محتوى مترجم
المصدر
Aeon
التاريخ
2018/08/13
الكاتب
دينسا ساكان

مقدمة المترجم

لربما يكون الحزن فعلًا مدادًا لبعضٍ من أصدق ما فاضت به قلوب الشعراء والأدباء. ولكن، وكما كانت الحياة أسمى من الفكر، كان الحزن شيئًا متأصّلًا في النفس البشرية، وليس مجرد حالةٍ ثقافيةٍ أو قُرمزيةٍ جوفاء، ولا هو شيءٌ لا يتعدى صدقه أن يكون ليلى لأبيات قصيدة أو عروسًا لسطور رواية.

الحزن، كغيره من المعاني، خضع لثنائية المادة والروح، فانطوى الحزن على معانٍ فلسفيةٍ، بل ودينيةٍ، تباينت باختلاف الثقافات والحضارات، كما أنه أيضًا كان موضوع دراسة الكثير من البحوث العلمية التي حاولت تفهّم الحزن وأثره على الإنسان عصبيًا ونفسيًا ودوره في صحة الإنسان وسلامة سويته، إذ أنه، بكل تأكيد، عنصرٌ جوهريٌّ لا يتجزّأ من تفاصيل النفس البشرية العصبية والسيكولوجية.

انعكس ذلك أيضًا على الأدب، فكان الحزن محورًا وثيمةً لعددٍ من الروايات والكتب التي حاولت تلقف النفس البشرية ومجاهدتها لتقلبات الدهر وخيبات الوجود، منها، على سبيل المثال، «زمن الخيول البيضاء» (2007) لإبراهيم نصر الله، و«ماجدولين» للمنفلوطي التي تُعد إعادة تخيلٍ لرواية «تحت ظلال الزيزفون» (1869) لألفونس كار، وهناك أيضًا «في بلاد الأشياء الأخيرة – In the Country of Last Things»، لبول أوستر (1987)، و«الكائن الذي لا تحتمل خفته – The Unbearable Lightness of Being»، لميلان كونديرا (1984). وهذا طبعًا ليس سوى نبذة زهيدة جدًا عن نتاج الأدب الغزير، العربي منه والعالمي، الذي حاول إبراز عاطفة الحزن، فضلًا طبعًا عن العديد من الدواوين والقصائد وغيرها من صور الأدب والفن.

كان الحزن أيضًا جدليةً بارزة تستحق التفكير في ظل الحياة الحديثة، فربما يتوهّم المرء بأن ما أنعم به علينا العصر الحديث من ابتكاراتٍ وأمورٍ سهلت العديد من جوانب الحياة اليومية سيقتضي بالضرورة سعادةً أكثر وكربًا أقل، ولكن تفاصيل الإنسان والوجود أكثر تعقيدًا من هذا بقليل كما يتبدّى لنا، ليكون الحزن الحديث هو موضوعًا استقطب الكثير من اهتمام العلماء والفلاسفة على حدٍّ سواء.

بكل الأحوال، يبقى الحزن جزءًا منا ومن حياتنا، شئنا ذلك أم أبينا، ولكن لربما علينا أن نحاول النظر قليلًا بصورةٍ أقل آنية، علنا نستطيع أن نفهم الدور الذي يلعبه الحزن في حياةٍ متوازنةٍ وسوية. فتحاول ساكان، كاتبة المقالة، أن تبرز هذه الفكرة، متنقلةً بين بعض المعاني الفلسفية للحزن وبين بعض الدراسات العلمية التي توصلت إلى بعض النتائج المثيرة للاهتمام، وكيف يمكن أن تتحول توقعات المجتمع منا بأن نكون سعداء وإيجابيين دائمًا إلى مصدر أرقٍ يقتل فينا السعادة والإيجابية بطريقةٍ أقرب إلى السخرية السوداء ربما. فهل حقًا يمكن أن يكون الحزن طريقًا للسعادة الحقيقية؟


نص المقال

هناك حساب تويتر نال حظًّا واسعًا من الشعبية اسمه «So Sad Today»، أو «يومٌ مليءٌ بالحزن». صاحبة هذا الحساب هي الكاتبة الأمريكية ميليسا برودر، ومضمون الحساب، الذي بدأ عام 2012، باختصار، هو أن الكاتبة تقوم بنشر خيطٍ من مكنونات حياتها الداخلية اليومية.

