا مدينة حماه في حرب إبادة استكملها ابنه وعمّمها على عموم البلاد، صدام حسين مُمطرًا شعبه بالكيماوي في مهمة استكملها الأمريكيون من بعده. وما بينهما قبائل الهوتو تقتل مئات الآلاف من التوتسي في رواندا، تنظيم القاعدة يقتل 3000 مدني في نيويورك. وأندرس برايفيغ مُطلِقًا النار عشوائيًا في النرويج، وبرنتون تارانت مُردِيًا 51 مُصلِيًا في مسجد في نيوزيلندا. وليس انتهاءً بفيروس كورونا الذي خلّف حوالي 130 ألف ضحية حتى كتابة هذه السطور.

من ينظر إلى التاريخ البشري لربما قد يخرج بنتيجة واحدة: إنه تاريخ من الشر والعذاب والآلام. ولأجل ذلك كانت قضية الشر تاريخيًا من الأسئلة المركزية في الفلسفة، بل لعل الشر هو الذي دفعنا للتساؤل: لماذا يوجد العالم؟ كما يقول شوبينهاور، فلو كان كل شيء على ما يرام لما خطر على بال أحد هذا السؤال. حتى الأطفال الصغار يطرحون هذا السؤال على آبائهم حين يتعرضون للظلم أحيانًا. هو تساؤل يرافقنا كل العمر إذن.

كما رافق هذا التساؤل البشرية منذ بدايتها بطبيعة الحال. ففي العهد القديم نجد قصة أيوب أمين الله، الرجل الغني المقتدر الشاكر لله، الذي خسر كل شيء بسبب رهان بين الله والشيطان إن كان أيوب سيشكر أم يكفر. هناك نجد في هذه القصة تساؤلاً عن معنى هذا العذاب وهدفه. وكيف يستقيم أن يسمح الله الرحيم كُليّ القدرة وكُليّ العدالة بكل هذا العذاب. وهذا المبحث المسمى العدالة الإلهية (Theodicy) شغل الفلسفة لقرون طويلة.

ولمواجهة هذا الإشكال سلك الفلاسفة عمومًا أحد طريقين: إما تغيير القضية الأساسية وتغيير الفرضية الأساسية بالقول بأن الله ليس كل القدرة أو ليس كُليّ العدالة أو أنه غير موجود من الأساس، أمّا الطريق الثاني فهو إعادة تعريف الشر من جديد كما فعل هيغل وقبله ليبنيز، حيث اعتبرا أن الشر ضروري لدفع حركة التاريخ نحو الأمام التي تسير بالضرورة «نحو الأمام» أي نحو الخير.

ولكن ما الذي يدفع الإنسان ليرتكب الشرور؟ هل الإنسان شرير بطبيعته، أم أنه لا يسعى إلا للخير، أم أنه هذا وذاك.

في حوارية «مينو»، ينقل أفلاطون عن سقراط قوله إن لا أحد يريد السوء، بل لا يستطيع أحد أن يريد ذلك. الشر ينشأ من الجهل وتصورنا الخاطئ عما نريد فعلاً، الفضيلة تكمن في المعرفة الحقيقية، والتي تكون مبنية حصرًا على الخير، أولئك الذين لا يعرفون الشر، لا يسعون إليه، وإنما يفعلون ما يبدو لهم خيرًا، حتى لو كان هذا هو الشر فعلاً.

أما القديس آوغسطينوس فيشير في كتابه «اعترافات» في القرن الرابع عشر وهو يتحدث عن ذنوبه أيام صباه إلى أن الإنسان بشكل واعٍ يقرر أن يعمل الشر على الضد من إرادة الله. كان القديس في شبابه مؤمنًا بالمانوية التي تقسم العالم إلى خير وشر، وضوء وظلام، ولكنه تحول إلى المسيحية ليفهم الشر كغياب الخير، فلا وجود لشر قائم بذاته وإنما هو غياب الخير (Abkehr vom Guten) وإليه ذهب توما الأكويني في القرن الثالث عشر.

بالنسبة لشبينوزا الذي يعرف فقط مادة أساسية كاملة (الله أو الطبيعة)، فإن الخير والشر هي ليست صفات الأشياء وإنما هي مجرد مصطلحات نستخدمها لمقارنة الأشياء بشكل فردي وظرفي مع بعضها البعض (فالشيء ذاته قد يكون جيدًا أو سيئًا في الوقت ذاته، وقد لا يكون أيًا منهما).

يرفض فريدريش شيلينغ مبدأ المحايثة (Immanenz) لدى شبينوزا، أي أن الله والعالم هم واحد، حيث إن باطن هذا المبدأ بحسب شيلينغ هو الحتمية، والتي تلغي بالضرورة أية حرية إنسانية. فالإنسان بالنسبة له يقف على قمة جبل ولديه في داخله الدافع الذاتي نحو الشر أو الخير وله مطلق الحرية.

