لو تساءلنا: هل الشعور بالضجر -المصاحب أحيانًا في علاقتنا بالآخر- شعورٌ نابعُ من أصل العلاقة؟ أم من خارجها؟ وهل يكون مؤشرًا على نهايتها؟ أم أنه تأثير مصاحب طبيعي فقط؟

لا شك أن تحري الدِقة في التسمية أمرٌ مهمٌ لِلغايّة في دِراسة أيّ ظَاهرة حَتى يُعبر عَنها وعَن حُدودها، لكن هُنا –فيما يتعلق بمصطلح (الملل/ الضجر) في العلاقات- لن أحاول أن أعطيها جهدًا معجميًا قبل أن تنال جهدًا تحليليًا، وأتصور أن الأخيرة فاتحة الطريق للثانية. المهم أنها تُعرف: بتلك الحالة التي تكونُ بين اثنين من البشرِ في فترةٍ زمنيةٍ محددة، يَشعر كِلاهما بتوقف الحديث/الفعل/الرغبة، بطريقةٍ مختلفةٍ عما يُسمى «شغف البدايات» مثلًا.

أي هي الحالة التي أحدثت تغييرًا في طبيعة العلاقة وحجم التفاعل المتبادل فيها بشكلٍ لحظي، يشعر فيها كل طرف بانسداد أفق الحديث/السلوك، ومن ثَمَّ قد يتحول هذا الانسداد لحالة ينسجم فيها البعض متماهيًا معها دون أن يعيرها اهتمامًا بالغًا، فيكون شاعرًا بضيقٍ ما لكنه عاجزٌ عن مَعرفةِ السّبب، والذي من الممكن أن يكون هذا الضجر السبب الظاهر فقط والذي أشبهُه بـ «جبلٍ جليدي لا يَظهر منه إلا بعضه أعلى سطح الماء وفي أسفله يختبئ الجزء الأكبر منه».

على النقيض قد يتحول إلى حالة مؤقتة من القلق لأطراف العلاقة، وهذه الحالة التي تهمنا في الحديث، كونها أصبحت مشكلة يدركها أصحابها وليسوا متماهين معها. ودرايتهم هنا بطبيعة المشكلة ستدفعهم لطرد الجهل من أن يتحكم بعلاقاتهم.

العلاقات تَضمُّ تحت جناحيها (الأصدقاء، الأخوة، الأزواج، الأقارب، الأشياء) أي شيء يشكل ارتباطًا في حياة البشر قد نطلق عليه لفظ علاقة، تمتاز كل منها بخصوصيتها دونًا عن باقي العلاقات. والجدير بالذكر أن هذا «الملل» يظهر في كافة العلاقات.

من باب الطرافة مثلاً لابد أنك لاحظت علاقتك بالطعام، هناك فترة عاشها بعضنا غالبًا كنا نتعامل مع صنفٍ معينٍ مِن الطَعام بطريقة هيستيرية تقريبًا، نعبر فيها عن حبنا المخلص له حتى برغم تكرارنا تناولها أكثر من مرة ولفترة طويلة، لكن سرعان ما ينتقل الأمر بصورة «مفاجئة» لصنف آخر مختلف تمامًا، وهي عادة تصاحبُ الوجباتِ الخَفيفة حسبما أذكر، أو أنك عشت فترة تسكنك الحيرة في ماذا تريد أن تفعل أنت وأصدقاؤك في ليلة الخميس المقبل وأنكم مللتم من نشاطكم المتكرر حول ألعاب الفيديو أو «ورق الكوتشينة» وبات الأمر حقيقةً مضيعة للوقت لا متعة فيه ولا لذة. (هذا في حال اعتبرنا أن اللذة تُكسِب الوقت أهمية). وكذا الأمر قد يحصل بشكلٍ لا ريب فيه مع علاقاتنا بالعائلة والأقارب أو بين الأزواج.

برغم ذلك يُعدُّ (الزواج) هو الأعقد نوعًا ويشتهر هو بذاكَ الملل أكثر من غيره من الارتباطات البشرية. وهي أخطر علاقة صراحةً على كوكب الأرض من وجهة نظري، أولاً: كونها امتدادًا لمنظومة الأسرة التي تعتبر خط الدفاع الأخير اليوم للحفاظ على قيمة الإنسان من الاندثار. ثانيًا: كونها تمثل تحديًا للبشر في ارتباطاتهم.

نعرف كلنا أن الزواج علاقة مختلفة عن تلك التي توجد في الصداقة، وعن ارتباطنا بالأشياء/الحيوانات التي نربيها، أو حتى عن علاقتك بجارك المزعج. هي حتمًا مختلفة كونها أكثر منطقة يقترب فيها إنسان من إنسان آخر اقترابًا بالغًا، ويدخل فيها إنسان مع إنسان في التحام تفاصيلي أكثر من أي مساحة إنسانية أخرى.