فتبثّ برودر في هذا الحساب صورًا رتيبة عن بؤس الدنيا – «الاستيقاظ اليوم كان خيبة أمل»، أو «ما تسميّه أنت انهيارًا عصبيًا أسميه أنا: أوبس، رأيت الأشياء مرةً أخرى على حقيقتها عن دون قصد». فهي ببساطة صريحةٌ صراحةً موجعةً في حديثها عن إخفاقاتها («أوبس، آذيت نفسي وأنا أحاول التمثّل لمعايير الجمال التي يرضاها المجتمع، ولو أنني أدرك زيفها، ولكنني مع ذلك أشعر بأن علي التكيف معها»، أو «شعرت بخفقةٍ من احترام الذات، وحدّثتني نفسي بالتالي: يا للهول، ما كان ذلك»). وحظي الحساب بشهرةٍ كبيرةٍ على موقع تويتر، وتجاوز عدد متابعيه 675 ألف متابع لتبني الكاتبة على نجاح هذا الحساب وتؤلّف كتابها «So Sad Today» عام 2016، والذي يتمحور أيضًا حول صراعاتها مع مشاكل الصحة النفسية.

إنه لمن العجيب وجود صدىً بهذا الحجم المهول لما تقوم به برودر من هذا التعبير الفجّ غير المتحفّظ عن الحزن، وغيره من المشاعر البغيضة، في عالمٍ تحولت فيه الصفحات الشخصية للناس على الشبكات الاجتماعية إلى صورٍ ورديةٍ ناصعةٍ تغصّ بالسعادة والبهجة.

ولكن معدلات الاكتئاب المتزايدة على مستوى العالم تبيّن لنا بأننا لا نزال غير قادرين على إيجاد طريقنا للسعادة بسهولة، فأين كان الخطأ إذن؟ يجب أن تدفعنا شعبية حسابٍ مثل حساب بردور إلى أن ننظر بضوءٍ جديد إلى الكآبة وبنات عمها. فربما يجب أن ننضوي تحت لواء بيت الرومانتيكيين الذي تلمسّوا أنس أنفسهم في التعبير بانفتاح عن الأحاسيس في الشعر. ففي قصيدته «Ode on Melancholy – أوديسةٌ عن الحزن» (1820)، يقول جون كيتس، أحد أبرز أبناء الجيل الثاني من شعراء الرومانتيكية: «وفي معبد السرور، كان للكآبة المتستّرة أن تنصب أعمدة ضريحها». فالألم والبهجة هما وجهان لعملةٍ واحدة – كلاهما ضروريان لحياةٍ نعيش ملئها.

لعل كيتس استأنس في كلماته هذه بروبيرت بورتون، وهو قسٌّ وعالمٌ من القرن السابع عشر والذي وصف في كتابه المليء «The Anatomy of Melancholy – تشريح الكآبة» (1621)، كيف يمكن أن يفيض كأس الحزن بأكثر مما نستطيع أن نستوعب (ما بتنا نطلق عليه اليوم الاكتئاب الكلينيكي)، وكيف نستطيع أن نتكيّف معها. وربما ما كان حاضرًا في ذهن كيتس هو كتب التنمية الذاتية العديدة التي زخر بها القرن السادس عشر، والتي «تحاول استثارة الحزن في قرائها بصفّ قوائم تحتوي على أسباب تدفع على الإحباط»بحسب تيفاني وات سميث، الباحثة في مركز تاريخ العواطف في جامعة كوين ماري في لندن. فهل يمكن أن يكون الحزن هو سبيل الوصال إلى السعادة الحقيقية؟

تبيّن الأبحاث الأخيرة بأن شعور المرء بأحاسيس يمكن وصفها بأنها تجانب السعادة تعزّز في الواقع سلامة السوية السيكولوجية. فنشرت مجلة «Emotion» في عام 2016 دراسةً ألمانية تركّزت حول 365 مشتركًا بين عمري 14 و 88 عامًا. وأُعطيَ المشاركون في هذه الدراسة، التي امتدت لثلاثة أسابيع، هواتف ذكية وطُلب منهم حلّ ستة اختباراتٍ سريعةٍ يوميًا حول صحتهم العاطفية. وكان الباحثون يقومون برصد مزاج المشتركين، سواءً أكانوا في مزاجٍ سعيدٍ أو حزين، ومفهومهم عن صحتهم الجسدية في لحظاتٍ عشوائية.

