انبعثت الفتاة التي ألقت نفسها من الشرفة، يوم وفاة عبد الحليم حافظ، في ذهن الأستاذة «لبنى» موجّهة المكتبات، في صباح يوم من أيام إبريل/نيسان. كانت في مهمة رسمية، لفحص مكتبة مدرسة الجهاد الإسلامي لتنقيتها من كتب الإخوان.

دخلت الأستاذة لبنى في الصباح إلى المكتبة، وهي تشعر بالضيق، من حر جاء قبل الأوان. سمعت الأستاذ «هيثم»، الموجّه المنتدب، يتحدث مع أمينة المكتبة عن أن الشباب ينتحرون هذه الأيام. جلست على منضدة وطلبت يومية المكتبة، وواصلت الإنصات إلى حديثٍ هامس، حول لعبة على الإنترنت، اسمها «الحوت الأزرق».

توقفت عن العمل وانتبهت إلى تأكيد هيثم أنها حرام، لأنها تدفع المراهقين إلى الانتحار، لكنها لم توافق على توسيع الموضوع، حتى يصل إلى أن الغرب يفتنون شبابنا ويهزؤون بنا، وتابعته يخرج الموبايل ويبحث عن «الحوت الأزرق» ويقرأ كلام أحد المراهقين انتحر صديقه.

قال الأستاذ هيثم إن خطورة الأمر أنها لعبة تحدي، تناسب سن المراهقة. تستفز في الصبي رغبته في البطولة، وتدفعه إلى مراحل متقدمة منها، وتُخيِّره في النهاية بين قتل عائلته أو الانتحار. وأكد مرة ثانية بانفعال، عندما لاحظ الأستاذة قد تركت العمل وتابعت حديثه، أنها لعبة تشبه الانضمام إلى الجماعات السرية، ليس من السهل الخروج منها إن دخلها المرء، واستشهد بانتحار ابن برلماني سابق من المحلة الكبرى.

كانت الأستاذة لبنى قد تابعت في التليفزيون، قبل فترة، أخبارًا ومقابلات عن انتحار ذلك الشاب، وكان من الصعب عليها تحمل الأمر، وضعت نفسها مكان الأم، وهي تدخل البيت، وتجد باب غرفة ابنها مُغلقًا، فتستدعي البوّاب، وعندما يدخلون من الشرفة، تجد جسد ابنها ذي الثمانية عشر عاما، مُعلقًا في السقف بسلك كهرباء.

الحر يثير أعصاب الأستاذة، وكلام هيثم استفزها، فدخلت في نقاش معه عن المرض النفسي. كان من الصعب عليها أن توافق على حديثه، المليء بالخرافات، حتى لو كان مُسجلًا على الفيسبوك، ربما لأنه وقع في منطقة معارفها ودراستها.

في تلك اللحظة، انبعثت القاهرة في خيال الأستاذة لبنى؛ شوارع مصر الجديدة حيث عاشت طفولتها، وساحات جامعة عين شمس المُشمسة في صباحات الشتاء، وجاءت معلومات دراستها لعلم النفس من مخابئها الدفينة، تحت ركام حياة عادية، محت تفاصيل السنوات المنيرة في مطلع شبابها في بداية الثمانينيات، عندما كانت طالبة في قسم علم النفس.

جاءت تلك الصور مُتخطية سنوات الزواج الأولى من أحد أقاربها وهجرها لبيتها في مصر الجديدة وعيشها في طنطا من منتصف الثمانينيات. لمعت الإشراقة وحضرت معلومات أولية في علم النفس حول التفريق بين الذهان والعصاب، موضحة أن الاسم الشعبي للمرضين هو المرض العقلي والمرض النفسي، وعارضت رأي هيثم حول مراحل المراهقة الثلاثة، وانفعلت انفعالًا شديدًا وهي تصف –محاولته لإثبات أن الغرب يغوي أولادنا- باللغو.

نقطة انطلاق مناقشة الأستاذة لبنى هي أن المرض النفسي كامن فينا جميعًا بدرجات، وأن وسائل الدفاع هي وسائل للتكيف مع المجتمع، وأن الناس ليسوا جميعًا عُرضة للانتحار، فهناك من لا يُميِّز بين الواقع والخيال ومنهم من يُميِّز، وسألت السؤال المحوري الذي حاول هيثم التملص منه:

لمَ انتحر هذا الصبي ولم ينتحر رفيقه الذي حكى الحكاية؟

لأنه تكوينة مختلفة لا تميل إلى الاستهواء، ولو لعب تلك اللعبة عشرة من الناس لما انتحر أحد، أو ربما واحد يميل إلى الاستهواء ويعيش الوهم على أنه حقيقة، لا يمكنه التمييز بين الواقع والخيال. حياتنا تقوم على التفريق بين الواقع والخيال. لا يمكنك أن تشاهد مسلسلًا وتتعامل معه على أنه واقع. هذا خلط ويؤدي إلى المرض النفسي.

