لم تكن قضايا الجسد تحتل هذه المركزية الكبيرة في الدراسات الاجتماعية، حيث شهدت الآونة الأخيرة بروز عديد من القضايا المرتبطة بالجسد بوصفه دالاً على الذات ومُعبراً عن الهوية، التي تُرجمت في ما بعد إلى حركاتٍ احتجاجية شهدت نمواً متسارعاً على نحوٍ غير مسبوق، فلم يعد يمر علينا يوم إلا وتحاصرنا وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بمزيد من القضايا المرتبطة بالحركات النسوية أو المثلية والمتحولين جنسياً، وخصصت بعض الحكومات Pride Month، شهراً للفخر (كما يُطلقون عليه)، تُرفع فيه أعلام المثليين والمتحولين جنسياً.

يحاول هذا المقال رصد التحولات الفكرية داخل المجتمعات الغربية، التي عزّزت من بروز دور الجسد، بالتوافق مع النزعة الفردية في مجتمعات ما بعد الحداثة، والتي جعلت من الجسد مشروعاً لبناء الهوية وفقاً لتصورات صاحبه، وبمنأى تام عن أي قيم دينية أو أخلاقية.

مرحلة ما بعد النموذج

كانت الثقافة تعنى سابقاً بناء الجماعة المتخيلة عبر التعليم المدني الموحد، وارتبطت فكرة التثقيف بالإيمان بالقدرة على تغيير كل شيء، والاعتقاد أن نموذج الكمال تم اكتشافه في أوروبا. وحمل هذا النموذج الرسالة الحضارية إلى العالم عبر ثقافة مادية خالصة تؤمن بسلطان العقل على عناصر الطبيعة الجامحة، فكانت الثقافة في حد ذاتها أداة للتطوير في المجتمعات الغربية. وبمرور الوقت تحولت الثقافة إلى أداة لحفظ التوازن داخل المجتمع وخدمة الأمر الواقع، إلا أن العالم الحديث أصبح يستند على التغيير الدائم، الذي يتطلب اكتساب القدرة على تغيير الهوية، وخلق حاجات جديدة، وهو ما منع الشعور بالرضا إلا عبر مزيد من النزوات التي لم تُحقَّق بعد.

يقول الكاتب البولندي «سلافومير مروجيك» في الأزمنة القديمة عندما كنا نشعر بالتعاسة، كنّا نلوم الله الذي كان آنذاك مدير العالم، كنّا نفترض أنه لا يدير العمل إدارة سليمة، فطردناه من العمل، وعيّنا أنفسنا مديرين جُدداً. لكن مروجيك المناهض للكهنوت رأى أن العمل لم يتحسّن، فعندما تمركزت أحلامنا وآمالنا في حياة أفضل، تمركزاً كاملاً حول الأنا، وتم اخنتزالها في اللعب بأجسادنا وأرواحنا، لم يكن هناك من حدود لطموحاتنا بتضخم تلك الأنا. لقد قيل لي استحدث نفسك، استحدث حياتك، وتصرف كما يحلو لك في كل لحظة من أولها إلى آخرها، ولكن هل نستطيع القيام بتلك المهمة من دون مساعدة ولا محاولات ولا شكوك!

إن الألم الذي كان عادةً ما يُحدثه الاختيار المحدود للغاية، قد حلّ محله ألم ليس بأقل شدة، لكن هذا الألم يصدر هذه المرة عن اضطرار إلى الاختيار من دون ثقة بالاختيارات المُتخذة، ومن دون ثقة في أن الاختيارات الإضافية ستُقرِّب الهدف. [1]

يرصد مروجوك حالة اللايقين الناجمة عن الثقافة السائلة التي انبثقت عن نفي علاقة الإنسان بخالقه، ولم يتولّد عنها حالة من اليقين أو السعادة، بل حالة مُضطربة متأصلة نحو الأنا مع محاولة إشباع للرغبات، وذالتي لم تمنح معنى للحياة سواء كان أصيلاً أم زائفاً، بقدر ما ساعدت على نفى الأسئلة المتعلقة بمعنى الحياة ذاتها، حين تركزت المتغيرات الجديدة على البحث عن التميز، عبر مواكبة أحدث الصيحات والقدرة على تغيير الهوية، وهو ما أثّر بشكل مباشر على العلاقات الاجتماعية.

