لا تكف الأخبار عن قصفنا بالأحداث المروعة في مصر وجوارها. هذه المرة من قلب القاهرة، وتحديدًا محيط الكاتدرائية المرقصية بالعباسية، المقر البابوي للكنيسة القبطية الشرقية الأرثوذوكسية، والتي تبدو للمارة من الخارج كحصن مؤمَّن؛ نظرًا للتواجد الشُّرطي المكثف على مختلف أبوابها، والتحصين الذي زاد مؤخرًا لأسوارها.

الهدف كان قداس الأحد المقام في الكنيسة البطرسية الملاصقة للكاتدرائية المرقصية، التي أسستها أسرة رئيس وزراء مصر الأسبق بطرس غالي فوق ضريحه عام 1911، ودُفِنَ تحت مذبحها الشهر الماضي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي.

امتزجت بأرضية الكنيسة دماء وأشلاء ستةٍ وعشرين بريئًا أغلبهم من النساء والأطفال الذي كانوا يشهدون القداس، حيث أشارت التحقيقات الأولية إلى أن القنبلة كانت موضوعة أسفل مقاعد النساء!، كما نُقل حوالي خمسون آخرون لتلقي العلاج، وحالات بعضهم خطرة.

وهكذا كانت حلوى المولد التي أهدانا إياها أعداء الإنسان في مصر في يوم المولد النبوي، ولا تخفى -أيًا كان الطرف الفاعل- الرسالة الطائفية المفخَّخة البغيضة من استهداف مسيحيي مصر في يوم دينيٍّ لمسلميها.

وها هو أخدود دموي بشع جديد يشق النسيج المصري الذي كاد يهترئ من تتابع الطعنات، ولا ندري بعد هذه الكارثة الجديدة إلى أي قاعٍ جديدٍ ستنحدر الأوضاع الأمنية والإنسانية والدينية والأخلاقية في مصر.


العصر الذهبي للمتاجرة بالدم والدين

من المفترض في بلدٍ يتشدَّقُ حكامه ومحكوموه أنهم يحبون الدين، أن يكون أقدس أقداسهم هو احترام الدماء والأديان. ومن أبلغ مظاهر هذا عدم المتاجرة بهذا ولا ذاك.

لكن تجري رياح الواقع بما لا تشتهي سفن كل ذي عقلٍ أو مروءة. فبالرغم من أجواء الصدمة والألم التي تعم البلاد، واصل المتاجرون بالدماء عملهم على قدمٍ وساق للاستثمار السريع المُربح -من وجهة نظرهم- لهذه الفاجعة.

الإدراك الجمعي لهؤلاء الغاضبين حول الكاتدرائية لحقارة أذرع الدولة الإعلامية شجع على رد الفعل العنيف تجاههم، الذي تمثل في الطرد والاعتداء باليد

ولعل أسوأ أصنافهم إعلاميو النظام المصري ومؤيدوه الذين بدأوا فورًا بتجييش مشاعر الانتقام، واستباق كل التحقيقات بالاتهام القاطع الحاسم، وتوجيه طاقة الغضب تجاه خصوم الدولة خاصة بقايا جماعة الإخوان المسلمين، والربط بين حادث الكنيسة اليوم والتفجير الذي سبقه بيوميْن في شارع الهرم واستهدف ارتكازًا أمنيًا؛ ما أودى بحياة ستةٍ من أفراد وضباط الشرطة، والذي تبناه تنظيم جديد مجهول يسمي نفسه حسم -حركة سواعد مصر- وينسبه المحللون إلى التيار العنفي للإخوان المسلمين، والذي بدأ -حسب قول هؤلاء- في الظهور والانتشار مع جولة القمع الشديد غير المسبوق التي تعرض لها الإخوان بعد خلع مرسي وفض اعتصامات رابعة والنهضة وغيرها بالقوة المفرطة.

