تنويه: هذا المقال ليس بحثًا تاريخيًا لبيان صحة أحداث الرواية وتفنيدها، أيضًا هو ليس بحثًا دينيًا ولا تخريجًا للأحاديث الموجودة به، لكنه مجرد عرض لرواية أدبية تدفعنا دفعًا للاشتباك مع تراثنا ومحاولة فهمه ومن ثم نقده، وهو اشتباك نحتاجه بشدة هذه الأيام!

بعد مرور أربع سنوات من صدور روايته المثيرة للجدل «مولانا» والتي عادت لتثير الجدل حاليًا نتيجة لتحويلها لفيلم سينمائي، يعود إبراهيم عيسى برواية أخرى ستثير جدلاً وصخبًا أعلى بكثير من «مولانا». ففي روايته الجديدة «رحلة الدم» لا يتحدث إبراهيم عيسى عن داعية معاصر يعتنق أفكار المعتزلة سرًا، والأحداث لا تدور في القاهرة المعاصرة. لكنه يعود بنا إلى البدايات، إلى المدينة المنورة والكوفة ومر ما قبل القاهرة. وأبطال روايته هم أعلام الدين الإسلامي والرجال الذين قام على أكتافهم هذا الدين.

يشتبك إذن إبراهيم عيسى مع أحداث الفتنة الكبرى، أو كما ذُكر على غلاف الكتاب «يتناول المسكوت عنه في تاريخنا الإسلامي». الأحداث التي يخشي الكثيرون الحديث عنها نظرًا لأن أبطالها هم صحابة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، بينما تفتن تلك الأحداث آخرين فتدفعهم دفعًا للتنقيب في كتب التاريخ للوقوف على حقيقة ما حدث.

ينتمي عيسى للفريق الثاني بكل تأكيد، لكنه لا يكتفي بالاحتفاظ بما كشف النقاب عنه لنفسه بل يشرع بلغة جزلة ليسرد لنا حقيقة ما حدث – من وجهة نظره التي استخلصها من كتب التاريخ – في تلك الفترة الشائكة والشائقة ويصحبنا عبر صفحات روايته في رحلة عبر التاريخ لكنها رحلة تحتاج لجرأة وشجاعة فهي تدمي القلوب وتكد النفوس. وتحتاج أيضًا إلى الكثير من البحث في كتب التراث والتاريخ بعد الانتهاء منها للتحقق مما ورد فيها من صورة مغايرة للصورة اليوتوبية عن هذا العصر. رواية ليست للقارئ الكسول الذي يصدق كل ما يقرأه دون تدقيق ولا لهؤلاء الذين سيجتزئون من الرواية فقط ما يوافق أفكارهم المسبقة عن أن ما كان يحرك الأحداث في هذا الزمن البعيد هو الأهواء الشخصية والمطاعم الدنيوية فقط.

ليست أيضًا لهؤلاء الذين يحتفظون في أذهانهم بأفكار ورثوها عن الزمن المثالي وملائكته التي تمشي على الأرض، ولن يغيروا تلك الأفكار أبدًا بل سيشرعوا في سب المخالف لهم وإلقاء التهم الجزافية عليه فقط لأنه تجرأ أن يقدم صورة مغايرة لحقيقة ما حدث. هي «رحلة الدم» رواية عن بشر يصيبون ويخطئون فتتعاطف معاهم. وآخرون يهبون لتقويم الأخطاء فيسفكون الدماء ويرتكبون كوارث.

«رحلة الدم» هي الرواية الأولى من سلسلة روايات تسمى «القتلة الأوائل» يناقش فيها عيسى أحداث الفتنة الكبرى التي ساهمت في تشكيل الدين الإسلامي بشكله وفرقه المعروفة حاليًا – وأيضًا فرقه تلك التي اندثرت – بشكل كبير. الكتاب ليس الأول في الحديث عن تلك الفترة فهي قُتلت بحثًا من الكثيرين بمختلف طوائفهم وكل طائفة تملك رواية خاصة بها للأحداث، لكنه في الأغلب الكتاب الأول الذي يروي ما حدث على هيئة رواية حافلة بالمشاهدة الدرامية والأحداث المتسارعة فيشكل صورة حية لما حدث لا نجدها في الكتب التاريخية الجافة بطبعها.

