للمرة الثانية في نفس العام تعيش لندن حالة من الاضطراب بسبب إضراب الأطباء المبتدئين. الإضراب الثاني سيصل إلى 96 ساعة كاملة. الأطباء يطالبون بزيادة رواتبهم بنسبة 35%، خصوصًا أنه منذ سنوات طويلة لم تحدث أي زيادات في رواتبهم. لكن على الجهة الأخرى لم يتوقف التضخم عن نهش قدرتهم الشرائية، فبلغ التضخم نسبة 26% إذا ما قُورن بنفس المرتب منذ 10 سنوات مضت.

مرتب الطبيب المبتدئ في المملكة المتحدة يبدأ من 29 ألف جنيه استرليني سنويًّا، ما يعادل 36 ألف دولار سنويًّا. إذا ثبتنا الاسترليني كعملة للمقارنة، فسنجد أن الطبيب المبتدئ في الولايات المتحدة يبدأ راتبه السنوي بـ 40 ألف جنيه استرليني، أما أستراليا فتتفوق على الجميع بمرتب يبدأ من 60 ألف جنيه استرليني.

الأزمة – وإن كانت في الوقت الراهن تخص الأطباء – هي أزمة القطاع الصحي البريطاني كاملًا.  ففي ديسمبر/ كانون الأول عام 2022 دخلت فرق التمريض إضرابًا غير مسبوق، لنفس السبب الذي يضرب الأطباء لأجله اليوم. فقد انضم للإضراب 100 ألف ممرض وممرضة. وفي نفس الشهر شهدت بريطانيا إضرابًا لسائقي سيارات الإسعاف كذلك، لنفس السبب.

النظام الصحي البريطاني يعاني من نقص في التمويل معترف به منذ عام 2010. فميزانية النظام الصحي عام 2020 في بريطانيا تعادل 7.6% من الناتج المحلي، وللمفاجأة فإنها نفس النسبة التي كانت محددة للقطاع الصحي عام 2012. رغم ارتفاع تكلفة العلاج، وزيادة عدد السكان. نسبة موازنة الصحة البريطانية كانت ترتفع تاريخيًّا بنسبة 4% سنويًّا. لكن بعد الأزمة المالية العالمية، عام 2008، حدث تقليص كبير في نفقات الخدمات العامة عمومًا، ولذلك لم ترتفع موازنة الصحة بأكثر من 1.5% لسنوات عديدة.

عاودت الميزانية الصحية ارتفاعها بعد الجائحة الوبائية، خصوصًا حين رُبطت نسبة الوفيات المرتفعة بنقص الطواقم الطبية وعدم قدرة الطواقم الطبية على القيام بواجبهم في ظل العجز القائم. لكن رغم هذا الارتفاع في الميزانية، تعاني بريطانيا من نقص مزمن في الأموال المخصصة لوزارة الصحة. يتضح ذلك في عدد أسرة المستشفيات في بريطانيا التي تبلغ 2.5 لكل ألف شخص. بينما في فرنسا مثلًا تبلغ 6 لكل ألف، وفي ألمانيا تبلغ 8 أسرة لكل ألف مواطن.

أما على مستوى أفراد الطاقم الطبي، فرغم أن مرتبهم يبدو مرتفعًا عن السنوات السابقة، إلا أن التضخم في الماضي كان مقيدًا عند 2% كحد أقصى. بينما حاليًّا تقول المواقع المالية البريطانية في تقديراتها المتوسطة إن الأسرة البريطانية المكونة من 4 أفراد تحتاج إلى 38 ألف جنيه استرليني كحد أدنى لتغطية الحاجات الأساسية. لذلك لم يتردد الأطباء، بأغلبية 98%، في الموافقة على دعوة الجمعية الطبية البريطانية، بي إم إيه، للدخول في إضرابات متتابعة حتى تحقيق المطالب.

مزيد من الإنهاك للنظام

الجمعية تدرك أنه بتنظيمها لهذه السلسلة من الإضرابات ستؤدي إلى تأخير آلاف العمليات الجراحية المقررة، وزيادة أعداد المرضى في المستشفيات لعدم تلقيهم الخدمة الطبية سريعًا. حتى في حالة وفاة الحالات، فإن الجنازات سوف تتأخر لعدم وجود فئة الأطباء المُخوَّل لها إصدار شهادات الوفاة. علاوة على ذلك فمن المتوقع أن يصل عدد العمليات الجراحية غير العاجلة المُلغاة جراء هذا الإضراب إلى 350 ألف عملية.

ولسد العجز الناتج عن غياب الأطباء المبتدئين سيتوجب على الاستشارين حل محلهم، ما سينتج عنه عجز شديد في العيادات التخصصية. ما يعني أن أثر الإضراب، حتى إذا تحققت المطالب، سوف يمتد لشهور لاحقة. هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، إن إتش إس، قالت إن قوائم الانتظار وصلت إلى 8.3 مليون مريض.

