لكل عصر ظواهره، وفي كل قرن تظهر بوادره التي تطرأ عليه، ومعظم التغييرات والتطورات امتدادًا لحالة العصر السابق له. وفي هذا القرن المميز؛ حيث يبدأ بألفية جديدة، نلمس حالات جديدة من التغييرات على عقول المسلمين العرب، وسط سيطرة الأفكار الغربية على الخطاب الديني العربي المسلم، وتكفُّل بعض المسلمين العرب بالترويج لتلك الأفكار وإعادة إنتاجها عبر كتاباتٍ متناثرةٍ، تحمل في طياتها نقدًا للخطابِ الشرعيّ المحليّ، تحت شعارات خادعة كالتجديد والإصلاح والتنوير.

كتاب «مآلات الخطاب المدني»، هو أحد أهم الكتب التي ناقشت هذه الأفكار، وهو من تأليف الدكتور «إبراهيم السكران»، الذي كان في بداياته محسوبًا على التيار الليبرالي، لكنه تراجع عنه في مرحلة لاحقة، ليصبح أحد أهم منظري الفكر الإسلامي المعاصرين. وقد تأسست إسهامات السكران على إعادة ترتيب أولويات المسلم المثقف، مُؤسسًا مشروعه على النص القرآني، وجاعلاً النص حاكمًا على التصورات وممثلاً لمرجعية حقيقية في البحث.

وقد لامست كتابات السكران الواقع والتحديات التي يعيشها المجتمع الإسلامي اليوم؛ من محاولات إخراج المجتمعات من جلدتها وتذويب كل ما يمت للدين بصلة، والمشهد الثقافي ليس بمنأى عنها، إذ يقول:

وإنما الباعث الجوهري على كتابة هذه الدراسة: تنامي الخلل في ترتيب الأولويات عند قطاع واسع من المثقفين، مما ترتب عليه تضييع كثير من حقائق الوحي والإساءة لمشروع النهضة ذاته، حتى صارت العلوم المدنية هي الغاية من الحياة.

ينقسم كتاب «مآلات الخطاب المدني» إلى ثلاثة فصول؛ الفصل الأول بعنوان: تأملات الخطاب المدني، والثاني: منزلة المدنية المادية، والثالث: القراءة المدنية للتراث. ويندرج داخل كل فصل عدة مقالات ومواضيع.

ملامح انقلاب المعايير

يرى الكاتب أن الخطاب المدني يشهد إعادة تقييم جذرية تمس العناصر الجوهرية لرؤيتنا الفكرية، مثل الموقف من التراث، والموقف من الغرب، ومن المؤسسات والحركات الدعوية الإسلامية عمومًا، فأصبح أصحاب هذا الخطاب يدعون إلى إعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة مدنية. ويأتي ذلك نتيجة المغالاة في قيمة المدنية والحضارة بـ «تعريفهما المادي»، وتحويلهما إلى غاية وليست وسيلة، ويتبلور في ذهن صاحب هذا التفكير تعظيم للثقافة الغربية الحديثة، نظرًا لتفوقها المادي على غيرها من الأمم المعاصرة، فيشرع في عرض منجزاتها والتفاخر بها وبتقدمها، والإعراض حتى عن عرض ثغراتها. ويصبح تعامل صاحب هذا الغلو مع الآخرين على أساس مدني مادي لا على أساس ديني، بغض النظر عمّا إذا كان الآخر منحرفًا فكريًا ودينيًا أم لا، ويُنظر لصاحب المنجز الشرعي باحتقار على أنه رجعي.

إذن، يمكن القول باختصار إن الغلو المدني هو ينبوع الانحراف الثقافي. فعندما يتشرّب الشاب المسلم فكرة الغلو في قيمة المادية والحضارة والنهضة، والمتمثلة في الغرب، ينقلب هرم الأولويات والمعايير عنده رأسًا على عقب، ويبني تصوره ورأيه أن الغرب هو النموذج المتفوق، بينما الشرق والعالم الإسلامي هو نموذج للإخفاق والفشل. أمّا منْ يرى -بالمعايير الصحيحة- أن الأولوية في الحياة هي للتزكية والمستقبل الأخروي، وأن هذا هو التقدم الحقيقي، وأن المدنية المادية ما هي إلا وسيلة لتحقيق الغاية الكبرى، فسيرى أن التراث الإسلامي هو نموذج الفرادة والتميز، وأن الثقافة الغربية هي نموذج الانحطاط والتخلف.

ويحصر الكاتب الأسباب والظروف التي أدت إلى خطاب الغلو المدني ذلك في أربعة أسباب رئيسية هي:

  • مناخ سبتمبر 2001.
  • الضخ الفرانكفوني (والمقصود به الترويج للثقافة الفرنسية).
  • حفاوة وسائل الإعلام.
  • رد الفعل تجاه البغي الإلكتروني.