تناقش الرواية بشكل رئيسي فترة حكم عثمان بن عفان، والأحداث الجسام التي جرت فيها والتي انتهت بمقتل الخليفة الراشد الثالث وكانت بداية عصر الفتنة الكبرى والحروب الأهلية بين المسلمين بعضهم البعض. هذا العصر الذي انتهى بإحكام الأمويين قبضتهم على الحكم وانشقاق المسلمين لفرق متناحرة تتقاتل حتى اليوم!

بالرغم أن هذا الكتاب في النهاية رواية وليس كتاب تاريخ، وهدف هذا المقال هو عرض الرواية وليس تحليلها تاريخيًا، إلا أن الرواية في النهاية تشتبك مع أحداث جسام من تاريخنا ولا يمكن إغفال الحديث عن مدى حقيقة وصحة أحداثها أثناء عرضها – ولو بصورة موجزة – حتى لو لم يكن هذا هدف المقال الأساسي.

في المجمل يقدم الكاتب رواية مقبولة عقليًا ومنطقية لحد كبير لحقيقة ما حدث. لا يتبنى الكاتب الرواية السلفية التي لا تغالط الحاكم أبدًا مهما فعل هذا الحاكم – يدافع البعض إلى الآن عن يزيد بن معاوية الذي تم في عهده وعلى يد أحد ولاته قتل الحسين والتمثيل بجثته! فما بالك لو أن هذا الحاكم هو عثمان بن عفان الخليفة الراشد ذو المناقب والمآثر التي لا يستطيع أن ينكرها أحد الخصوم قبل الأصدقاء، ورغم أن المصادر التي اعتمد عليها الكاتب هي ذات المصادر التي يعتمدها أصحاب الرواية السلفية، ورغم أن الكثير من أحداث الرواية التي ستثير الجدل مثل ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر، واشتراك محمد بن أبي بكر الصديق في حصار بيت عثمان بل إنه كان حاضرًا قبل مقتل عثمان مباشرة* قد أوردها الكثير من متبني الرؤية السلفية نذكر منهم أحد أهمهم وأشهرهم في عصرنا الحديث راغب السرجاني**. لكن دومًا كان إيراد تلك الأحداث يكون بهدف تبريرها ومحاولة تلفيق أسباب في الأغلب لا يتقبلها العقل لسبب وقوع هذه الأحداث، و القول بأن معظم هذه الأحداث كانت بسبب حسن النية الزائد عن الحد من الجميع، ففي تلك الرؤية لا أحد يخطأ والجميع ملائكة. وهذا ما لا يفعله عيسى فهو يؤكد في سطوره ضمنيًا أنه يتكلم عن بشر يخطئون.

أيضًا لا يتحدث عيسى عن شخصية ابن سبأ وهي التي تتكرر بكثرة بين أنصار الرؤية السابقة. وهي شخصية يعزا إليها إشعال الفتنة بين المسلمين. شخصية مختلف على وجودها تاريخيًا، البعض يؤمن بها وبدورها الكبير في إزكاء نيران الفتنة، والبعض الآخر يقول إنها كانت موجودة لكن بالضرورة لم يكن لها كل هذا الدور الكبير ففي النهاية هو فرد واحد لا يمكنه أن يحرك كل هذه الأحداث الجسام ويخطط لكل شيء، وآخرون ينفون وجودها من الأساس.

إذن لا يتبنى عيسى الرواية السابقة لكنه لا يتبنى الرؤية المضادة أيضًا. فعلى طرف النقيض من الرواية السلفية يملك الشيعة روايتهم الخاصة، وهي تلك الرواية التي تلصق الكثير من النقائص بعثمان – وعمر وأبي بكر الصديق من قبله – وتزعم تلك الرواية أن عثمان كان حاكمًا ظالمًا وله الكثير من المثالب، ووصل الأمر لتكفيره عند بعض أنصار هذه الرواية. ورغم أن عيسى يتهم بالتشيع من قبل خصومه الإسلاميين عادة، وبالتأكيد ستستخدم تلك الرواية كدليل إضافي من قبلهم للتأكيد على تشيعه، إلا أنه لا يقر الرواية الشيعية، فكما سيأتي لاحقًا رسم عيسى صورة مميزة لعثمان تدفعك للتعاطف معه والنقمة على قاتليه بل إن الأحداث التي رواها أقرب بكثير للرواية السنية.

