وُلد في فترة الاستعمار الفرنسي لبلاده، لكنَّه لم ينشأ مقاومًا للمحتل بل صديقًا له، في منطقة بوبانجي جنوب غرب جمهورية أفريقيا الوسطي، وعام 1921، سقطت رأس جان بيدل بوكاسا مولودًا ليسقط بولادته العديد من الرؤوس مقطوعةً.

تعلَّم بوكاسا في المدارس التبشيرية، وبحكم انتمائه لمباكا، القبيلة التي تحتفظ بروابط شديدة القوة بالفرنسيين، انضم للقتال مع الفرنسيين وعمره 18 عامًا، شارك معهم في الحرب العالمية الثانية، وقاتل في صفوفهم في الحرب الهندية الصينية، وأظهر إخلاصًا غير معتاد وذكاءً لافتًا.

ظل بوكاسا يترقى في المناصب العسكرية حتى جاء التتويج الأكبر له عام 1960، حين نالت بلاده استقلالها عن فرنسا، فعيَّنه دافيد داكوا، رئيس الجمهورية الوليدة، قائدًا للجيش الناشئ. رجلان على رأس الدولة تابعان لفرنسا، هكذا تصورت فرنسا في الأشهر الأولى لتولي داكوا الحكم، خاصةً أنه كان الرجل الثاني المتفق عليه شعبيًّا بعد مقتل بوجاندا، الزعيم الحقيقي الذي حمل لواء الاستقلال عن المستعمر، ومات قبل الاستقلال بأشهر قليلة في حادث تحطم طائرة.

لكن بعد تولي داكوا السلطة الحقيقية اكتشف الفرنسيون أنه ليس الرجل الخاضع الذي أرادوه، كان خاضعًا لكن لم يكن بنفس الدرجة التي تصوروها. منذ البداية توجه داكوا إلى أحضان الصين، فعملت فرنسا على تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادي في البلاد، واستغلت عجز داكوا عن السيطرة على زمام الأمور داخليًّا، فرتبت انقلابًا للإطاحة به، ليس بالمفاجئ أن يكون المُنقلب هو رفيق الأمس، بوكاسا.

الانقلاب كاحتفال رأس السنة

قوات بوكاسا تملأ الشوارع، ليس للاحتفال برأس سنة عام 1965 مثلما يفعل المدنيون، بل لأن بوكاسا قرر أن الساعة الحادية عشرة مساءً ليلة رأس السنة هي الوقت المناسب لانقلابه كي تدخل البلاد العام الجديد بقيادة جديدة. تم الانقلاب بسرعة وحسم، وتزامن معه إصدار بوكاسا لعدة قرارات بصفته الرئيس الجديد. بالطبع كان أولها قطع العلاقات مع الصين وطرد دبلوماسييها، والتوجه للحضن الفرنسي دائمًا وللأبد.

كان بوكاسا شديد الود مع الفرنسيين، حتى لو لم يكونوا في السلطة، لدرجة أنه احتفظ بعلاقة صداقة قوية مع جيسكار ديستان، وجعله رفيقه في رحلات الصيد، وكان دائمًا ما يصفه بأنه فرد من العائلة، كل ذلك قبل أن يصل ديستان إلى السلطة. وحين وصل الفرنسي للسلطة باتت الصداقة أعمق وأقوى.

ذلك العمق منح الفرنسيين الراحة تجاه جمهورية أفريقيا الوسطى، فلم يحتاجوا لأكثر من إصدار الأوامر لبوكاسا. كما أن بوكاسا مع الوقت أدرك أنه لا أحد يراقبه، فنهج سيرة جُل الانقلابيين، بعد الإصلاحات السريعة والانتعاشات الاقتصادية المؤقتة، وتطوير البُنى التحتية، بدأ بوكاسا في تركيز كل السلطات في يده وحده.