 فبعد الإضراب الأول في مارس/ آذار، وصل معدل انتظار المرضى في بعض التخصصات الطبية إلى أكثر من 17 أسبوعًا. حتى الحالات العاجلة، مثل حالات الأزمة القلبية، سجلت معدل انتظار بلغ 90 دقيقة، وتلك مدة يمكن وصفها بأسوأ معدل وصلت له المملكة المتحدة. للمقارنة يجب العلم أن متوسط انتظار مرضى الجلطة والأزمة القلبية يجب أن يكون 32 دقيقة بحد أقصى.

وإذا علمنا أن من المعتاد أن يقضي بعض المرضى في الأيام العادية التي يسير فيها العمل بشكل طبيعي قرابة 4 ساعات من الانتظار قبل حصولهم على الخدمة الطبية، يمكن تخيل حجم الانتظار في الأيام الراهنة، أيام الإضراب. كمحاولة لتقليل هذا الضغط نُشر العديد من التحذيرات للمرضى بعدم زيارة الطوارئ إلا في الحالات المهددة للحياة.

تجاهل حكومي للأزمة

كعادة إضرابات الأطباء يتم التخطيط مسبقًا لضمان ألا يؤثر ذلك على حياة المرضى. نجد ذلك في تصريحات لطيفة باتيل، رئيسة القوى العاملة بالجمعية الطبية البريطانية، فقد أوضحت أنه خلال إضراب مارس/ آذار، تم التخطيط مع اتحادات الصحة في إنجلترا، لتقييم استعدادات المستشفيات للإضراب. كما قالت إن هناك نظامًا متفقًا عليه لضمان سلامة المرضى في حالة الظروف القصوى أو غير المتوقعة.

وأوضحت ذلك للأطباء في بريد إلكتروني أرسلته إليهم الجمعية الطبية، وحصلت إضاءات على نسخة منه، لطمأنتهم على سلامة المرضى. وأن الاتحادات الطبية ملتزمة بتأمين سلامة المرضى وعلاجهم. وأن العديد من الدراسات أثبتت أن إضراب الأطباء المبتدئين لا يؤثر بشكل مباشر على حياة المرضى، ويمكن للنظام الصحي التخفيف من أثر غيابهم.

وتتابع الجمعية الطبية البريطانية سير العمل في المستشفيات بشكل لحظي. وأوضحت باتيل أنه حتى اللحظة لم يحدث ما يستدعي فك الإضراب، لهذا فالإضراب ماضٍ في طريقه. باتيل قالت إن الأطباء المبتدئين لم يكونوا من أنصار فكرة الإضراب في البداية، لكن تقاعس الحكومة طويل الأمد هو ما دفعهم للإضراب. وأشارت إلى رغبتهم في إنهاء المسألة في أسرع وقت، لكن ينتظرون قبول وزير الصحة مطالبهم، أو جلوسه إلى طاولة المفاوضات بحلول واقعية للأزمة.

وزير الصحة، ستيف باركلي، وصف مطالب الأطباء بأنها غير واقعية. وأن الإضرابات هدفها متجاوز لزيادة المرتب، ويمكن أن تصل إلى زعزعة استقرار المملكة.

وبدلًا من تقديم حلول، قدمت الحكومة مشروع قانون بإجراءات عقابية للمضربين، إذا عجزت المؤسسات التي يعملون بها في تقديم الحد الأدنى من العمل. القانون لاقى معارضة من مختلف النقابات، بوصفه ضد حقوق الإنسان البريطاني عمومًا.

العصا بدون الجزرة

نبرة التهديد كانت حاضرة كذلك في رسالة مسربة من اتحاد لوشيام وغيرينتش.

الرسالة شديدة اللهجة قالت إن أي طبيب مُهاجر، من خارج بريطانيا، أو طبيب دولي، كما تصفهم الجمعية البريطانية، سيتعرض لعدم تجديد تأشيرته حال اشتراكه في الإضراب، ولن يتم تجديد عقده كذلك. لاحقًا تم نفي الرسالة من الإدارة الرسمية للاتحاد، وقالوا إنها رسالة شخصية من موظف غاضب لمجموعة من الأطباء، وليست هي القناعة الرسمية للاتحاد.

ولطمأنة الأطباء من تلك النقطة، أرسلت الجمعية الطبية البريطانية، بريدًا إلكترونيًّا للعديد من الأطباء تخبرهم فيها باستعدادها لمناقشة الطبيب في أي مخاوف لديه بخصوص تعليق عمله حال مشاركته في الإضراب.