فبعد أحداث 11 سبتمبر تعرَّض كل ما هو إسلامي إلى هجوم عالمي شرس وتراجعت شعبيته، وأضحى الإسلام مرتبطًا بالإرهاب والدم، وبرزت الأبحاث الغربية والاستشراقية -الفرانكفونية كما يصفها المؤلف نسبةً إلى الناطقين بالفرنسية- واستغلت هذا الموقف لنشر فكرة إعادة تأويل التراث الإسلامي باستلهام المناهج الفكرية الفرنسية، فأثّرت تلك الأفكار والثقافة في الشباب المسلم وتشرَّب مفاهيمها، وعلى رأس هذه المفاهيم «مركزية المدنية وغائية الحضارة».

فتلك الفئة من الشباب المسلم الذي كان يقرأ في تسعينيات القرن الماضي لشخصيات مثل المودودي وسيد قطب ومحمد قطب والندوي والغزالي ومحمد عمارة، ويستمعون لشرائط العودة، اصطدمت بالمدرسة الفرانكفونية الغربية، التي أشهر كتابها محمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد.

وهنا نزل الخطاب الإسلامي من «سلطة القيادة» فترة التسعينيات إلى «قفص الاتهام» بعد سبتمبر 2001، حيث تراجعت جاذبيته الاجتماعية، وتم فتح المجال لتسويق خطابات أخرى لا تتكئ على نجاحها الخاص، بقدر ما تتكئ على غياب منافسها العنيد. وهذا يعني أن الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي بمجرد تجاوز هذه الأزمة والتعافي من تبعات حادثة سبتمبر.

ومما يبرزه الكاتب عن عمل هذه المدرسة في طرحها لتساؤلات جديدة عن الحضارة وغائياتها، هو الغرابة والتناقض في الأفكار التي ينقلونها وتناقضها مع بديهيات ظاهرة. وسبب ذلك أنهم لم يعتمدوا على أساس مبدأ نظري منطقي واحد. وقد أوجدت كتابات هذا الفئة فريقين من الشباب الذين أقبلوا على قراءة إنتاجات هذه المدرسة في البداية بمقصد حسن: أما الفريق الأول فتيّقظ لبطلان الأساس الذي انبنت عليه هذه الأبحاث وهو غائية الحضارة. أما الفريق الآخر، فقد استسلم لا شعوريًا لتلك الأفكار، وأصبح مهمومًا بمعاتبة الإسلاميين ليظهر بمظهر حسن يتناسب مع الذوق المدني الحديث.

الغايات والوسائل الدنيوية

ثم يشرع الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب في تناول وجهة نظر كل من الاتجاه المدني والاتجاه الشرعي في وظيفة الإنسان في الكون. فالاتجاه المدني يرى أن غاية خلق الإنسان هي العمارة، وأن الوحي والشرائع هي وسائل لتحقيق تلك الغاية، أما الاتجاه الديني يرى أن غاية الإنسان هي العبودية، وأن كل ما في هذه الحياة هو لعب ولهو، وأن العمارة والحضارة والمدنية هي مجرد وسائل لتحقيق الشرائع، فمركزية الدنيا هي ليست الغاية الأولوية للإنسان، وإنما مركزية الآخرة.

وقد جاء القرآن ليؤسس لتلك الفكرة ويحوِّل الدنيا من غاية إلى وسيلة: وسيلة خطرة يجب التعامل معها بحذر حتى لا تشغلنا عن الحياة الآخرة، بل على العكس، فقد كان القرآن، يؤكد على حقارة الدنيا وعلى أنها مجرد لعب ولهو، فالدنيا دار ابتلاء ومصلحة مؤقتة والآخرة مصلحة مؤبدة، ومن أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة.

«إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».
الآية 7 – سورة الكهف.

هل الإسلام ضد الحضارة؟

هناك الكثيرون من غلاة المدنية يرددون فكرة أن الإسلاميون ضد الحضارة وضد الاستفادة من المنجزات المدنية الحديثة، وأصحاب هذه الادعاءات إمّا أنهم لم يقرؤوا جيدًا للاتجاه الإسلامي، أو أنهم يسعون للتدليس على الموقف الإسلامي. لكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، فموقف الإسلاميين تجاه الحضارة والمدنية عمومًا، وحضارة الغرب على وجه الخصوص، يتلخص في ركائز ثلاث:

1. أن الحضارة مطلب دنيوي لكنها ليست المطلب الرئيسي ولا الجوهري.،وإنما هي وسيلة لتحقيق غاية العبودية لله عز وجل.

2. وجوب التمييز بين الوجه العلمي والفلسفي والسياسي للحضارة الغربية: أمّا المحتوى العلمي، فالإسلاميون لم ينكروا التقدم الذي وصل إليه الغربيون المعاصرون على المستوى العلمي، لكنهم أيضًا لا ينفردون بذلك، إذا تشاركهم على سبيل المثال دول مثل اليابان وكوريا. والمسلمون يعترفون أن العلوم التجريبية والبرمجية من أكثر ما استفادت منه العلوم الشرعية.