في عام 1762، نشر روسو روايته «إيميلي» التي انتقد فيها الدين المسيحي، وتعرضت للمنع من البرلمان الفرنسي في تلك الفترة. وفي رسالته لكبير الأساقفة في باريس، دافع روسو عن منهجه، مُعلنًا أن الإنسان في أصله خير، وفقط عندما تتحول غريزة البقاء لديه من خلال الحضارة إلى أنانية، يكتشف الشر.

فالإنسان في طبيعته خير، والشغف الوحيد الذي يُولد معه هو «حب الذات» Selbstliebe، وبحد ذاته يتساوى لدى الإنسان الخير والشر وفقط الظروف هي التي تتحكم في توجه نحو الخير أو الشر، وهكذا فإن كل الشرور التي ينسبها البعض لطبيعة الإنسان هي ليست كذلك. والدافع الحواسي يسعى نحو رفاهية الجسد، في حين أن حب النظام والترتيب يسعى نحو رفاهية الروح، والدافع الأخير عندما يتطور وينمو يصبح اسمه الضمير.

ويميز روسو بين حب الذات بمعناها الإيجابي (Selbstliebe) باعتباره ضروريًا لمشاركة الآخرين الحب وبين معناه السلبي الأناني (Eigenliebe)، حيث تستحيل حاجات الإنسان ورغباته مركزًا لسعيه واهتمامه.

الاستعداد الطبيعي للشر

يصف كانط الإنسان من الطبيعة بأنه «شرير جذريًا» (راديكال) وهو لا يعني بذلك فسادًا أصيلاً في الطبيعة البشرية بقدر ما يعني الحقيقة الراسخة لدى كانط، أنه عميقًا في الطبيعة البشرية، يملك الإنسان هذه الإمكانية والاستعداد للشر. وهذا الشر قد يدمر ويفسد كل المكاسب التي يحرص الإنسان على تحقيقها، ولذلك هو جذري وهو بالضرورة على الضد من المبدأ الأخلاقي. 

وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى تجربة ستانفورد الشهيرة 1971 عن الآثار النفسية لدى السجين والسجّان، وتجربة ملغرام 1963 عن مدى قدرة الإنسان على طاعة أوامر تخالف ضميره وأخلاقه إذا ضمن عدم المحاسبة.

حتى منتصف القرن الثامن عشر كان يتم التمييز بين ثلاثة أنواع من الشر: الشر الغيبي الميتافيزيقي، والشر الطبيعي، والشر الأخلاقي. مع تقدم عصر النهضة انتفى الحديث عن الشر الغيبي فلسفيًا، والقصد هنا أن يتلبس شيطان أو جان إنسانًا ويُسبِّب له المرض، وبقي محصورًا في بعض الدوائر الدينية، وإلى حد ما تُعتبر التيارات الرئيسية اليوم في الفضاء الإسلامي والمسيحي قضية تلبس الجن وأشباهها من الشعوذة والدجل، وإن كانت ما تزال موجودة للأسف. وتذكرني هنا قصة رواها محمد الغزالي في أحد كتبه حين دخل عليه رجل ضخم ليخبره أن جنيًا قد ركبه فكان جواب الشيخ: ولماذا لم تركبه أنت؟

حتى بداية عصر الأنوار كان النظرية المتفائلة للعالم لها الكثير من الأنصار. تأسس مذهب التفاؤل على نظرية (Theodicy)، حيث يقول «غوتفريد فيلهلم لايبنتز» إن كل شيء سيسير إلى الأفضل لأن الله إله محب للخير. وغالًبا ما يتم وضع هذا المفهوم في تعبير: «كل شيء سيسير إلى الأفضل في أفضل العوالم الممكنة» (all is for the best in the best of all possible worlds). وكان رائجًا حتى فلسفيًا الربط بين الشر الطبيعي والذنوب، بمعنى أن الكوارث الطبيعية لا تحدث عشوائيًا وإنما هي عقاب أو تذكير من الله للبشر ليرتعدوا ويكفوا عن ارتكاب المعاصي والذنوب، حتى جاءت مأساة لشبونة.

كانت لشبونة حتى منتصف القرن الثامن عشر إحدى أهم عواصم أوروبا، وفي صباح الأول من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1755 وبينما كان الناس محتشدين في كنائس لشبونة في عيد جميع القديسين، ضرب زلزال قوي مركزه في المحيط الأطلسي المدينة فهدم معظمها، ثم اجتاحت أمواج تسونامي بارتفاع عشرين مترًا المدينة، وما بقي منها اشتعلت فيه نيران استمرت لخمسة أيام كاملة. دمرت الكارثة في خمسة أيام أكثر من 85% من المدينة وقضت على نصف سكانها. كان حجم المأساة أكبر من أي تبرير فلسفي أو ديني، وهو ما حدا بفولتير لكتابة قصيدته الشهيرة التي حملت ذات العنوان «مأساة لشبونة»:

