منذ أن قرر الإنسان الأول رفع سلاحه البدائي المرتجل من الهروات والعصي والرماح في وجه أخيه الإنسان، سواء للدفاع عن نفسه أو للاعتداء على الآخر لأي مطامع؛ تحولت صراعاته المسلحة إلى حروب، وتحولت الحروب إلى أنشطة غيرت وجه البشرية بالكامل، وبسبب تلك الصراعات المسلحة تطورت حاسة الابتكار لدى الإنسان بدافع البقاء أولاً، وبدافع التفوق على الخصوم، وربما كان الدافع في بعض الأوقات هو حاسة امتلاك القوة البحتة لترهيب الآخرين.

حلم إيكاروس: كابوس العالم

كما حلم الإنسان وما زال يحلم بالقوة، راوده أيضاً حلم التحليق والارتقاء من الأرض إلى السماء منذ قرون طويلة منذ أن أخبرتنا الميثولوجيا الإغريقية عن إيكاروس الذي حلم بالطيران، ولما اقترب من الشمس هوى إلى هلاكه، وبرغم وجود غاية فلسفية للأسطورة؛ فإن الغاية من الطيران كانت دائماً وأبداً حلم الإنسان في ريادة السماء، وكأن الأرض بكل اتساعها ليست كافية.

وبعدما كان الحلم شبه رومانسي يتطلع إلى التحليق كالطير، تحول في لحظة ما، هذا الحلم إلى شبه كابوس بمجرد أن انبثقت الفكرة في رأس أحدهم لتحويل هذا التحليق الحَالم إلى سلاح، يقذف الموت والنار ويدمر كل ما يمر فوقه؛ ويخبرنا التاريخ بأن أولى أفكار تسليح المركبات الطائرة كانت في مطلع القرن العشرين، وتحديداً عام 1911 عندما جاءت الفكرة لأحد القادة العسكريين الإيطاليين في استخدام الطائرات، هذا الابتكار الوليد المذهل الآتي عبر المحيط من أمريكا على يد الأخوين رايت؛ في تحميل عدد من القنابل يمكن إلقاؤها على الليبيين من أعلى، كفكرة جديدة، عبثية تهدي الإيطاليين قوة كاسحة تُدخلهم في زُمرة جيرانهم المستعمرين الأوروبيين الراغبين في التوسع، واستعادة الأمجاد الرومانية المفقودة.

وبالفعل كان الاستخدام الأول للطيران الحربي في أفريقيا من قبل الجيش الإيطالي بقصف سواحل ليبيا التي كانت خاضعة للدولة العثمانية آنذاك، وخلال 3 أعوام فقط، عام 1914 اجتاح العالم جنون الحرب، واشتعلت الحرب العظمى أو كما نعرفها باسمها الدارج؛ الحرب العالمية الأولى 1914، والتي ظهرت فيها أساطيل السماء، وكان هذا ميلاد الطيران الحربي الذي غير موازين القوى العالمية بعد أن فقد العالم قرابة 40 مليون مدني وعسكري، ولكن طموح الإنسان لم يتوقف هنا، بل كان الإنسان يرنو إلى المزيد من التفوق الساعي إلى القوة المطلقة؛ بأقل خسائر ممكنة.

الحلم القديم: من قائد الطائرة إلى مُحركها

مثلما أدرك الإنسان أنه قد يمتلك القوة إذا ما حلّق فوق أعدائه؛ أدرك أيضاً أنه في نهاية المطاف ومهما ارتفع، فإن قدرات جسده محدودة، تخضع لقوانين الجاذبية، وأن طيرانه في مركبة مادية صنعها، قد يكون مصيره الحتمي مع أية عقبة تقنية أو طلقة صائبة هو السقوط، أو الارتطام بسطح الأرض التي عاش وسار عليها و ملاقاة مصير أي جسم هاوٍ، ومع استكشاف هذه الحتمية؛ كان أول ما جاء في ذهنه هو كيفية التحول من قائد هذه المركبة التي تتحدى قوانين الجاذبية، إلى مُحرّك لها بدون الوجود داخلها، بغية الهروب من حتمية الهلاك.