وبهذا لم يعد للثقافة، كأداة لبناء الجماعة المتخيلة في المجتمع الغربي، أي دور إلا في التأقلم مع تلك المتغيرات، ولم يعد هناك أي معنى للخلاص على يد المجتمع أو ما أطلق عليه «زيجمونت باومان»، مرحلة ما بعد النموذج، التي أطلق فيها العنان للرغبات والتمركز حول الذات. [2]

الجسد بوصفه مشروعاً حداثياً

تعود الرؤية الغربية للجسد إلى فلاسفة اليونان، حيث يرى أفلاطون أن الجسد ثقل على الإنسان وعائق للنفس، وعلى الفيلسوف الحق ألا يلهث وراء اللذات المادية، وينخرط كلياً في الاهتمام بالنفس، وهو ما يشبه بعض التصورات الدينية، والتي تنطلق من ثنائية الروح والجسد.

ثم تطورت تلك الرؤية في عصر النهضة، من خلال دمج الجسد مع بعض التصورات الوضعية، حيث رأى ديكارت أن الإنسان آلة صنعها الله بطريقة مُنظمة، فالجسد يخضع لقوانين العالم الخارجي، لكن الإنسان لديه جوهر متميز وهو الفكر والحرية، وبمرور الوقت اختفت تلك الرؤية المبنية على ثنائية الروح والجسد، ولم يبق إلا الجسد، أو كما قال نيتشه «إني لا أرى إلا جسداً لا غير»، وبهذا أُسدل الستار عن التراث اليوناني والمسيحي، وبدأت حقبة تُمجِّد الجسد، وتُولي اهتماماً خاصاً بالرغبات الجنسية باعتبارها مُحرِّكاً للسلوك الإنساني. [3]

يشير «كرس شلنج» في كتابه «الجسد والنظرية الاجتماعية»، إلى أن الحداثة العالية أسهمت بشكل خاص في سلب القداسة عن الحياة الاجتماعية، وفشلت في الاستعاضة عن اليقينيات الدينية بيقينيات علمية من الطراز نفسه، بخاصة بعد تراجع السرديات الكبرى التي كانت تشحن حياة الأفراد بالمعاني ذات العلاقة ببعض الكليات المتسامية، كالحياة الآخرة أو البحث عن العدالة الاجتماعية.

ربما نجح العلم في إحكام السيطرة على شئون الحياة، لكنه فشل في طرح قيم تُؤمِّن حياة الإنسان على نحو أفضل، مما جعل الأفراد يواجهون بمفردهم تأسيس قيمهم الخاصة والحفاظ عليها. من هنا برز الجسد كمفهوم حداثي جديد، جعل من مشاريع الصحة والعمليات وكمال الأجسام، بل والتحول الجنسي، مادة خاماً، اعتبرت الجسد مساحة جديدة للتغيير لدى الفرد الحداثي، لتوثيق عرى العلاقة بين الجسد والهوية الذاتية، حيث يوفر الجسد وسيلة للتعبير عن النفس، فإذا شعر الفرد بعجزه عن إحداث تأثير في مجتمع تزداد حركته وتطوره بشكل متسارع، فإنه على الأقل يستطيع أن يُحدِث تغييراً عبر مظهره، وهو ما جعل من الجسد مشروع لإعادة بناء الذات وفق تصورات صاحبه. [4]

ويشير هذا إلى تراجع الجوهر الإنساني إلى شيء غير إنساني، حين تم حصره في نسق أحادي البعد، حيث الجسد والجنس واللذة، ونُزعت عنه أي قداسة أخلاقية أو دينية.

مجتمع ما بعد الحداثة

لقد أشار نيتشه بعبارته الشهيرة «لقد مات الإله ونحن من قتلناه»، إلى بروز مرحلة جديدة من الفكر الغربي، حيث تجاوز العالم المتسامي وعالم الكليات، فهو لا يعني الإله بالمعنى الإلحادي المباشر، بل يشمل الكليات والثوابت والقيم، وفكرة الكل ذاتها، باعتباره كياناً متماسكاً يعلو على الأشياء، فيصبح العالم أجزاء لا تُشكِّل كلاً ولا مركزاً، بل جزيئات لا يربطها رابط.

