لأنني ممَّن يتنفسون القراءة، إلى الحد الذي يجعل رائحة ورق الكتب الجديدة تُشعرني بالنشوة، ويرفع معدلات خفقان قلبي تقليب صفحات كتاب أحتضنه بكلتا راحتيْ يدي، فقد غمرني شعور استثنائي من البهجة عندما عُدت إلى منزلي بعد يومٍ طويل من العمل المتواصل في المستشفى لأجد في انتظاري كتاب «التاريخ الحرام» للكاتب الصحفي والصديق «أحمد متاريك».

ولأنَّ التاريخ بالنسبة لي أكبر من مجرد متعة ثقافية، فهو مسألة هوية، ومُؤسِس للأفكار والقناعات، وهو المجال الأبرز لمقالاتي التي أكتبها بانتظام منذ سنواتٍ عديدة، فقد حشدت ما استطعت من حواسي  وأنا أبدأ الولوج إلى عالم هذا الكتاب، والذي بدا لي غلافه بسيطًا  ومُعبِّرًا، تحتله صورة كتابٍ قديم، وأنا أمقت التكلف في التصميمات، فتفاءلت بتلك البداية.

لا أنكر أن عُنوانَ الكتاب قد أشعرني ببعض التوتر منذ أعلن عنه كاتبه قبل فترة، فهذا العنوان المُستفز قد يُوحي للوهلة الأولى أنه مجرد تجميعة لبعض الأحداث التاريخية المجهولة التي تستفز القُرَّاء بتفاصيلها الصادمة، والتي عادةً ما تستند إلى مصادر تاريخية شاذة أو مُختَلف عليها. لكن بعد أن توغَّلت في ثنايا الكتاب، تبدَّد هذا التوتر، لا سيَّما مع الكم الكبير من المصادر التي حشدها الكاتب في النقاط الأكثر إثارة للجدل في أطروحاته.

في السطور التالية، وعلى هيئة نقاطٍ سريعة محددة، سأعرض أبرز ما رأيته في هذا الكتاب من مميزات، وكذلك سأشير إلى أهم المآخذ لعل كاتبَه يستفيد منها في إبداعاته اللاحقة، وبالطبع سيكون هذا دون حرق للأحداث، أو لأكون أكثرَ دقة، بقدرٍ قليل من الحرق لا يضر .

ما أعجبني في «التاريخ الحرام»

أولًا: أنه ابن حلال! فرغم العنوانِ الصادم الذي قد يجعل بعض القُرَّاء المتحفِّزين يصنفونه تحت نوعية كتب التهجُّم التاريخي على التراث. بالنسبة لي، طريقة تعاطي الكتاب مع التراث التاريخي هي الطريقة التي أُفضِّلها، وأراها ضروريةً في هذا الزمن، وهي الشفافية في العرض دون محاولة الهروب أو القفز فوق بعض الأحداث الجدلية والصادمة، وكذلك إثارة التساؤلات في نفس القارئ لدفعه دفعًا للاستزادة وخوض رحلته الخاصة من البحث في المصادر المختلفة نحو المزيد من الحقائق، ومساءلة أفكاره المسبقة التي غالبًا ما تكون مُجتزَأة، وتُهيْمن عليها دوجما التاريخ التقليدي والمدرسي.

ثانيًا: معظم موضوعات الكتاب تقريبًا هي لتاريخ الأمة الإسلامية، مع تركيز كبير على تاريخ الصحابة وصدر الإسلام، وتلك الفترة هي الأكثر حساسية، والأبلغ تأثيرًا في وعي ملايين العرب والمسلمين، وتخصيصها بإعادة النظر، وبأطروحات تُخالف التوجهات التقليدية التي تحاول عمدًا تسطيح التعاطي مع تلك القضايا الحساسة، أو التهرُّب منها بفيتو من الفتاوى الشرعية والمبررات التاريخية، كان أمرًا محمودًا يُحسب للكاتب.

ثالثًا: زخم المصادر التي حشدها الكاتب، وتنوعها بين القديم والمعاصر، والعربي والأجنبي، وانتسابها لمختلف المذاهب والمشارب، فتلك الفسيفساء من المراجع تُعطي لقضايا الكتاب قوةً ومصداقية، وتُرَجِّح كفة الموضوعية على كفة الانحيازات المُسبقة للكاتب.