قد يعتقد البعض أن فكرة المركبة الطائرة بدون طيار فكرة وليدة العقود الأخيرة التي تطورت فيها التكنولوجيا بشكل كبير في الستينيات وما بعدها؛ ولكن الحقيقة أن أغلب مصادر التاريخ العسكري تخبرنا أن ابتكار الطائرات بدون طيار أو ما يعرف اليوم بـ «الدرونز» كانت وليدة اللحظات الأولى التي تمكنّ فيها الإنسان من الطيران.

فمنذ أن استخدم الأوروبيون المناطيد في الحروب في نهايات القرن التاسع عشر وتحديداً عندما هاجم الجيش النمساوي مدينة البندقية الشهيرة في إيطاليا عام 1849، عبر تجميل مجموعات من المناطيد الطائرة بقنابل ثقيلة وإسقاطها عن بٌعد حال تحليق المناطيد فوق أهدافها.

ولكن كما لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، أتت الرياح بما لا تشتهي المناطيد أيضاً، وفعلياً وليس استعارة أو تشبيهاً؛ كانت الرياح الشديدة هي السبب الأول لفشل هذا الابتكار المدمر، وتسببت في فشل إسقاط المتفجرات على أهدافها بدقة، كما تسببت الرياح أيضاً في تحطم المناطيد أثناء تحليقها.

ولكن إصرار خيال الإنسان على امتلاك المزيد من القوة الطائرة لم يتوقف عند هذه العثرة، فمع ابتكار أول مركبة مُجنحة واستخدامها في ذروة اشتعال الحرب العالمية الأولى كما ذكرنا، ولدت فكرة المركبة المُتَحكَم بها عن بُعد، التي كان دافعها الأساسي، هو النجاة من السقوط و ملاقاة مصير أي إنسان يجسر على تحدي قوانين الفيزياء.

ظهرت أولى محاولات البشر الجادة لصنع طائرة حربية بدون طيار في الحرب العالمية الأولى، وبالتزامن مع ظهور الطيران الحربي نفسه، وتحديداً عام 1917 على يد المهندس البريطاني أرشيبالد لو، والذي استعان بفريق علمي عسكري مكوّن من ثلاثين مهندساً وضابط جيش لابتكار ما عُرف باسم «الهدف الطائر» Aerial Target بتمويل من الجيش الملكي البريطاني وشركة «رستون و بروكتور» والتي تخصصت آنذاك في صناعة المحركات البخارية.

ومن خلال استغلال تقنية الراديو، استطاع أرشيبالد لو من تحريك الطائرة الصغيرة عن بُعد، التي كان وقودها الأساسي آنذاك هو الهواء المضغوط وليس الوقود المحترق، وهو الفريق نفسه الذي ابتكر أول صاروخ موجه عن بُعد، ولاحقاً استعان الألمان النازيون بخريطة هذا الفريق التكنولوجية لإنتاج أول صاروخ باليستي حديث والذي اشتهر في تاريخ الأسلحة الحديث باسم صاروخ V1 الذي شهدت الحرب العالمية الثانية ميلاده واستخدامه، وما تلا ذلك كان تاريخاً مشهوداً.

الميلاد الحديث للموت الطائر

بعد القفزة الأولى في تاريخ المركبات العسكرية الطائرة بدون طيار، استطاع البريطانيون تجنيد هذه التكنولوجيا وتطويرها لصالح ريادة القوات الملكية الجوية Royal Air Forces والتي كانت حتى منتصف الأربعينيات وبنهاية الحرب العالمية الثانية واحدة من أقوى القوات الجوية في العالم إن لم تكن لها الريادة الكاملة بحوالي 15 ألف درون عسكري أثناء الحرب العالمية الثانية؛ كما كانت للقوات الجوية البريطانية الريادة أيضاً في ابتكار مصطلح درونز Drones والمشتق من المصطلح الإنجليزي Drone والذي يطلق على «ذكور ملكات النحل» بما أنه لا يوجد في ممالك النحل «ملك» ذكر بالأساس، وهذا بعد أن أطلقت بريطانيا اسم Queen Bee، أي «النحلة الملكة» على إحدى أبرز طائراتها بدون طيار والموجهة عن بُعد.