ولعل الفكرة الكامنة في لا وعي الكثير من المصريين عن حقارة هؤلاء الإعلاميين كانت هي الدافع وراء رد الفعل التلقائي الغاضب للغاية والذي استقبلتهم به الجموع المحتشدة حول الكنيسة، حيث تم الاعتداء بالضرب على لميس الحديدي ، و طرد أحمد موسى بعد إهانته.

ومن المعلوم من واقع مصر بالضرورة أن هذه الأدوات الإعلامية لا تتحرك من تلقاء نفسها؛ ولذا فكما أن قلوبنا ودموعنا مع ضحايا التفجير وذويهم، فإن قلوبنا وعقولنا تترقب بخوف ضحايا جدد ستُلصق بهم الاتهامات، وينكّل بهم دون رقيب، ويكونون هم كبش الفداء لمن لا يفوِّت فرصة أيًا كانت إلا ويرسِّخ فيها أقدامه ويغرس قواعده في قلب النسيج المصري.


من القديسين إلى البطرسية: «ويا قلبي لا تحزن»

http://gty.im/108694464

ستُّ سنواتٍ عجاف مرت بين هذين الحادثيْن المروعين، وكلاهما كان استهدافًا خسيسًا لمصلينَ آمنين في دار عبادة، وبينهما تعرضت مصر لأكبر هزاتٍ في تاريخها الحديث. بدأ الأمر بمشاهد وردية لمسلمين ومسيحيين متوحدين في ميادين الثورة ضد العدو المشترك الذي أفسد البلاد ونهب مواردها وأذل حريتها وكرامتها. رفعت الثورة الغطاء الكثيف، فنضح الإناء المصري بكل ما فيه خيرًا وشرًا، وكان كلاهما أكبر مما يتصور الجميع وأولهم المصريون أنفسهم.

طفت على السطح المصري في هذه الفترة السجالات الطائفية خاصة مع بروز التيارات الإسلامية إلى الواجهة بعد طول قمع. أخذ خصوم الإسلاميين سواء من فلول الدولة أو من المعارضة يستخدمون الورقة القبطية ضدهم، ويتهمون الإسلاميين بالعنصرية الطائفية ضد الأقباط، ورغبتهم في استغلال أجواء الثورة لإقامة حكم ديني يهمِّش الأقباط.

عملت الأجهزة العميقة للدولة بعد الثورة على تجييش الطوائف الدينية بعضها في مواجهة بعض حتى لم يكن النسيج الوطني بأسوأ مما هو عليه اليوم.

وللأسف لم يبذل الإسلاميون خاصة الأكثر اعتدالاً منهم كالإخوان جهدًا ملموسًا في تفنيد هذه الاتهامات، وكذلك لم ينجحوا في أن يقدموا البديل النموذجي الذي يجمع الكل وراء أهداف الثورة التي تشملهم جميعًا، بل كان العكس أصح، فلم يألُ الإسلاميون، خاصة السلفيون، جهدًا في إفزاع المختلفين مع الحالة الإسلامية من الأقباط وغيرهم. وكان الأخطر من ذلك، أن تلك السجالات غير المجدية شغلت الجميع عن الخطر الحقيقي الكامن في أن هياكل النظام كلها ما تزال قائمة بالكامل لم يسقط منها سوى الرأس.

ولم تقصِّر الدولة -وواجهتها آنذاك المجلس العسكري- في تعزيز التباينات بين الجميع، وضرب الجميع بالجميع؛ لكي تحتوي الثغرة التي أحدثتها الثورة في البنيان القائم. ولم تبخل في استهداف الكل ولو بالقتل ما لزم الأمر وفي مناسبات عدة؛كحادثة ماسبيرو المروَّعة في أكتوبر/تشرين الأول 2011 التي راح ضحيتها عشرون من المتظاهرين الأقباط برصاص الجيش.

وبغَض النظر عن الاختلاف مع مضمون هذه المظاهرة وأدواتها، لكن لا مبرر أبدًا للقمع الدموي، والأدهى منه تجييش النظام من خلال القناة الرسمية للدولة للسكان (المسلمين) في المناطق المحيطة بماسبيرو ضد هجوم المتظاهرين (الأقباط)!.