ومن غير المفاجئ أن تتزامن تلك التحولات مع استقواء شعوره بجنون العظمة والارتياب، فسحق بوكاسا معارضيه بلا رحمة. ثم التفت إلى مؤيديه الذين يشك في ولائهم، فأخذ يعتقلهم واحدًا بعد الآخر، حتى إنه اعتقل ألكسندر بانزا، شريكه في الانقلاب على داكوا ورفيقه في الحرب الهندية الصينية، عذَّبه بوكاسا قبل أن يقتله في النهاية.

الإمبراطور الأول والأخير

قمع كلاسيكي اعتادته أفريقيا، لكن  بوكاسا قرر أنه سيفعل العديد مما هو غير كلاسيكي، وأول الأمر فقد قرر أنه سينصب نفسه إمبراطورًا. ولم تعترض فرنسا بل أرسلت له الأموال اللازمة لإقامة حفل تنصيب ضخم، كما مدَّته بقوات خاصة لحمايته والدفاع عنه، لتزيد بذلك شعوره بالعظمة والارتياب في الجميع إلا الجندي الفرنسي.

كان حفل بوكاسا أسطوريًّا، سمَّى نفسه بوكاسا الأول، وأعلن تنصيب ابنه وليًّا للعهد. حفل بتكلفة ضخمة تتجاوز دخل بلاده الإجمالي، طقوس لا ترجع لتراث بلاده ولا تتميز بالعصرية، أزياء أشبه بنابليون بونابرت، فرسان يحطيون به كفرسان القرن التاسع عشر، تيجان وملابس فرو بالملوك القدامى.

بعد ذلك بدأ بوكاسا في خصخصة شركات القطاع العام، ليس بيعها للمستثمرين الأجانب، بل لحسابه الشخصي. شركةً تلو الأخرى، قطاع حيوي بعد الآخر، حتى صارت جمهورية أفريقيا الوسطى بالكامل ملكية شخصية وخاصة للإمبراطور وعائلته فحسب.

لاحقًا أصدر قرارًا بأن يرتدي تلامذة المدارس وطلاب الجامعات زيًّا موحدًا، والأغرب أنه في نفس القرار نصَّ على أن يكون المصدر الوحيد لهذا الزي هو مصنع محدد، من غير المفاجئ أن يكون المصنع ملكًا للإمبراطورة كاثرين زوجة الإمبراطور بوكاسا.

خرجت المظاهرات الغاضبة من ذلك القرار المجنون، لم يبالِ بها الإمبراطور، أصدر قراره باعتقال بعض المشاركين فيها دون النظر لعمرهم. أمر الإمبراطور بإيداع المعتقلين في سجن نجاراجيا، ثم عُثر لاحقًا على قرابة 100 جثة من هؤلاء المعتقلين بعضهم أطفال لا يتجاوز عمرهم العشر السنوات. وكان القاسم المشترك بين تلك الجثث، غير القتل المتعمد، أن جميعها تظهر عليها آثار تعذيب وضرب مُبرح وخنق.

يأكل لحوم الأطفال

الموت لم يكن هو الشيء المرعب الوحيد في عهد بوكاسا، بل الجنون أيضًا. غالب ظهور الرجل كان مرتديًا زيه الرسمي، واضعًا جميع الأوسمة العسكرية والنياشين الرسمية على صدره، ناعتًا نفسه بالفيلد مارشال. وأعلن أكثر من مرة أنه يريد أن يمتلك قنبلة ذرية، ليكون أول قائد أفريقي يعلن تلك الرغبة، بجانب أن بلاده كانت أكثر فقرًا من أن تمتلك سلاحًا عاديًّا فضلًا عن القنبلة الذرية.

هنا وجد الفرنسيون أن كلفة الاحتفاظ ببوكاسا باتت أكثر مما يقدمه لهم، وأن بإمكانهم الإتيان بشخص آخر أكثر هدوءًا، خاصة أن الوضع في أفريقيا الوسطى بات أشبه بالقنبلة الموقوتة. تجارة الألماس التي كانت سر عشق فرنسا للجمهورية السمراء تدهورت بسبب قرارات بوكاسا، العسكريون والمدنيون لا يتقاضون رواتبهم فأصبحوا وحشًا مرعبًا يمكن أن ينقض على السلطة والحكومة في أي وقت.