كما يذكر التاريخ العسكري ايضاً محطة هامة استطاع الألمان فيها تحت سيطرة النازية ابتكار طائراتهم الخاصة بدون طيار في ذروة الحرب العالمية الثانية وعرفت باسم V1 Doodlebugs والتي استُخدمت في قصف العديد من المواقع في بريطانيا وفرنسا بما فيها العاصمة لندن، وكانت هذه المركبات الطائرة واحدة من أبرز عناصر الترويع النازي لقوات الحلفاء آنذاك.

بعد الهزيمة الساحقة للألمان في الحرب العالمية الثانية، لم يكتفِ الأمريكيون بالفوز فقط، فكما ذكرنا في مقال سابق من قبل استطاع الأمريكيون تحقيق الاستفادة القصوى من التكنولوجيا الحربية الألمانية من خلال الاستيلاء على أبرز التصميمات العسكرية النازية واقتباسها وتحويلها إلى لَبِنات أساسية ساهمت في التفوق العسكري الأمريكي إلى يومنا هذا، ولم تكن الدرونز استثناءً بأي حال من الأحوال؛ فقد تمكنّ الأمريكيون من تعديل تصميمات الدرونز الحربية الألمانية V1 Doodlebugs، وتحويلها إلى مركبات أمريكية الصنع بالكامل كان أبرزها طراز TD2D-1 Katydid وطراز Curtiss KD2C والذي استمر استخدامهما بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الكورية الأمريكية، والتي تعد من أكبر الهزائم المعنوية الأمريكية التي لا يتم تناولها عادة أو يتم الترويج لها على أنها حالة «تعادل عسكري» وليست هزيمة معنوية أسفرت عن انقسام كوريا الموحدة إلى شمالية وجنوبية اليوم.

طيور النار التي تغير موازين القوى

عندما تبحث في تاريخ الدرونز سيصادفك بالبحث السطحي الأولي بعض حملات البروبجاندا التي يتبناها جيش الاحتلال الإسرائيلي هو تطوير وامتلاك أسطول جوي متقدم من الطائرات العسكرية بدون طيار، وبينما تحاول اليوم بعض المصادر إقناع العالم أن الدرونز الحديثة هي بالأساس ابتكار إسرائيلي طوره المهندس اليهودي عراقي الأصل أبراهام كارم، الذي لقبته الإيكونومست البريطانية باسم «أبو الدرونز» الحديثة؛ إلا أن النظرة السابقة على تاريخ هذه المركبات يدحض هذه النظرية، فقد صمم كارم طائرة محدودة القدرات لصالح الجيش الإسرائيلي أثناء حرب أكتوبر 1973، إلا أن ابتكاره لم يشهد أي استخدام حقيقي في معركة تحرير سيناء والجولان باستثناء بعض عمليات محدودة للمناوشة والتمويه على رادارات المصريين بحسب أغلب مصادر التأريخ العسكري سواء غربية أو عربية.

والحقيقة هي أن أبراهام كارم سرعان ما ترك إسرائيل وهاجر إلى أمريكا عام 1977 واستطاع العمل لحساب مؤسسة DARPA الأمريكية – وكالة أبحاث المشروعات المتطورة – وطوّر نُسخاً موجودة وفاعلة بالأساس من الدرونز ، وربما ينسب له فقط التطوير اللوجيستي والتكتيكي في قدرات التحليق للدرونز ومسافاتها، وليس كما يُشاع بأنه هو من قدم للعالم الدرون العسكري الحديث.

وربما يتساءل البعض لماذا لم تشتهر الطائرات العسكرية بدون طيار إلا في آخر عقدين إلى ثلاثة عقود فقط، رغم وجودها منذ قرن أو أكثر من الزمان، والأسباب وراء هذه الشهرة في أغلب التحليلات تعود إلى أمر رئيسي هام؛ ألا وهو محدودية الاعتماد عليها، فبينما بدأت الولايات المتحدة استخدام الدرونز بشكل موسع مع اندلاع حرب فيتنام؛ كان لها أيضاً أدوار محدودة في عمليات استخباراتية واستطلاعية بوساطة العديد من دول العالم المتقدمة في ذروة الحرب الباردة، وما تلاها من حروب في مناطق العالم المتفرقة.