لم تنقطع أخبار الاصطدامات الطائفية هنا وهناك، سواء لمنع إقامة كنيسة في منطقة ما، أو لقصة غرامية بين شاب وفتاة من الدينيْن، …إلخ. ورغم أن هذه الحوادث تقع منذ أيام مبارك، إلا أنه تكثف تسليط الأضواء عليها، خاصة مع صعود مرشح الإخوان محمد مرسي إلى سدة الرئاسة بعد انتخابات عصيبة في منتصف 2012، تخللها حشد طائفي بارز خاصة في جولة الإعادة، حيث كان يتم حشد الأقباط للتصويت بكثافة لمرشح الدولة أحمد شفيق، في حين استغل الإخوان ذلك لحشد المتدينين التقليديين خاصة من السلفيين للتصويت لمرسي الذي يواجه مرشح الأقباط!.

استمر تجييش الأقباط وتخويفهم حقًا وباطلاً في سنة حكم مرسي، حتى وصلنا إلى لحظة 30 يونيو/حزيران 2013، والتي لا يخفى على أحد أن الأقباط شاركوا فيها بكثافة لإسقاط مرسي. ولعل هذا ما برَّر به بعض المتعصبين من أنصاره استهداف بعض الكنائس خاصة في الصعيد احتجاجًا على الفض الدموي لاعتصامات المعترضين على عزل مرسي.

ثم استمرت حملة قمع الدولة المجنون للإسلاميين منذ ذلك الحين، وعمقت الشرخ أكثر وأكثر بين الأقباط، وبين الملايين من مؤيدي التيارات الإسلامية الذين يرون الأقباط شريكًا في دمائهم وتشريدهم.


هل فعلتها الدولة؟

في الثالث من مايو/آيار من عام 2011، وفي ظل عنفوان مد ثورة يناير/كانون الثاني، ورغبة الكثيرين حينها في التنصل من الانتساب لنظام مبارك، وما حملته الفترة من حرية إعلامية شبه مطلقة،نشرت جريدة اليوم السابع -والتي تعد الآن البوق الإعلامي الأهم للنظام المصري- تحقيقًا إخباريًا خطيرًا تدعي فيه أنها قد عثرت على مستندات تتهم حبيب العادلي وزير داخلية مبارك الأخير بأنه المدبر الفعلي لتفجير كنيسة القديسين.

والدافع لذلك هو الرغبة في تركيع الأقباط بعد تكرار احتجاجاتهم ضد الدولة، واتهامهم لها باضطهادهم، وكذلك لاستغلال الحادث لتبرير شن حملة أمنية موسعة تستهدف عموم الإسلاميين خاصة الإخوان الذين تم إقصاؤهم قبلها بأسابيع بشكل تام من انتخابات برلمان 2010 المزور، وكذلك السلفيين والذين انتسب لهم أول ضحايا القمع بعد الحادث، الشهيد سيد بلال الذي مات تحت تعذيب أمن الدولة بعد التفجير بأسبوع. ونوهت الجريدة حينها بأن اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني بعد أشهر من الحادث هو ما أتلف هذا المخطط الأمني.

لا يمكن الجزم قطعًا بصحة أو عدم صحة الكلام السابق، وكذلك لا يمكن اتهام الدولة جزافًا بارتكاب تفجير الأمس البعيد، أو تفجير اليوم. لكن تظل الدولة المسؤول الرئيسي قطعًا عما حدث وعن تداعياته قريبها وبعيدها، وأقل درجات مسؤوليتها هو الإهمال، وهذه هي الأسباب:

أولاً: هي المسؤولة عن تأمين وحماية كافة المصريين؛ وبالتالي فوقوع تفجير كهذا في قلب القاهرة وفي هدف حساس يعتبر رمزًا لأقباط مصر هو فشل كارثي سواء كان متعمدًا أو غير متعمد، خاصة ولم يبقَ لهذه الدولة من شيءٍ تقدمه لشعبها بعد رفع معظم الدعم الاقتصادي، سوى حالة الأمن النسبي في الشارع الذي تتشدق به.

