في 20 مارس/ آذار عام 1956 حصلت تونس على إعلان رسمي باستقلالها بعد حماية فرنسية دامت لـ 75 عامًا. ولاحقًا فازت قوائم الحزب الحر الدستوري الجديد بكافة مقاعد المجلس التأسيسي. بعد أقل من شهر تشكلت حكومة جديد بقيادة الحبيب بورقيبة الذي عاد لتوّه من المنفى.

وفي 25 يوليو/ تموز 1957 أُعلنت الجمهورية وألغيت الملكية وصار بورقيبة رئيسًا للجمهورية الوليدة. منذ الأشهر الأولى لولايته عهد بورقيبة إلى إحداث تغييرات في المجتمع التونسي فأصدر العديد من قوانين الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات، وحلّ الأوقاف ووحّد جهات القضاء تحت راية القضاء المدني، كما ألغى التعليم الديني وضمّه للتعليم العام وأصبح التعليم إلزاميًا.

وبعد صياغة الدستور الجديد انتخب بورقيبة وفقًا له رئيسًا لخمس سنوات، وحصلت قوائم الحزب الحر الدستوري بكافة مقاعد مجلس الأمة الذي حلّ مكان المجلس التأسيسي.

أما بخصوص بقايا الاستعمار الفرنسي ففي عام 1961 طالب بورقيبة الفرنسيين بالخروج من قاعدة بنزرت، واعتمد أسلوبًا للمواجهة المباشرة. لكن لم تؤد أساليب بورقيبة إلا لرد فعل فرنسي عنيف في بنزرت حصد أرواح المئات من التونسيين، 1000 تونسي في بعض التقديرات، وسقط 30 جنديًا فرنسيًا فقط. ولم تخرج فرنسا من تونس نهائيًا إلا في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1963.

المعارضة الشبح

لم تكد تونس تتخلص من المستعمر الفرنسي حتى بدأت المحن الداخلية في التراكم. مجموعة من العسكريين والقضائيين تورطوا في محاولة انقلابية فاشلة على بورقيبة، فقدّموا جميعًا للقضاء العسكري وكان حكم الإعدام هو مصير أغلبهم. الانقلاب الفاشل أدى لتجريم الحزب الشيوعي التونسي، وحلّ الحزب الدستوري القديم، فباتت المعارضة طيفًا خافتًا يمارسه بعض المقيمين في الخارج وأقليات حزبية.

خروج الفرنسيين، بصفتهم أصحاب رأس المال، أدى لتدهور المناخ الاقتصادي، فاضطر بورقيبة إلى ترك التنمية وتبني الاشتراكية عام 1962. وفي عام 1964 أعلن الحزب الدستوري الحر تغيير اسمه إلى الحزب الاشتراكي الدستوري، وبات أحمد بن صالح رئيس الوزراء وحامل 6 حقائب وزارية هو المسئول عن تحقيق رغبة بورقيبة من هذا التحول للاشتراكية.

فشل بن صالح في مهمته لدرجة أن أودعه بورقيبة السجن، وكوّن وزارة جديدة تحت قيادة الباهي الأدغم، ثم تركها بعد أقل من عام للهادي نويرة. فترة السبيعينيات بدأت بنجاح ملحوظ لنويرة ونمو الاقتصاد في الأرقام الرسمية عبر العديد من القرارات الداعمة للتصدير على حساب السوق المحلي.

لكن في نفس الفترة بدأت تونس تدخل نفقًا جديدًا مع بورقيبة. فاستطاع تكتل الوزير أحمد المستيري بالفوز بأغلبية داخل الحزب بضرورة تغيير النظام السياسي، لكن بورقيبة لم يكترث بهم ودعا لمؤتمر جديد للحزب سرّح فيه العديد من تلك الأغلبية التي عارضته. وفي عام 1974 فجّر بورقيبة مفاجأةً بإعلانه وثيقة الوحدة مع ليبيبا، لكنه سريعًا ما تدارك الأمر وسحب الوثيقة، لكن ظل الأمر في نفس معمر القذافي، الرئيس الليبي آنذاك.

انتفاضة الخبز

عام 1975 تم تغيير الدستور التونسي ليصبح بورقيبة رئيسًا مدى الحياة، وأصبح الوزير الأول خليفته الدستوري. تدهورت صحة الرجل القوي فبدأت الانشقاقات تدخل إلى الأسرة، نويرة ووزير الداخلية ومدير الحزب الاشتراكي كرجال أقوياء في جهة، وأمين الاتحاد التونسي العام للشغل ووسيلة بورقيبة ووزاء آخرين في جهة أخرى، وأصبح الطرفان كفريقي كرة قدم يتنافسان على الفوز، لا بكأس بطولة، لكن بحكم تونس.