وتمّ إجراء مقابلاتٍ مع المشتركين قبل فترة الثلاثة أسابيع حول صحتهم العاطفية (مدى شعورهم بالانزعاج أو القلق، ومفهومهم عن المزاج السلبي). وبعد انتهاء اختبارات الهواتف الذكية، تمّ سؤال المشتركين عن مدى رضاهم عن حياتهم.

ووجد الفريق بأن الرابط بين الحالة النفسية السلبية والصحة العاطفية السيئة كان أضعف لدى الأفراد الذين اعتبروا المزاج السلبي أمرًا مفيدًا. وكان، بالفعل، هناك رابطٌ بين مستوى الرضا الحياتي المنخفض والمزاج السلبي فقط لدى الناس الذين لا يرون بأن المشاعر العسيرة مفيدةٌ أو لطيفة.

وتتسق هذه النتائج مع التجربة الشخصية للأطباء، فتقول صوفي لازاروس، عالمة النفس التي تعمل في مركز ويكسنر الطبي التابع لجامعة أوهايو ستيت:

لا يكون سبب المشكلة غالبًا هو الصدمة الأولى على أثر المشكلة أو الموقف (العاطفة الرئيسية)، وإنما ردة فعلهم على هذه الصدمة (العاطفة الثانوية) التي تكون في العادة عسيرةً أكثر. وهذا لأننا نستقبل بصورةٍ مستمرةٍ رسائل بأنه لا يجب علينا أن نشعر بأحاسيس سلبية، ولهذا تكيّف الناس على أن يحاولوا تغيير أنفسهم للتخلص من عواطفهم، وهو ما يقود إلى الكبت، أوالاجترار [أي التفكير بصورةٍ مستمرةٍ بفكرةٍ أو سلسلةٍ من الأفكار التي تكون عادةً سلبيةً أو قاتمة] أو التحاشي.

ويرى بروك باستيان، مؤلّف كتاب «The Other Side of Happiness: Embracing a More earless Approach to Living»، وعالم نفسٍ في جامعة ميلبورن في أستراليا، بأن المشكلة، في جزءٍ منها، هي مشكلةٌ ثقافية، فاحتمال أن يعصف الاكتئاب الإكلينيكي بشخصٍ يعيش في بلدٍ غربي أكثر بـ 4-10 مرات من احتمال حدوث ذات الشيء لإنسانٍ يعيش في ثقافةٍ شرقية. فتُعد كلٌّ من العواطف السلبية والإيجابية جزءًا ضروريًا من الحياة في الصين واليابان. إذ إن الحزن ليس عائقًا في وجه التنعم بمشاعر إيجابية وليس هناك ضغطٌ دائمٌ يحثّ الإنسان على الشعور بالبهجة على النقيض من المجتمعات الغربية.

ويمكن إيجاد جذورٍ لهذه الأفكار في فلسفات الدين التربوية، فالفلسفة البوذية التبتية-الهندية، التي تعمَّق علماء نفسٍ غربيون في دراستها مثل بول إيكمان، تنادي بعدم تجاهل العواطف والأخذ بقوةٍ بالألم على أساس أنه جزءٌ من حال الإنسان. فتركّز هذه الفلسفة على فهم طبيعة الألم والأسباب التي تؤدي إليه. وبات هناك الكثير من الممارسات السيكولوجية الحديثة التي توظف هذا الأسلوب بتمييز العواطف وتسميتها في علاج الاكتئاب والقلق، كان منها العلاج السلوكي الجدلي، أو «Dialectical Behavior Therapy».

أجرى باستيان وزملاؤه دراسةً نُشِرت عام 2017، وقامت هذه الدراسة على تجربتين وُضعِتا لدراسة تأثير التوقعات المجتمعية المفروضة على الناس للسعي وراء السعادة، وخصوصًا عند مقاساة الفشل. ففي الدراسة الأولى، قُسّم 116 طالبًا جامعيًا إلى ثلاث مجموعات، وطُلِب من كل مجموعةٍ حلّ أسئلةٍ لغوية تقوم على إعادة ترتيب الأحرف للحصول على كلمةٍ ذات معنى. إلا أن معظم الأسئلة كان حلّها أمرًا مستحيلًا، وكان الهدف من الاختبار أن يفشل الجميع، ولكن لم يخبر مديرو الدراسة إلا مجموعةً واحدةً، من بين المجموعات الثلاث، بذلك. ووُضِعَت مجموعةٌ أخرى في غرفةٍ سعيدة زُيّنت جدرانها بملصقاتٍ تحمل رسائل إيجابية لشحذ الهمم وأوراق ملاحظاتٍ بألوانٍ جميلةٍ براقة، كما أعطيت هذه المجموعة بعض المنشورات الصحية. أما المجموعة الثالثة، فوُضِعَت في غرفةٍ حيادية.