مع الأصدقاء مثلاً مهما كان حجم التقارب إلا أنها لن تتجاوز ذلك التقارب الذي يتيحه الزواج للبشر، صديقك لا يتدخل في مكان وضع جواربك المتسخة كما تفعل زوجتك! وأخوك قد لا يعنيه ماذا ستفطرُ غدًا! أو قد لا تقول لكِ أختكِ كم أنتِ جميلةٌ في بجامتكِ المعتادة كما قد يفعل زوجكِ مرةً! حتى لو طُفنا خارج هذه الاستدلالات السطحيّة لوجدنا أن الزواج يتيحُ للزوجين أن يلتحما التحامًا بكل ما تحمله الكلمة مِن معنى.

تطبيع الملل

بقولٍ صريح، الأمر يعد طبيعيًا للغاية في هذا العصر –غالب الأمر- فأي دراسة لهذه المشكلة خارج الإطار الواقعي الذي نعيش فيه يعد ضربًا من الجنون، بعيدًا عن مصطلحات (ما بعد الحداثة، والعولمة، والواحدية السائلة، والانحلال) وغيرها من المصطلحات التي طوّرها علماء في هذا المجال. أستطيع بأبسط من ذلك وصف هذا العصر الذي نعيش فيه الآن أنه عصر التفكك والتخبط.

أقول تَفكُك لأن الجزءَ انفصل فِيه عن الكُلِ، ولأن الهوة اتسعت بين القيم والإنسان، وبين الإنسان والإنسان، وأقول تَخبُط لأن الإنسان يعيش في تيهٍ شديدٍ لا يدري ماذا يفعل في ظل هذا الزخم الذي يحيطه من تغيرات سريعة الخطى، وبالتالي أصبح من الصعب عليه أن يحدد الفرق بين الحاجة للانفصال من جهة، والحاجة للتأقلم والتغيير من جهة أخرى، وأن يحدد هل هذا الشعور هو انطفاء جذوة الحب بين الشركاء أم أنه أقرب لشعور عام وأن الشريك ما هو إلا «كبش فداء» لهذا الشعور؟!

أصبح من الصعب عليه أن يضع إصبعه على الجرح، فتَاهَ في دوامةٍ مِن المشاعر والأحاسيس والتغيرات والأسئلة، وخَلُص لأن تكون علاقته مع الآخر عبارة عن مقامرة تخمينية؛ أيٌّ من الأسباب هو الذي أحدث المشكلة؟ يتساءل أحدهم: «هل توقفتُ عن حب زوجتي وحان وقت الفراق؟».

ماذا لو كان هذا التخمين مجحفًا للعلاقة، وأن حبه لم يتوقف وأنهم يمرون بحالة مؤقتة من الانطفاء، قد تتلاشى بممارسة شيء جديد فقط؟ أليس هذا ظلمًا لهم؟!

وقد يخمن آخر ويقول: «نعم هذا ملل… وهو مؤقت وأنا أحب زوجتي وهي تحبني ونحن شريكان مثاليان وذكرياتنا معًا تستحق منا انتظار حدوث شيء».

ماذا لو كان مخطئًا كذلك؟ وبقيا ضمن ما شاع ذكره «الطلاق العاطفي» لسنوات عديدة، غير سعداء البتة، متظاهرين بالسعادة والحب والطمأنينة؟ أليس ظلمًا لكل فرد منهما؟ ألا يستحقان حياةً ملؤها الأمان والطمأنينة بعيدًا عن ضغط البقاء والأولاد وغيرها من المخدرات؟

أرأيتم؟

هذا مثال أشبه بلعبة «روليت» لعينة، يتوهُ فِيها الشركاء والأصدقاء والعائلة عن شعورهم إزاء الآخرين. بهذا يكون كل منهم تحت رحمة هذا التيه.

أين المفرُ إذن؟!

لنُحَاول الضّغطَ على الجُرحِ

لأن العالم «مركب»، أي ليس شيئًا بسيطًا كخليةٍ أولية، بل هو عدة أشياء متداخلة ومترابطة ببعضها البعض، لهذا لا يجوز أن نضع حلاً سحريًا لكل العلاقات، ولا يوجد «مربط فرس» أو «مصباح علاء الدين» أو حتى نقطة وقوف. بل هي أشبه بمسار، هذا المسار يبدأ مع الوعي، ولا ينتهي، بل يستمر في هيئة تجارب وأخطاء بشرية مُحمّلة بذاك الوعي الذي يتطور بمرور التجارب الحياتية ووصولاً لمحطات بعينها؛ كالاستقرار في الزواج/العمل/الصداقات، منتقلاً لمحطات حياتية أخرى وهكذا.