انطلاقاً من هذا، فإن الإيمان السائد بأن العقل الإنساني قادر على التوصل إلى معرفة يقينية أو نسق أخلاقي (أي أن بوسع العلم أو العقل أن يمد الإنسان بمعرفة يقينية تحل محل الدين) هو وهم ليس إلا، وأن المركزية التي تخلعها الفلسفة الهيومانية على الإنسان مركزية زائفة، فهو كائن طبيعي ليس له أهمية خاصة، بل إن الطبيعة ذاتها ليس لها أي قداسة، فهي مجموعة من القوى المتسارعة، والحديث عن أي مطلق هو محض عبث، فكل فكر مادي، وكل الأمور المادية متساوية، وكل الأمور متساوية نسبية. [5]

بهذه الرؤية تم القضاء على اليقين المعرفي في الفكر الغربي، واختفت تماماً النزعة الطوباوية وكل الأحلام المثالية في التفكير الرأسمالي والاشتراكي، وانحصر الإنسان الحداثي في إشباع اللذة الفردية، مما أدى إلى ظهور حركات التمركز حول الأنثى، وبدأت تتلاشى أهمية الأسرة كوحدة بناء في المجتمع، وكآلية مهمة لنقل القيم من جيل إلى آخر. وقد وافق هذا التراجع إعلاء قيمة اللذة وتزايد أسعار الجنسي عند الأفراد، فأصبح الجنس بحد ذاته مرجعية ذاتية، حين انفصل تماماً عن أي قيمة أخلاقية أو اجتماعية.

يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى فلسفة ما بعد الحداثة بغياب المرجعية والمعياري وسيطرة الصيرورة دون الاستناد إلى مرجعية واضحة. ويُلاحظ ظهور الإنسان الجسدي وشيوع الحب العرضي ومركزية الجنس المطلق أو ما يُسمى Free Love Movement وعلمنة السلوك الإنساني بالكامل، وكل ما يطلبه المجتمع الآن من الإنسان هو الاستسلام للاستهلاك واللذة، التي ستقود حتماً إلى الشذوذ في ما بعد. كل هذا تحت حصار التعددية السلعية والمعلوماتية المفرطة، التي تلتهم الإنسان ولا تمنحه السعادة أو الحكمة.

وافق هذا انفصال العلم الطبيعي عن القيمة، والتجريب المنفصل عن أي غائيات إنسانية أو أخلاقية، حيث أصبح التجريب هدفاً في ذاته، كما تحوّل الاستهلاك من وسيلة إلى غاية، وهذا ما يدفعنا للتساؤل ماذا حدث للإنسان في إطار الحضارة الغربية المادية؟ [6]

خاتمة

ينظر الفكر العلماني إلى الانسان بنظرة مادية مطلقة، جعلت من الجسد مشروعاً في حد ذاته، بعد أن فكّكت عن الإنسان أي قيمة أخلاقية أو دينية، واستبدلتها بقيم نفعية مادية، مع محاولة إعادة هيكلة الأفكار والمفاهيم بصورة تتماشى مع منطق اللذة والاستهلاك والتمحور حول الذات، الذى لم يكرس لقيم ثابتة، بل أمات الروابط الاجتماعية والقيم الدينية والأخلاقية، وأعلى من القيم الفردية والتربح واللذة، ففي ظل تلك السيولة الواضحة في المفاهيم والأفكار والتطبيقات؛ من أين ستستمد البشرية موردها الحقيقي للأخلاق أو القيم، بعد أن حُيِّدت القيم الروحية تماماً عن حياة البشر؟! وإلى أين يمكن للأفكار والقيم أن تتحلل في ظل هذه المادية غير المنضبطة؟! أو كما يقول المسيري:

الله هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نُسي الله، فان ركيزة الكون ستنتهي.
المراجع
  1. Sławomir Mrożek, Małe Listy (Warsaw: Noir sur Blanc, 2000), p. 121
  2. الثقافة السائلة، زيجمونت باومان.
  3. علم الاجتماع والتمركز حول الجسد، فاطمة حافظ.
  4. الجسد والنظرية الاجتماعية، كرس شلنج.
  5. الفلسفة الهيومانية تشكل رؤية كونية للعالم ومذهباً فلسفياً قائماً على مركزية الإنسان في الكون وإزاحة الإله.
  6. الحداثة وما بعد الحداثة، عبد الوهاب المسيري.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.