بعد إنهاء المهمة، تمّ إخضاع المشتركين لاختبارٍ يقيس مستوى القلق لتقدير ردة فعلهم على الإخفاق في مهمة ترتيب الكلمات، ومن ثم كان عليهم ملء استبيانٍ بغية تحديد أثر التوقعات الاجتماعية للشعور بالسعادة على كيفية معالجهم للعواطف السلبية. وخضع المشتركون أيضًا لاختبارٍ آخر تمحور حول حالتهم العاطفية في ذاك الوقت. ووجد باستيان وفريقه بأن المشتركين الذين كانوا في الغرفة السعيدة ألمّ بهم قلقٌ أكثر بكثير من المشتركين الذين كانوا في الغرفة الثانية والثالثة. ويخبرني باستيان تعليقًا على نتائج دراسته:

الفكرة هي أن الناس يشعرون بضغطٍ ما بالشعور بالفرح عندما يجدون أنفسهم في سياقٍ (كان الغرفة في هذه الحالة، ولكن المقصود بصفةٍ عامةٍ هو سياقٌ ثقافي) تكون فيه السعادة أمرًا مثمّنًا. ومن ثم يقاسي الناس الفشل، وعندها يجترّون أنفسهم إلى التفكير باستمرار لماذا تستعصي عليهم هذه المشاعر التي يجب عليهم الشعور بها.
وتسوء حالتهم الذهنية بفعل هذا الاجترار كما اكتشف الباحثون.

وفي التجربة الثانية، طُلِبَ من 202 مشتركًا الإجابة على استبيانين على الإنترنت. كانت أسئلة الاستبيان الأول حول مدى شدة مشاعر الحزن، والقلق، والاكتئاب، والإجهاد وتكررها. وأجاب المشتركون في الاستبيان الثاني على أسئلةٍ كانت الغاية منها قياس مدى تأثير التوقعات الاجتماعية بالسعي وراء المشاعر الإيجابية وكبح المشاعر السلبية على حالتهم العاطفية، بحيث اشتمل الاستبيان على أسئلةٍ يُطلب فيها من المشتركين تقييم جملٍ مثل: «أعتقد بأن المجتمع يتقبّل الناس الذين يشعرون بالاكتئاب والقلق». وتبيّن، من خلال الدراسة، بأن الناس الذين يظنون بأن المجتمع يتوقع منهم بأن يكونوا دائمًا بروحٍ فرحة خاليةٍ من أي حزن هم من تعصف بهم حالاتٌ عاطفيةٌ سلبية تتمثّل في الإجهاد، والقلق، والاكتئاب، والحزن وذلك بصورةٍ أكبر.

لا تترك فينا أوقات الألم آثارًا سلبيةً فقط، فهي تحمل أيضًا فوائد تجعلنا أكثر سعادةً على المدى الطويل. فالأوقات العصيبة هي التي تدفعنا إلى الالتفات إلى الآخر ومحاولة فتح قلوبنا له، كما يشير باستيان، الذي يضيف أيضًا بأن الشدائد تجعلنا أناسًا أكثر قوة كما أخبرني:

إذا ما عدنا إلى علم النفس، فإنك لن تستطيع أن تصبح قويًا إن لم تُجبر على مواجهة أمورٍ صعبةٍ في درب حياتك.

ولكنه لم ينسَ أيضًا بأن ينبهّني بأن علينا أن لا نسيء فهم نتائج هذه الأبحاث:

ليس المقصد من كل ذلك هو أن علينا أن نحاول أن نغرق أنفسنا في حفر الحزن. بل المقصد هو أنك لن تكون في الواقع سعيدًا جدًا عندما تحاول أن تتحاشى الحزن، وتراه مشكلةً، وتبذل الغالي والرخيص لكساء نفسك بسعادةٍ لا تنتهي، وبذلك، لا يكون لك أن تنعم بفوائد السعادة الحقيقية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.