في الحادية عشرة من عمره، وجد الصبي البرازيلي الصغير نفسَه يركض في ملعب ضخم من ملاعب الكبار للمرة الأولى في حياته. كان هيامه بملاعب الصالات الصغيرة واضحًا، هناك رآه ذلك الكشّاف وعرض على أبيه أن ينضم لأكاديمية نادي إنترناسيونال.

شقّ الفتى طريقه للفريق الأول بسرعة، في السابعة عشر أحرز هدفًا في نصف نهائي بطولة كأس العالم للأندية مساهمًا في تتويج فريقه بالبطولة أمام بطل أوروبا، نادي برشلونة.

وبنفس السرعة وقبل أن يبلغ الثامنة عشرة بأيام؛ طار الفتى إلى ميلان، لينضم إلى الفريق الذي أسر قلبه في ألعاب البلاي ستيشن، ويرى نجومه بكامل هيئتهم يصافحونه ويرحبون به.

بعد سنوات قليلة، سيحتاج هذا الشاب اليافع لـ24 ثانية فقط، ليخترق دفاعات الفريق الأكثر كمالًا في العالم وقتها ويسجل هدفًا في معقلهم الكامب نو.

بيب جوارديولا على الخطّ يراقب المشهد في ذهول، والناس أمام شاشاتهم يُجمعون على أن فوز هذا الشاب بالبالون دور مسألة وقت.

تعرفون بقيّة تلك الحكاية، كما تعرفون أن هذا الشاب هو «ألكسندر باتو».

ولربما إذا نحَّينا بعض التفاصيل الدقيقة، لأمكن إسقاط حكاية «باتو» على كثيرٍ من اللاعبين البرازيليين، الذين صعدوا بسرعة الصاروخ نحو القمة، حتى صاروا ملء السمع والبصر، ثم ما لبثوا أن هبطوا بسرعةٍ مماثلةٍ إلى هوة سحيقةٍ تنتهي بالانعزال أو الاعتزال.

مزيج غريب من المهارة والصخب، وتركيبة عجيبة من الإتقان واللامبالاة، طبعت صورة ذهنية غير مفهومةٍ عن النجوم البرازيليين، تدفع دومًا للتساؤل: كيف تكونت تلك التركيبة العجيبة؟ وكيف خرج هذا التناقض التامّ من مشكاةٍ واحدة؟

JOGA BONITO- الكرة الجميلة

يمكن القول إن البرازيليين إنما أجادوا ترويضَ الكرة بقدر إجادتهم لترويض الجغرافيا والمناخ. ففي بلدٍ فقيرٍ يربو تعداد سكانه على 200 مليون نسمة، مع سيادة مناخٍ استوائيٍ، لا يعرف إلا الحرارة العالية والأمطار الغزيرة؛ يصبح الركض على العشب في فضاء واسع ترفًا صعب المنال.

فذلك الطقس لم يفِد إلا حشائش الغابات بينما أضرّ العشب وأهلكه. فحلّت الأرضيات الناتئة الصلبة محلّ الملاعب الخضراء العادية، مما أكسبهم تحكمًا جيدًا بالكرة وتنبؤًا دقيقًا بمساراتها.

أما عن الملاعب الإسمنتية الغليظة، فقد كانت تعاقب مع أول سقوطٍ بعاهة في الرأس أو بكسرٍ في العظم، فكانت محفزًا أكبر لامتلاك بنية جسدية جيدة تحمي من السقوط وتحافظ على التوازن.

لكن الأثر الأكبر كان لكرة قدم الصالات «Futsal» التي ساهمت في تطوير المهارة البرازيلية من إبداع في المراوغة وجودة في التمرير ودقة في التسديد.

والسبب وراء ذلك بديهي بسيط، يرجع للأبعاد الصغيرة للمرمى والملعب ككل، مقارنةً بنظيره في كرة القدم العادية، وهي الميزة التي وصفها الأسطورة «بيليه» بأنها: «تجعلك تفكر بسرعة، وتلعب بسرعة، حتى إذا انتقلت إلى كرة القدم العادية؛ وجدت الأمر أسهل بكثير».