رابعًا: الأسلوب الأدبي الرشيق الذي أعتبره الأسلوب المفضَّل لي، والذي يضفي نكهة خاصة لا تضاهيها الكتابات الأكاديمية الرصينة الباردة. وقد استخدمه الكاتب دون تكلف أو تقعُّر حتى لا يفقد القُرَّاء الأكثر اغترابًا عن اللغة العربية الفصحى. كما لا يستخدم الكاتب الأساليب اللغوية الاستفزازية الشائعة في التعاطي مع تلك الموضوعات التاريخية الحسَّاسة.

خامسًا: لأنني ممن يغارون على اللغة العربية كأهل بيتي، فقد أثار إعجابي أن المراجعة اللغوية في مُجملها دقيقة للغاية، ويكاد لا يوجد أخطاء لغوية أو نحوية ملحوظة.

سادسًا: الإضافات الدرامية على الأحداث كانت محدودة، وغير مفتعلة ولا متكلَّفة، فأفادت طريقة العرض، وجعلتها أكثرَ تشويقًا، دون أن تُشعِر القارئ أنه أمام روايات خيالية تتمسَّح بالتاريخ.

سابعًا: حجم الكتاب – أكبر قليلًا من 160 صفحة من القطع المتوسط – مناسب جدًّا لأزمة ضيق وقت وإنهاك الإنسان المعاصر، الذي يحاول جاهدًا أن يختلق أية مساحة ممكنة من الوقت أو التركيز الذهني من أجل هواية القراءة الأثيرة التي توشك على الانقراض.

ثامنًا: ورق الطباعة جيد، وخط الكتابة وحجمها مريح للعين، ويساعد القارئ على إنهاء الكتاب في وقتٍ سريع، وهذا بالنسبة للقارئ العتيد ميزة كبيرة.

مآخذ لا بد من ذكرها

أولًا: في رأيي، كان طرح الكتاب ليكون أقوى لو اقتصر على جولات تاريخية تعبر عن قضية واحدة مُركَّزة، مثل الفتنة الإسلامية الكبرى على سبيل المثال، والتي حظيت بالفعل بجزء مهم من الكتاب، أو بشخصية تاريخية أثير حولها الجدل المذهبي والفكري، مثل أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، وأدوارها السياسية التي أحدثت آلاف الصفحات من المُساجلات بين مختلف المذاهب الإسلامية، وقد حظيت السيدة عائشة بالفعل بأكبر فصول الكتاب، والذي كان يمكن البناء عليه بتوسع أكبر.

ثانيًا: التنوع الزماني والمكاني الواسع في الكتاب، وإن كان لا يخلو من مزايا، فإنَّه قد يُشعِر بعض القُرَّاء بأنهم أمام كتاب يضم طائفةً من المقالات المتفرقة، التي لا يجمعها سوى أنها تاريخية، وأنها لنفس الكاتب.

ثالثًا: بعض الأخطاء القليلة غير المقصودة، مثل:القرن الثامن الهجري بدلًا من السابع الهجري في صـ 21، وذكر اسم الخليفة العباسي المستنصر بدلًا من المستعصم في صـ 129… إلخ، وهي أخطاء في مُجمَلها غير جوهرية لحسن الحظ، ولا تمس الكتاب بضررٍ كبير.

خاتمة

في المحصلة، كتاب «التاريخ الحرام» هو إضافة لطيفة لمجال القراءات المعاصرة للتاريخ، والذي يستهوي الكثيرين كُتَّابًا وقُرَّاءً في السنوات الأخيرة، والجهد الموضوعي المبذول في تحضير الموضوعات وتنفيذها ظاهر للغاية للقارئ، وأظن أنه إذا اطَّلع مؤرخ متخصص عليه، فلن يشعر أن الكاتب «أحمد متاريك» مجرد متطفل جديد يأتي بالعجائب في غير فنه، إنما هو باحث جاد يبتغي ما هو أكثر من مجرد المتعة والإثارة التي تتيحها فصول التاريخ المجهولة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.