ومع تغير جغرافية، وجيوسياسية الحروب في العالم في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، بما في ذلك الجغرافيا الوعرة لأهداف أمريكا العسكرية في دول مثل أفغانستان وباكستان والعراق، ومع توالي الخسائر البشرية للجيش الأمريكي؛ تحولت الاستراتيجية الأمريكية إلى تقليل الخسائر البشرية إلى أقل درجة ممكنة؛ وهنا كانت الدرونز أشبه بالعصا السحرية التي مكنّت الجيش الأمريكي من تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة باستخدام الدرونز، وخاصة في قصف الأماكن الجبلية الوعرة أو الضواحي ذات الطبيعة الخطرة أو المفتوحة والتي يصعب على القوات البرية أو القدرات الصاروخية قصفها.

قواعد اللعبة: على وشك التغير أم تغيرت بالفعل؟

ومع مطلع العقد الثاني بعد الألفية ازداد استخدام الدرونز بشكل كبير عالمياً، وتحولت العديد من الدول إلى دول إما راغبة في امتلاكها أو في تصنيعها كواحد من أكثر الأسلحة الاستراتيجية طلباً في العقدين الأخيرين بجوار العنصر الأهم بالنسبة للدرونز ألا وهو في الحقيقة؛ بساطة عملية تصنيعها وقلة تكلفتها مقارنة بالطائرات المقاتلة الهجومية بجوار قدراتها التدميرية الخالية من أية مخاطرة بخسائر بشرية للمُهاجم بنسبة 100 في المئة تقريباً، مما يجعلها سلعة استراتيجية تٌمكن الدول التي يمكن وصفها باللاعبين المتوسطين والصغار من الولوج إلى عالم الكبار في تصنيع وتصدير هذه السلعة الاستراتيجية المهمة اليوم، التي أصبحت لها القدرة على ترجيح كفة موازين القوى العسكرية لمالكيها.

وبالفعل يشهد العالم اليوم تنافساً بين الصين وروسيا وأمريكا وبريطانيا كدول كبرى مُصنّعة للأسلحة مع دول أخرى ليست على قائمة كبار مصنعي الأسلحة – مقارنة بدول العالم الكبرى– دخلت سباق الدرونز مثل الهند وباكستان وإيران وتركيا وغيرها، بل وتمكنت دول مثل تركيا من التقدم شوطاً طويلاً في تصنيع وتصدير الدرونز، من أبرزها درونز مثل تاي أكسنغور، والأكثر شهرة بيرقدار وتحديداً طراز تي بي 2 التي تمتلك قدرة طيران تصل إلى 500 ألف ساعة، وصدرتها تركيا إلى قطر، وأذربيجان وكوسوفو وبعض دول أفريقيا، وقريباً المملكة العربية السعودية و تحلّق حالياً في الخدمة لحساب أوكرانيا في خضم الحرب الروسية الأوكرانية، ويصل سعرها اليوم ل 5 ملايين دولار فقط، مقارنة على سبيل المثال بالدرون الأمريكية المتقدمة MQ-9 Reaper والتي يصل سعرها إلى 32 مليون دولار.

هنا تتجلى المنافسة الشرسة في هذا المجال؛ فبرغم تقدم الدرونز الأمريكية بفارق كبير تقنياً عن التركية على سبيل المثال؛ إلا أن امتلاك درون حتى ولو بقدرات محدودة لا يزال خطورة استراتيجية مهمة اليوم بالنسبة للجيوش ذات الميزانيات المحدودة أو المتوسطة، وهو المثال ذاته الذي ينطبق على الدرونز الهندية أو الصينية أو حتى الإيرانية، فهذه المركبات العسكرية قليلة التكلفة ورخيصة السعر ذات القدرات المتوسطة لا تزال تنبئ العالم بأن قواعد لعبة امتلاك القوى قد أوشكت على التغير، أو تغيرت بالفعل، ولم تعد طيور الموت السريعة حكراً على الأقطاب الكبرى المتحكمة في مصائر العالم سواء اقتصادياً أو عسكرياً أو سياسياً.