إذن سرد عيسى رواية يمكننا أن نصفها بالوسطية بين الروايات المختلفة التي نملك حاليًا عن هذه الأحداث الدامية، رواية تذكر أخطاء الخليفة الثالث واختلاف بعض الصحابة مع سياساته لكنها لا تغفل فضائله، تسرد أسبابًا حقيقية للثورة عليه، لكنها تتضمن أيضًا ذكر أن الكثير من أصحاب الأهواء والطامعين في الحكم والذين طمس الله على قلوبهم قد شاركوا في تلك الثورة على الخليفة وقتلوه وهو يقرأ قرآنه وفتحوا أبواب الفتن على الناس، فلم تصبح ثورة من أجل تقويم عثمان، بل سفكوا دماء بغير حق وقتلوا أحد أصحاب الرسول، وفيما بعد سيقتلون خليفته عليًا أيضًا.

رواية ستثير حنق الكثير من أصحاب الرؤى الأخرى فهو يتحدث عن خلافات بين الصحابة وأخطاء لبعضهم وعدم رضاهم عن سياسات الحكم بل ومشاركة بعضهم في الفتنة ومحاصرة دار عثمان، لكنه أيضًا يذكر أنهم تبرءوا من قتله، فعلي يتبرأ من المحاصرين له والسيدة عائشة تخرج للحج في مكة قبل مقتله، وأبناء الصحابة يقفون على بابه ليدافعوا عنه.

لا ينجرف عيسى في النيل من عثمان، لكنه يظهره في صورة الحاكم الذي كان يبغي العدل حقًا، لكن بطانة حكمه خذلته وأشعلت نيران المعارضة له، ويبين عيسى أن أخطاء سياسات عثمان كانت ناتجة عن ثقته فمن لا يستحق الثقة ونتيجة لعدم خبرته السياسية فهو ليس عمر الحازم الصارم، ولا أبا بكر الذي أنقذ الدولة الوليدة في حروب الردة.

بنى الكاتب روايته تلك اعتمادًا على العديد من كتب التاريخ يذكرها في بداية كتابه وهم خمسة عشر كتابًا، أحد عشر كتابًا منهم ينتمون للعصور التاريخية السابقة وللمؤرخين الأوائل في تاريخنا الإسلامي مثل: كتاب «البداية والنهاية» لابن كثير و«تاريخ الرسل والملوك» للطبري. بينما الأربعة كتب الباقية تنتمي للعصر الحديث وتحمل أسماء مؤلفين معاصرين مثل كتاب «تاريخ القرآن» لعبد الصبور شاهين. إذن اعتمد عيسى على المؤلفات التراثية بشكل أساسي لكتابة روايته. مؤلفي تلك الكتب التراثية الأحد عشر جميعهم يعتبرهم أهل السنة والجماعة علماء أفاضل وكتبهم من أهم مصادر التأريخ للتاريخ الإسلامي، ولكن ليست كل الأحداث الواردة في تلك الكتب مثبتة، فمثلاً الطبري اهتم في كتابه بتجميع كل الأخبار التي وردت له دون أن يحاول أن يثبتها أو ينفيها. يقدم إذن الكاتب في بداية روايته الأدوات التي يمكن أن يستخدمها من يريد التدقيق في صحة الرواية كأنه يحفز القارئ على تتبع حقيقة ما سرده.

استخدم عيسى حيلة جيدة لإيراد الروايات الضعيفة عن تلك الفترة، فمثلاً المقولة التي تنسب للسيدة عائشة «اقتلوا نعثلا فقد كفر»، وهي الرواية التي ينفيها الكثيرون، يذكرها عيسى في روايته على هيئة خدعة من أحد الخارجين على عثمان في مصر، والذي يزعم أن عائشة ترسل الرسائل تحرضهم على الخروج على عثمان، لكن في صفحات لاحقة من الرواية تنفي السيدة عائشة أنها تفوهت بهذه المقولة رغم غضبها على سياسات عثمان.

يكفي هذا للحديث عن الرواية تاريخيًا، فكما قلنا هدف هذه السطور هو عرض الرواية أدبيًا وهو ما سنقوم به في المقال القادم.


*المشهد الذي أورده إبراهيم عيسى لحضور مُحمد بن أبي بكر للحظات ما قبل مقتل عثمان مباشرة ذكره راغب السرجاني بذات التفاصيل تقريبًا في كتابته عن الفتنة الكبرى** للسرجاني العديد من الكتابات والفيديوهات المصورة عن الفتنة الكبرى، في الرابط التالي نسخة من أحد كتابته التي أورد فيها تلك الروايات على موقع جودريدز: https://www.goodreads.com/book/show/14065402

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.