هل ستقولون، عند رؤية هذا الركام من الضحايا:
«إن الله ينتقم، وإن الضحايا إنما يدفعون ثمن خطاياهم؟»
أية خطيئة وأي جرم لهؤلاء الأطفال
الملتصقة أفواههم بالأثداء المسحوقة والدامية لأمهاتهم؟
هل بلشبونة، التي لم يبقَ لها أثر، رذائل أكثر مما يوجد بلندن أو باريس الغارقة في الملذات؟

لشبونة منكوبة، وفي باريس تُقام حفلات الرقص

بعد مأساة لشبونة تراجع الحديث عن الشر الطبيعي، حتى اختفى تمامًا، وبات التركيز الفلسفي منصبًا على الشر الأخلاقي. لقد باتت قضية الأخلاق قضية «أرضية» بهذا المعنى. وبشكل عام تراجع سؤال الشر خلال القرن التاسع عشر، ثم عاد إلى الواجهة مع مصائب الحربين العالميتين وبالأخص بعد الهولوكوست الذي فاق الشر فيه أي مدى معروف. شكّل الهولوكوست تحديًا هائلاً للفلسفة الغربية وبطبيعة الحالة للتفكير الديني كذلك.

لقد جعلت «حنا أرندت» من تغطيتها لمحاكمة المجرم النازي «آيخمان» مناسبة لمناقشة هذا المفهوم، فآيخمان مجرد موظف إداري قد يتحمل مسئولية إجرامية، أصرّ في دفاعه على أنها جزء من واجبه الإداري كموظف لا يفهم غير لغة الإدارة، في حين أن المسئولية السياسية تُلقَى على عاتق نظام سياسي بأكمله شرعنَ هذه الأفعال وجعلها واجبًا.

فالشر المطلق هنا هو في بنية الاستبداد الذي يمثل مسئولية سياسية تقف وراء المسئولية الإجرامية التي يرتكبها الأفراد بوعي أو من دونه، أما أيخمان نفسه فمجرد شخص عادي وسطحي تمامًا وليست لديه إرادة شخصية لارتكاب فعل الشر، الذي مارسه ضمن نظام استبدادي عام يُغيِّب إرادة الإنسان ووعيه بحريته، وهو ما تسميه أرندت بـ «سخافة الشر» (Banalität des Böse) مقابل الفكرة الكانتية عن الشر الجذري.

آيخمان لم يكن بالنسبة لها شريرًا أو وحشًا مدفوعًا برغبات سادية، كان مجرد شخص سطحي ومطيع، فمعسكرات اعتقال النازية بالنسبة لها هي منتجات النظام الاستبدادي، وفي هذا النظام الاستبدادي يمكن أن يتحول أي إنسان طبيعي إلى آيخمان وتقرير مصيره ينفيه بشكل كامل.

وهو ما تؤكد عليه «آين راند» حين تناقش الشر الذي تراه ليس كقوة شيطانية بل أسخف من ذلك، هو مجرد عدم القدرة على التفكير، حين يحذف الإنسان اختيار قدرته على الحكم.

شرير بطبعه!

يرى فرويد أن العدائية أصيلة في النفس البشرية وأن الإنسان بغياب «الثقافة» الضابطة وغياب ما يُلجّمه فإنه سيسعى فورًا لإلحاق الأذى بالآخرين. وفي هذا يتفق فرويد مع توماس هوبز الذي يرى أن الحالة الطبيعية هي حالة الجميع ضد الجميع عندما تغيب الدولة، ذلك الوحش الذي يلتزم له الجميع بالطاعة. 

الدولة عند توماس هوبز هي الثقافة عند فرويد، ولأن عدائية الإنسان تكون على الدوام تحت ضغط الثقافة فإن هذا ينعكس على الثقافة نفسها وتصبح قلقة، وهو ما عناه فرويد في كتابه الشهير «قلق في الحضارة» (das Unbehagen in der Kultur).

بالمحصلة نجد أن الآراء انقسمت بين من يرى الإنسان شريرًا بطبعه، وبين من يراه لا يريد إلا الخير، وبين من يراه قابلاً لهذا وذلك. والحقيقة فإن الآراء الفلسفية في هذا المجال (وفي كل مجال) تتأثر بتجربة صاحبها بطبيعة الحال، فتوماس هوبز على سبيل المثال عاصر الحرب الأهلية البريطانية وأهوالها وخلص لنتيجة أن القانون السائد في الحالة الطبيعية (وهي حالة افتراضية اجتماعيًا تعني ما قبل الدولة) هو أن الجميع ضد الجميع.

ونستطيع القول إن الآراء في العصر الحديث خلصت إلى أن الإنسان ليس شريرًا بالخلقة، ولكنه يصبح ذلك إذا توفرت له الظروف. ولكن بعد الهولوكوست صرنا نعلم أن أكبر الشرور في العالم ارتكبت بحسن نية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.