كانت حياة بوكاسا غريبة، وخروجه من السلطة أغرب، أثناء وجوده في ليبيا دعم الفرنسيون داكوا لينقلب على بوكاسا مرة أخرى، وليُنفى بوكاسا في كوت ديفوار عددًا من السنين قبل أن ينتقل لفرنسا. بوكاسا كان من محبي ليبيا عامةً، والعقيد معمر القذافي خاصةً، لدرجة أن بوكاسا أعلن دخوله في الإسلام إرضاءً للقذافي، ثم لاحقًا تحوَّل عن الإسلام بعد أن توترت العلاقات بينه وبين القذافي.

بعد خروج بوكاسا من السلطة بدأ المزيد من الغرائب في الظهور، من أبرزها اتهامات بأنه يأكل لحوم البشر، وأنه كان يحتفظ في ثلاجته ببعض اللحوم البشرية لتقديمها لضيوفه. منبع تلك الادعاءات بعض الصور التي نشرتها مجلة فرنسية تُظهر فيها جثث أطفال المدارس الذين قتلوا موجودة في أحد الثلاجات وعلَّقت بأن بوكاسا يحتفظ بها ليلتهمها. لكن بوكاسا لاحقًا نفى تلك الادعاءات قائلًا إن الجثث في ثلاجة المشرحة فحسب.

يلقي المعارضين للتماسيح

وزادت تلك الادعاءات بقول أحد الوزراء الفرنسيين إن بوكاسا أخبره في حفل تنصيبه إمبراطورًا أنه، أي الوزير، تناول للتو لحمًا بشريًّا مطهيًّا. بجانب تلك الادعاءات ظهرت أحاديث أن بوكاسا كان يقتل معارضيه بطرق وحشية مثل إلقائهم للأسود والتماسيح في حديقةٍ خاصة به، وعُرف عنه أيضًا أنه كان يضرب اللصوص بالمطارق حتى الموت أمام عينه.

لم تنتهِ غرائب بوكاسا عند خروجه من السلطة، بل حتى في منفاه عمد بوكاسا إلى الانتقام ممن انقلبوا عليه. أعلن بوكاسا عن عدد من الهدايا النفيسة وهدايا الألماس التي تلقاها منه الرئيس الفرنسي ديستان، فحرمه ذلك من الفوز بولاية رئاسية ثانية.

عام 1986 قرر بوكاسا قرارًا مفاجئًا بالعودة لبلاده ومجابهة المحاكمات القضائية عن كل ما وُجه إليه من اتهامات. القتل والاختلاس وإخفاء الجثث وأكل لحوم البشر، كلها تهم تنتظره.

أول حكم كان بالبراءة من تهمة أكل لحوم البشر لعدم وجود أدلة كافية عليها، أما باقي الأحكام فكانت بالإعدام، ثم خُفف الحكم للسجن، ثم أُخلي سبيله عام 1993، ليموت بشكل طبيعي عام 1996، وسط أبنائه الـ 50، لتخرج من بينهم ابنة مميزة تعيش في لبنان حاليًّا، تقاوم الاحتلال الإسرائيلي وتعمل في مجال الإغاثة ومساعدة الأطفال تحديدًا، تطهيرًا لنفسها من سيرة والدها.

لم يختفِ بوكاسا عن الأضواء فقد عاد إليها عام 2003 حين قاد فرانسوا بوزيزيه انقلابًا جعله رئيسًا للبلاد عام 2005. وحين تولى فرانسوا السلطة رد الاعتبار لبوكاسا ومنح زوجته وسام الشرف وأسقط كل التهم الموجهة إليه، رغم أن ذلك لن يُغير من واقع أنه وضع البلاد في وضع مرعب لقرابة 14 عامًا.