الوعي بالذات والعلاقات أمرٌ مهم للغاية، بل يعتبرُ الأداة الأهم في الحياة، إذ بدونه ستكثر الأخطاء ويزيد التيه والتخبط وتتسع رقعة التكلف ويزيد تسطيحنا للأشياء. بكلمةٍ أخيرة هو إمساكُ العصا من المنتصف.

لكن لنقفز سويًا بخفة عن الوعي، الآن باتَ لدينا عدة ركائز: (تركيب الواقع، واختلاف البشر، وبالتالي اختلاف التجارب، وكذلك اختلاف مكان وزمن حدوث التجارب، ومن ثَمَّ الوعي، مرورًا باختلاف المشاكل والحلول، وأخيرًا سمات هذا العصر). هذه الحزمة هي تركة الإنسان على هذا الكوكب. لن نجعل النسبية المطلق الوحيد هُنا كما يُفضِّل دُعاتها، بل هُناك أسس ومرجعيات نستطيع الركون إليها:

  • لابد أن تضرب بعرضِ الحَائط كل التَجاربِ الأخرى، خُذ قشورًا ليس إلا فقط، من باب الدراسة والبحث والتأكيد.
  • الاهتمام بالأساس التاريخي لبداية العلاقة، ومن ثَمَّ تطورها إلى ما آلت إليه. فـ للعلاقات نار… كيف أُضرمت؟ سؤالٌ مهمٌ لتعرف السبب الذي يجعلكَ مُستمرًا مع طرفِ العلاقةِ المُقابل. النظر والرجوع لأصل بناء العلاقة من أهم الأشياء في الحل، وعلى إثرها تستطيع الانتقال للمرحلة التالية، وبناء قرار حول البقاء/التغيير.
  • نقطةٌ متممةٌ: مِن اِسمها «علاقة» يعني ارتباط… يعني نقاط التقاء وهكذا… هذا الالتقاء/الأصل قد يكون -على سبيل المثال لا الحصر- الثقة أو الأمان أو الحنو أو السند أو الشغف، وقد يكون خليطًا من اثنين أو أكثر أو جميعهم، وهذا الأصل لا بد -منطقيًا- أن يُشكِّل أكثر من 60% على الأقل من تماسك العلاقة وسبب وجودها من البداية، باقي النسبة يتحكم بها (نزولاً وصعودًا) عوامل أخرى منها (الملل والحيوية)، لكن على الأقل، لا بد أن يتجاوز الأصل أكثر من نصف النسبة، وفقًا لهذه الحسبة البسيطة تستطيع النظر بعيدًا حول ما إذا كانت تلك الخصال في العلاقة ما زالت تشكل أكثر من منتصف ما تشكله العلاقة الآن أم لا؟

ختامًا

إن التركة الخبيثة للتفكك الحاصل اليوم يجعلنا نلقي باللوم على كل علاقة نَعيشها مع الناس، بل إن البشرَ اليوم ينزحون نَحو عزلةٍ جماعية… يكتفون بمن حولهم ويخشون التورط بعلاقات جديدة، وربما انتكاسات جديدة أيضًا.

أفهم أن هُناك أناس يخذلوننا باستمرار على قارعة الطريق، وهُناك منْ تكشفه أطماعه ويُعرِّيه خبثه عند الشدائد، لكن هذا لا يجعلنا محقين في شعورنا بعدم الارتياح لكلِ علاقة ناشئة ولكلِ علاقة جديدة ستنشأ.

مشاكلنا مع الأصدقاء (الأوفياء) ليست سببًا لتركهم، والصراخ الحاصل في غرفة النوم بين الأزواج ليس دليلاً على حقارة/سوء أي منهما، والمواقف المتوترة التي بينك وبين أخيك/أبيك/أختك/أمك ليست نهاية العالم.

لا يجب أن نستسلم لسيولة كل ما يحدث وأن نركن ببساطة للهدم قبلَ كلِّ بناء، تحت السيولة تقبع وحوش عديدة: «اضطرابات نفسية… قلق مزمن… ضغط عصبي… اكتئاب… مشاكل شخصية»، هذه الوحوش إن لم تُؤسَر وتُوجَّه لِمسارها الصحيح بَعيدًا عن جعل من حولنا «قرابين أساطير اليونان»، لصارت سببًا لمزيدٍ من الانحلال والتماهي مع التغيرات، حتى نَصير بلا أيّ مرجعيةٍ إنسانيّة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.