من تلك الملاعب خرج بيليه وزيكو ورونالدينيو ونيمار وباتو. وبفضل تلك الملاعب أيضًا ينشط حوالي 1290 لاعبًا برازيليًا محترفًا حول العالم ينثرون ذلك السحر الخالص فيراه الناس ويهيمون به.

لكنه هيامٌ حذِر، وتحيّنٌ دائم للحظة تكررت كثيرًا، يأفل عندها نجم راقص السامبا فجأة قبل موعده، مخلِّفًا وراءه علاماتِ استفهامٍ وتعجبٍ بقدرِ ما كانت موهبته. فما الذي يحدث؟

المَلهاة: ضريبة أن تولد برازيليًا

لقد ولدت في الجحيم، هذه ليست نكتة. وإنما اسم الحي الذي نشأت فيه في ساو باولو «الجحيم الصغير- Inferninho
أنتوني، جناح مانشستر يونايتد الحالي.

لا يمكن الحديث عن اللاعبين البرازيليين دون الإحالة ولو بشكل مختصر للوضع الاجتماعي الذي ينحدرون منه. فكما ترى في حالة «أنتوني» والتي يتصادف أنها الحالة السائدة لمعظم أولئك اللاعبين، يتأكد لك بلا شك أن كرة القدم في البرازيل لا ينظر لها على أنها اللعبة الأمتع فحسب، وإنما وسيلة لضمان معيشة آدمية أفضل.

أما بالنسبة للاعبين أنفسهم، فهنالك بُعد ثالث يضمنه لهم احتراف كرة القدم، وهو الحظوة والترّقي المجتمعي بكل ما يمثله.

ولم يكن ما يمثله الترقي في المجتمع البرازيلي –بالنسبة لهم- سوى تكوين علاقات مع نساء جميلات، والولوج الحصري لحفلات وأحداث صاخبة بالمجان، أو التعرف على شخصيات هامة ومرموقة. كما أوضحت دراسة ربطت بين حياة اللاعبين البرازيليين داخل الملعب وخارجه.

ربما الآن أصبح واضحًا كيف ولماذا كانت –وما زالت- المَلهاة حاضرة بقوة، كعامل فاعل في تقويض مسيرة معظم أولئك النجوم.

انظر كيف حوّلَت «روبينيو» الذي كان يُلقب في البرازيل بـ «بيليه الصغير»، من جالاكتيكوس في ريال مدريد، إلى وجهة لا يعبأ بها، ونادٍ بالكاد يعيره اهتمامًا كان يظنه في البدء تشيلسي ليصحح له المراسل أنه مانشستر سيتي، لا يهم طالما أنه سيستمر في مَلهاته الكبرى.

في تقريرٍ مطوّل عن أيامه في النادي السماوي لموقع The Athletic، ذهب أحد زملاء روبينيو إلى استنتاجٍ مُفاده أنه يريد أن يلعب الكرة على طريقته الخاصة، وأن يكون محترفًا بقدر ما يريد. وهو ما لا يتحقق مع تطور الكرة وعلومها وتعقيدها، وهو ما لا يتناسب وعقلية البرازيليين الجموحة التي لا تعترف إلا بالحرية التامة، في الملعب وخارجه.

المأساة: الرقص في حضرة الألم

«داخل عقلي، كم تمنيت لو أنني لم أترك المزرعة أبدًا!»

لم يطمح «راغنار لوثبروك» لأن يكون زعيمًا لقبائل الفايكنج يومًا، لم يحلم بأكثر من متعة الاستكشاف والمغامرة ودفء البيت.

لكن الرياح التي دفعت سفنه عبر البحار والمحيطات وأمّرته على السواحلِ والقرى، لم تأتِ معها إلا بأعباء ضخمة، نهض لبعضها وأتعبه بعضها الآخر، حتى تمنى لو أنه لم يهجر حياته القديمة أبدًا.

ألا يذكركم هذا بـ«أدريانو»؟

في الـ 17 كان مهاجم فلامينغو الأول، في الـ18 استُدعي لأول مرة لمنتخب البرازيل، بعدها بسنةٍ كان «إمبراطور» إيطاليا مع إنترميلان.