بينما الوضع مشتعل في القصر، اشتعل في خارجه أيضًا. عام 1978 إضراب عام لقادة الاتحاد التونسي للشغل، فتدخل الجيش لإنهاء الإضراب، وتم إنهاء بضريبة 51 قتيلًا و325 جريحًا. الإضراب وما تلاه من إقصاء بورقيبة للفريق المنافس، ساهم في تعزير منصب ونفوذ نويرة وفريقه.

الثمانينيات أتت لتونس بما لا تتوقع، دخول مجموعة من قوات الكوماندوز بتمويل من القذافي لزعزعة استقرار الحكم في 26 يناير/ كانو الثاني 1980. ولاحقًا أصيب نويرة بجلطة دماغية فبات غير قادر على العمل، فحلّ محلّه وزير التربية محمد مزالي. مزالي دعا للانفتاح وأسس انتخابات تعددية عام 1981، لكنها كانت صورية فحسب، وحال التزوير دون فوز المعارضة بأي شيء.

عام 1984 ارتفع سعر الخبز لارتفاع سعر الدولار وانخفاض سعر المعادن التي تعتمد تونس على تصديرها فانتفض العامة ضد ارتفاع أسعار الخبز. نجح بورقيبة في تهدئة الناس وإلغاء الأسعار الجديدة. أمّا مزالي فاتهم وزير الداخلية بالتباطؤ في التعامل لتأزيم الوضع، فأُقيل وزير الداخلية في نفس العام.

زين العابدين يقتنص البلاد

الأعوام المتتابعة حتى نهاية الثمانينيات شهدت انهيارات تونسية على مستويات عدة، فضرب الطيران الإسرائيلي مقر منظمة التحرير الفلسطينية عام 1985 في تونس.

وفي نفس العام طرد القذافي آلاف العمال التونسيين فوقعت الحكومة التونسية في أزمة جديدة مع الاتحاد العام للشغل، فلم يجد بورقيبة بدًا عام 1986 من إقالة مزالي وتعيين الاقتصادي رشيد صفر مكانه.

إرهاصات لتغيير هائل قادم، طلاق بورقيبة وإبعاده ابنه من دائرته وتخلصه من مستشاريه القدامي، وعلى النقيض زاد من الميل لابن اخته سعيدة ساسي. أخته سعيدة مقرّبة من رجل يشغل منصب وزير الداخلية يُدعى زين العابدين بن علي. بتلك الصلة بسط زين العابدين يده على كافة الأجهزة الأمنية.

عام 1987 عُين زين العابدين وزيرًا أول وأمينًا عامًا للحزب مع بقائه وزيرًا للداخلية، فتركزت في يده كافة الصلاحيات. لذا لم يكن مفاجئًا أن يُفكر الرجل بعد أقل من شهر من تعيينه في تلك المناصب أن يُعلن اضطلاعه بمهام الرئاسة التونسية لعدم قدرة بورقيبة الصحية على ممارسة مهامه، وأدى زين العابدين القسم في نفس اليوم ليغلق أي باب للجدل.

نفوذ الزوجة يخنق الشعب

وكقربان لطمأنة الرأي العام أعلن زين العابدين أنه سيلغي مبدأ الرئاسة مدى الحياة، وسيسمح بتعددية سياسية وألغى محكمة أمن الدولة وأفرج عن المعتقلين.

لكن سريعًا ما عادت بوادر انغلاق الأفق السياسي مرة أخرى للواجهة بعد فوز سهل في الانتخابات الرئاسية لابن علي بعد دعم راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي وغيرهما للرجل الجديد، وهزيمة مخيبّة للآمال للمعارضة في الانتخابات البرلمانية، فانسحب قادة المعارضة من الحياة السياسية، وترك الغنوشي البلاد، حتى أتى عام 1992 بالتضييق القانوني على أعمال حركة النهضة السياسية.

نفوذ زوجة بن علي، ليلى الطرابلسي، وأقاربها، وأقارب بن علي، أخذ في الازدياد. وفوزه المتكرر في الرئاسة بنسبة تقارب 100% كشف جليًا أنه لا نية للرجل في الإصلاح. وأخذت الأمور في التعقد والاحتقان أكثر بمرور الأعوام، فأخذ بن علي في تعديل الدستور بما يزيد صلاحياته ويمنحه حصانة أكبر ويمكنه من تمديد ولايته.

 وزادت سطوة أصهاره وأصبحت دائرته العائلية والاستشارية هي من تُسيّر البلاد. وارتفعت البطالة واستشرى الفقر وأرعدت سماء تونس حين أحرق محمد البوعيزيزي نفسه عام 2010 لتبدأ احتجاجات طوفانيّة لم تهدأ وإلا قد اقتلعت بن علي، الذي حاول قمعها أولًا ثم الانحناء لها ثانيًا، لكنها كانت عصية على القمع ولم تقبل انحناءه ورضيت فقط بخلعه.