ثانيًا: تاريخ الأنظمة المأزومة، شرعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، في التجييش الطائفي واستغلاله لتمزيق القوى الفاعلة في المجتمع ليسهل قمع بوادر احتجاجها، وضربها ببعضها البعض، لا تعد أمثلته ولا تُحصى.

ثالثًا: معظم ما سال من دماء مصرية -مسلمة ومسيحية- في هذه السنين العجاف كان بيد الدولة خاصة في ثورتها المضادة على يناير/كانون الثاني؛ وبالتالي فهي من فرضت شريعة الغاب حكَمًا، وأجهضت فرصة يناير/كانون الثاني 2011 في إصلاح الدولة بأقل الخسائر. ومن أواخر هذه الدماء المواطن القبطي مجدي مكين الذي قتل تحت التعذيب في أحد أقسام الشرطة منذ أيام.

رابعًا: الدولة هي التي خنقت المجال العام، ونسفت قنوات التغيير الشرعي، ومارست القمع المسعور لكل الأصوات المعتدلة المعارضة خاصة بين الإسلاميين، ففتحت الأبواب على مصراعيها لانزلاق الكثيرين نحو الأفكار المتطرفة والعُنفية. واستغلال الدولة للأقباط لدعمها في غير مناسبة، جعلهم في مرمى هؤلاء المتعصبين خاصة ذوي الميول الداعشية الذين يستحل بعضهم دماء عامة خصومهم كالشيعة والأقباط وموظفي الدول، …إلخ.

خامسًا: دائمًا ما تطلق الدولة أذرعها الإعلامية لاستغلال هذه الحوادث وغيرها للحشد والتجييش ضد من يخالف الدولة، حتى لو كان الأسلوب طائفيًا فجًّا.


إلى متى يظل الأقباط شعب الكنيسة؟

http://gty.im/511144092

تتحمل الكنيسة المصرية جزءًا من مسؤولية الكارثة لأنها تخلت عن دورها الروحي التقليدي، وتحولت في السنوات الأخيرة إلى ممارسة السياسة بمنتهى البرجماتية، وقادت قطاعات كبيرة من جمهور الأقباط للالتفاف حولها كممثل وحيد لهم، كما تاجرت -هي والمؤسسات الرسمية الإسلامية كالأزهر- بالدين لدعم الدولة في كل المواقف، ولم تتركْ واقعة يُستهدف فيها الأقباط، وتقصّر الدولة في دورها في إنفاذ القانون، إلا واستغلتها لسحب الجمهور القبطي للتقوقع حولها أكثر وأكثر.


الحل إذن هو حلنا جميعنا

لا ننسى أن الخدمة التي لا تزال تتشدق الدولة بتقديمها بعد رفع يد الدعم الاقتصادي، هي الأمن النسبي في الشارع، ولعل الدولة أرادت التذكير بحتمية وجودها.

لن تحل مشاكل الأقباط بشكل منعزل؛ فهي جزء من المشكلة المصرية العامة، والتي تتمثل في التجريف السياسي والفكري بطول عصور التخلف التي تغوِّلت فيها الدولة على المجتمع، وصولاً إلى ذروة القاع في السنوات الثلاث الأخيرة، التي حولت مصر إلى رمز للقمع والاستبداد الذي مزق وحدة النسيج المصري، وعزز الكراهية بين أقسامه لكيلا تجتمع من جديد على هدف التغيير المشترك.

الحل أن ترحل المنظومة الحالية، ويقيم المصريون دولة عدلٍ حقيقية، تقيم القانون على الجميع، وتفتح الآفاق الدينية والثقافية والاجتماعية والإعلامية، وتسمح بحدوث التفاعلات الرشيدة تحت الضوء وفي وضح النهار.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.