كان الجمهور في إنتر ميلان يوشك أن يعبد قدم أدريانو اليسرى. وبدوره لم يبخل عليهم بشيء. أهداهم لقب الاسكوديتو أكثر من مرة، حتى حدثت المأساة الكبرى بوفاة والده، ثم المأساة الصغرى بإصابة كاحله.

يا رجل، ماذا حدث لأدريانو؟

الأمر بسيط، يا أخي. لديّ ثقب في كاحلي وثقب في روحي.

يرى أدريانو أن كل شيء حدث معه بسرعة، لم يكن يدري ما هو مقبلٌ عليه من أعباءٍ ولم يستوعبها. كان يظن أنه سيلعب الكرة فحسب، ولم يكن وكلاء اللاعبين يدبرون لهم أبسط الأمور كما نرى الآن.

لم يكن «باتو» قصة مختلفة كثيرة عن أدريانو، انتقل للأضواء بنفس السرعة التي انطلق بها نحو مرمى «فالديز»، لكنه توقف عن الطيران ليفكر في المكان الذي سيصل له، البالون دور؟ أفضل لاعب في العالم؟ البرازيلي الأسطوري؟ ونسي أن العصفور الذي يتوقف عن الطيران، لابد سيسقط ويكسر عنقه!

يلخص باتو تجربته وتجربة أدريانو وكثيرٍ ممن سبقوهم وكثيرٍ سيلُونهم، فيقول: «كلاعب كرة قدم كنت جاهزًا لمواجهة العالم، أما كشخصٍ فلم أكن قريبًا من ذلك حتى!».

الضلع البرازيلي الأعوج

لقد انتهت الكرة الجميلة.
نيمار

لا شك أن من عاصروا الأجيال البرازيلية القديمة محظوظون، فقد سجلت عيونهم ذلك العرض الساحر الممتد من الكرة الجميلة من بيليه وجارنيتشا مرورًا بزيكو ورنالدو ورونالدينهو وحتى نيمار. فقد تشبّعوا الرؤية البرازيلية لكرة القدم، على أنها اللعبة الجماعية التي يربحها الأفراد.

غير أن تلك الرؤية في كرة قدم اليوم آخذة في الاندثار لحساب المنظومات وجماعية اللعبة. وقد تستغرب أن نيمار في التصريح أعلاه، كان يسجل اعتراضًا على الحكم الذي أشهر بطاقة صفراء في وجه زميله في المنتخب «لوكاس باكيتا» حين حاول أن يراوغ لاعبًا بطريقة استعراضية.

يعلل المحلل البرازيلي «باولو فينيسيوس كويلو» الامتعاض المبالغ فيه من قِبل بعض المحللين واللاعبين السابقين تجاه اللعب على الطريقة البرازيلية في الملاعب الأوروبية، بأن الكرة الحديثة تحسب لكل خطوة في الملعب حسابًا، ولكل حركة بالكرة غرضًا، فتصبح المراوغات مقبولة إذا كان لها غرض فني، ويسمح بالمهارات الاستعراضية إن كانت ستأخذ الفريق خطوة للأمام.

وهو ما يتعارض مع النظرة البرازيلية التي ترى المراوغة غرضًا في حد ذاتها، وآية جمال تتزين بها كرتهم، ومن أجلها تدفع الأندية الكبرى الملايين من أجل جناح برازيلي، ثم ترغب في أن تقص أجنحته وتقيّد حركته!

استنادًا لكل ما سبق، يمكن أن نطلق على اللاعب البرازيلي عمومًا تشبيه الضلع الأعوج، الذي خلق هكذا، بكل عنفوانه ومهاراته وإبداعه، وبكل صخبه وعبثه ولامبالاته أيضًا.

يمكنك أن تحاول تقويمه أو تحجيمه، قد تسير الأمور على ما يرام، لكنك في الأغلب ستكسره وتفقده، والأفضل أن تحاول، كما حاولنا هنا، أن تفهمه.