في أثناء النقاش حضرت الفتاة التي انتحرت يوم موت عبد الحليم مثالًا لشخص يعيش في حلم مثله مثل أي مريض نفسي، يقاوم العيش في الواقع، مُفضلًا عليه أن يعيش حلمه. بدأت عيناها تبرق وهي تتذكر تلك الفتاة المغرمة بالمطرب الكبير.

قالت الأستاذة لبنى إن هذه البنت، كانت تسكن في الشقة العلوية من نفس العمارة، وعندما يتصادف أن تقابلها على السلم تشعر بشيء مختلف في طريقتها في اللبس. تتذكر جونيلة قصيرة بيضاء فيها خطوط حمراء وسوداء. تشعر برهبة عندما تقابلها على السلم، وفي الوقت نفسه تتمنى أن تراها.

كانت في الصف الثاني الثانوي، كلما نزلت السلم تنصت إلى الأصوات علّها تسمع نقر كعب حذائها العالي، وعندما تتيّقن من أن الصمت خال من طيفها، تتشمّم الفضاء علّها تكون قد طلعت السلم أو نزلت في وقت قريب، فهي تترك أثرها على السلم بعد مرورها، وأحيانًا تعود من المدرسة وتعرف من رائحة السلم، أنها نزلت منذ وقت قريب.

وعندما لا تقابلها لعدة أيام، تشعر بالقلق، تخشى أن تسأل عنها، خائفة أن تكون قد رحلت عن البيت، وعندما تلتقيان على السلم يتبادلان التحية، تكون مستغرقة كأنها لا تراها، لم يحدث أن انتبهت إليها وهي نازلة. شفتاها مزمومتان كأنها تنصت إلى صوت داخلي، ورائحة عطرها متوهجة.

لم تصبها الصدمة مثل بقية سكان العمارة عندما انتحرت الفتاة يوم موت عبد الحليم، أدركت معنى ذلك الموت وهي صبية صغيرة، فالمرء لا يمكن أن يمسك السحاب ويظل حيًا على الأرض، ربما لهذا السبب عاشت على الأرض.

صمتت الأستاذة لبنى، واستغرقت في عملها، تفحص يومية المكتبة، وسمعت هيثم لا يزال يتحدث بهمس مع أمينة المكتبة التي سألته:

لماذا أسموا اللعبة الحوت الأزرق؟

فقال لأن الحوت الأزرق عندما تزداد الضغوط عليه يسحب نفسه بعيدًا ويموت وحيدًا على الشاطئ.

استمرت الأستاذة في فحص اليومية متأثرة جدًا بحضور فتاة مصر الجديدة، تقاوم حزنها بأفكارها القديمة حول عيش الحياة بطريقة صحيحة. على المرء أن يقاوم الأوهام، ويعيش حياة طبيعية، ينجب ويكون له أحفاد مثلها، تحكي عنهم لزملائها، تريد أن تُعلمِّهم كتابة القصص أو الأغاني، لأن الأحلام الكبرى يجب أن تتحول إلى فعل، حتى لا تدمر المرء وتدفعه إلى الشرفات ليموت لأسباب غامضة.

إلا أن صورة الفتاة تنزل السلم في يوم شتوي، شاردة، لم ترد تحيتها، ظلت عالقة بذهنها. وفي لحظة خاطفة، شمت رائحة عطر الياسمين، كأنها تتضوع الآن في مكتبة مدرسة الجهاد الإسلامي، فلم تتمالك نفسها.

حملت المناديل وتوجهت إلى الحمام، تفكر في أنها انقطعت عن زيارة القاهرة منذ فترة طويلة، كانت تلك الزيارات مثل الأوكسجين، تُخفِّف عنها عبء العيش في طنطا، لكنها توقفت عندما تحوّل بيت الأسرة إلى شقة لزواج أخيها، وفي محاولتها لوصل نفسها بالقاهرة استبدلت بيتها ببيت خالتها في المنيل، لكنه لم يكن له نفس وقع انشراح الصدر.

رجعت إلى طنطا مرغمة محبطة تشعر بأنها فقدت كل شيء؛ كانت على مشارف أزمة منتصف العمر. أغلقت على نفسها باب الحمام وهي تشعر بأن الموت قريب منها جدًا، حتى أن رائحته تظل عالقة بالسلالم وتُطارِد المرء إلى نهاية عمره.

غسلت وجهها، لكنها لم تتمكن من حبس دموعها، واستطاعت أن تُميِّز بينها وبين بلل الوجه الناتج من غسله.

(انتهى)