أمّا الوجه الفلسفي، وهو يتضمن الأسئلة حول الوجوديات، فهذا هو وجه الضلال عند الغربيين، لكن مع ذلك فالمسلمون ليسوا ضد مبدأ التفكير والتأمل حول الوجوديات، فذلك يساعد على قوة الإيمان والعبادة، لكنهم ضد الانحرافات والتساؤلات الضالة.

أمّا الوجه الثالث وهو الوجه السياسي، فهو الوجه السيئ للحضارة الغربية، فالدول الغربية مؤسسة إمبريالية استعمارية تمتص ثروات الأمم الأخرى وتخلق أبشع النماذج الدموية في التاريخ (مثل النازية وهيروشيما وناجازاكي وغوانتامو واستعمار الدول العربية والأسلحة النووية).

3. التمييز بين الانتفاع والانبهار: فليس معنى استفادتنا من الحضارة الغربية أن نملأ أفواهنا بتأوهات التعجب وأن نصفهم بـ هالة من التعبيرات المبالغة. ومن هنا يأتي عدم فهم غلاة المدنية لموقف الشريعة تجاه التقدم الحضاري الغربي.

فالنبي نفسه استفاد من الحضارة المعاصرة له، في حفر الخندق، والتبادل التجاري، واتخاذ خاتم للمراسلة، كما أنه شارك اليهود في نخيلهم وأكل من طعامهم ونسج من منسوجاتهم، لكنه بيّن ضلالتهم وانحطاطهم بسبب إعراضهم عن نور الوحي. وبعد وفاة رسول الله، استفاد الخليفة عمر بن الخطاب من فكرة الدواوين الخاصة بالفرس، وجاء بعده الخليفة عبد الملك بن مروان وقام بتعريبها ليكسوها ثوبًا إسلاميًا، كما قرر أيضًا الخليفة العباسي المأمون نقل العلوم الغربية وترجمتها، ولم يرفضها لأنها قادمة من قوم كفر.

القراءة المدنية للتراث

بماذا يكون كمال النفس الإنسانية؟

هذا التساؤل أو هذه الإشكالية طُرِحت منذ أيام الفلسفة اليونانية، إلا أننا نجد اليوم غلاة المدنية يقعون فيها، فكثيرًا ما نجدهم يُعظِّمون المعاني الذهنية وكل ما هو قائم على النظر والفكر والرأي والتجريد، ويحتقرون المعاني السلوكية القائمة على تزكية النفس ونهيها عن الهوى وكفِّها عن الشهوات، والانكباب على عبادة الله والإقبال على كتابه وإفناء الساعات في مناجاته، بل وينعتون أصحاب هذا السلوك ويصفونهم بـ «الدراويش».

وقد قدمت الفلسفة اليونانية إجابة على هذا التساؤل، ولخصها بعض أهل الإسلام أن «كمال النفس الإنسانية يكون بالإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات»، ويُلخِّص الرد على هذه الفلسفة بآية واحدة:

«فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ».
الآية 19 – سورة محمد.

ويمكن تلخيص هذه الإشكالية عبر تقسيم العلاقة بالممتلكات الدنيوية إلى ثلاثة مراتب رئيسية: إمّا أن يكون الاهتمام ببناء الدنيا مربوطًا بغاية نصرة الإسلام وتحقيق قيمه، وإمّا أن يكون لمجرد إشباع احتياجات الإنسان، وإمّا أن يكون بهدف المباهاة والمفاخرة والترف والمنافسة الدنيوية ونحوها.

فهذه المراتب الثلاث لخصها النبي (صلى الله عليه وسلم) ووصف كل مرتبة بوصف بليغ جامع، وذلك في حديث الخيل الشهير، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأمّا التي هي له أجر: فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له، فلا تغيب شيئاً في بطونها إلا كتب الله له أجراً، ولو رعاها في مرج ما أكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجراً، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر، حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها، ولو استنت شرفاً أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر. وأمّا الذي هي له ستر: فالرجل يتخذها تكرماً وتجملاً، ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها. وأمّا الذي عليه وزر: فالذي يتخذها أشراً وبطراً وبذخاً ورياء الناس، فذاك الذي هي عليه وزر.

فهذا الحديث العظيم غني بالدروس والمعاني، وهو يختصر في عبارات موجزة كل ما أرادت هذه الورقة أن تقوله، ويهمنا فيه الإشارة إلى فضل الممتلكات والإمكانيات الدنيوية حين تُوجَّه إلى نصرة الإسلام ويبتغى بها وجه الله، حتى أن الإنسان يُؤجَر على تفاصيل حركاتها، التي تقع منها أثناء فعل الطاعة، وإن لم يقصد الإنسان تلك التفاصيل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.