 

لكن عمومًا حالة السخط من الأطباء لم تمنع القانون العقابي من التحرك. فقد مضى البرلمان بخطى ثابتة في تفعيل القانون، وهو الآن في مرحلته قبل الأخيرة، أي قبل التنفيذ مباشرة. يُبرر البرلمانيون موافقتهم على هكذا قانون أنه يجب الموازنة بين حقوق العمال في الإضراب، وقدرة المواطنين على الحصول على الخدمات الطبية المهمة.

تدور الشائعات حول أن الحكومة البريطانية حاولت حل الموضوع لكنها لاقت تعنتًا من الأطباء. لكن بالعودة للتاريخ 16 مارس/ آذار الماضي، سنجد أن الحكومة عرضت زيادة قدرها 6% في الرواتب. رغم أنها زيادة أقل بكثير مما يتوقع الأطباء، لكنها حتى لم تكن تستهدف الأطباء، على اختلاف مستوياتهم الوظيفية. بل كانت موجهة لطواقم التمريض والإسعاف فحسب، دون أي إشارة للجمعية الطبية البريطانية وأعضائها.

رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، يتعرض للضغط من أجل إنهاء الإضراب في أقرب وقت. خاصة أن الإضراب يعيقه من تنفيذ أبرز وعوده بإنهاء قوائم الانتظار. لكن هذا الضغط لا يعني دفع الرجل للاستجابة للمطالب.

فالتغطية الإعلامية البريطانية تتعامل مع الإضراب بحالة من التهوين من قدره، وفي نفس الوقت تُبرز مطالب الأطباء بغير الواقعية ومن غير الممكن تحمل تكلفتها. هذا الخجل الإعلامي في التناول، الذي قد يرقى لحالة التضليل المتعمد وحشد الرأي العام ضد الأطباء، يعطي مساحة كبيرة لسوناك ولباركلي، في المناورة وإظهار الأطباء بمظهر الطامعين فحسب.

 

لذا نجد في رسائل البريد الإلكتروني التي وجهتها الجمعية الطبية لأعضائها توضيحًا لتلاعب وزير الصحة بالإعلام وبالإضراب. باركلي أوضح أكثر من مرة أنه يريد من الأطباء الجلوس لطاولة المفاوضات، وأنهم هم من لا يحضرون الاجتماعات التي يعقدها. تكشف لنا الجمعية البريطانية أنهم تلقوا خبر إعلانه بداية المفاوضات بترحاب بالغ بعد الإضراب الأول.

لكن حين وصلوا لمقر الاجتماع المزمع لم يظهر باركلي. وحتى مسئولو الصحة الذين جلست معهم الجمعية لم يظهروا تفهمًا لمطالب الأطباء، ولم يقدموا عروضًا حقيقية.

مزيد من التصعيد ينتظر

وفي توضيح لاحق في نفس البريد الإلكتروني، أعلنت الجمعية أن باركلي عرض عليهم اجتماعًا آخر، لكن كان شرطه فك الإضراب قبل أي محادثات. وهو بالطبع ما رفضته الجمعية، ولا يمكن القبول به عمومًا، فتلك خدعة قديمة، ومناورة مستهلكة في حل الأزمات، غالبًا لا يتبعها أي حل.

 

أما حين التقوا بوزير الصحة، وبدأ الاجتماع، فقد كشفت الجمعية عن أن الرجل لم يبالِ بتقديم أي اقتراح لحل الأزمة، ولم يناقشهم في مطالبهم، واكتفى بالتأكيد أنها لن تُنفذ. الأمر الذي أعطى انطباعًا واضحًا للجميع، أن الدولة لا تأخذ مطالبهم على محمل الجد. لهذا لم يعد أمامهم سوى تصعيد الإضراب.

 

وفي بريد إلكتروني لاحق، كشفت الجمعية للمشاركين في الإضراب، أن وزير الخارجية تدخل في الأزمة. لكن تدخله تأكيد لموقف باركلي، أن المطالب غير واقعية. ولم يُكمل وزير الخارجية الاجتماع، بل غادره وترك الغرفة.

 

من الجلي أن الطريقة الحالية في إدارة الأزمة لا يمكن أن تصل بها إلى بر الأمان. وأن الوضع يتجه إلى مزيد من التصعيد ما لم تتعامل الحكومة البريطانية بجدية مع مطالب الأطباء، وتحاول الوصول إلى منطقة وسط يتوافق عليها الجميع. لكن السياسة المتبعة حاليًّا تنذر بالمزيد من الإضرابات والاضطرابات، وهو ما ستؤكده أو تنفيه الأيام القادمة.

خصوصًا أن الأطباء والعاملين في القطاع الصحي قد شبعوا من الوعود المرسلة بتحسين أحوالهم، وفي كل مرة كانوا يتعرضون لنكث الوعود، أو للخيانة كما يصفها العاملون في القطاع الصحي، وهو ما يبدو أنهم حريصون تمامًا على ألا يتكرر هذه المرة.