على شريط الساحل الغربي من شبه الجزيرة الماليزية، وما بين مرتفعات جبال (جيراي) التي تطل على مدخل مضيق ملاكا أو ملقا التجاري، يختبئ وادي (بوجانغ) Bujang Valley، المليء بالخبايا والأسرار التراثية والتاريخية غير المكتشفة، في مساحة شاسعة تُقدَّر بـ 224 كيلومترًا مربعًا، ضمن منطقة تُدعى (ميربوك) بولاية (قدح) الواقعة في شمال ماليزيا.

محور أقدم الحضارات البائدة

تشير الدراسات الأثرية والأنثروبولوجية في ماليزيا إلى أن وادي بوجانغ كان محور أقدم الحضارات البائدة في جنوب شرق آسيا، وذلك بعد اكتشاف آثار وأنقاض تعود إلى أكثر من 2000 عام في منطقة كانت تعتبر ذات يوم مركزًا تجاريًا دوليًا مزدهرًا، فيما لم تزل عمليات التنقيب والبحث جارية لاستكشاف مكنون وادي بوجانغ الذي يعني في اللغة السنسكريتية القديمة «الثعبان التنيني».

يقول المؤرخ الماليزي، فيي ناداراجان، في كتابه (وادي بوجانغ: عجائب ولاية قدح القديمة) إن الوادي كان ميناءً تجاريًا محوريًا في جنوب شرق آسيا حسب الاستكشافات الأثرية وكتابات البحّارة الصينيين والعرب. وبحسب ما وُجد في كتب الأدب والتراث الهندية، فقد نشأت مملكة مزدهرة وصاخبة في هذا الوادي، الذي وُصف خلال القرنين الثاني والرابع عشر الميلاديين بـ «مقر كل السعادة».

وحسب تلك الروايات فقد كانت منطقة وادي بوجانغ أول ميناء في إقليم جنوب شرق آسيا عبر طريقه البحري، الذي كان بمثابة طريق بديل للصين أو الشرق الأقصى، ليحل محل طريق الحرير الشهير الذي كان يربط الصين بالعالم عن طريق البر.

ومما يؤكد وجود ميناء في المنطقة اكتشاف علماء الآثار وجود بقايا لمصانع صهر الحديد وبقايا سفن وقوارب تجارية مدفونة في جبال الوادي يعود تاريخها إلى أكثر من 2000 عام، وذلك يشير إلى أن المنطقة كانت ميناءً رئيسيًا مهمًا لتصدير الحديد العالمي، فيما لم تزل الحفريات والاستكشافات قائمة لإظهار معالم تلك المصانع وتاريخ السفن والقوارب من قبل جهات حكومية وأكاديمية في ماليزيا.

ملتقى الأديان

إلى جانب كونه مركزًا تجاريًا، أفاد المؤرخ الماليزي ناداراجان أن الوادي كان يعتبر نقطة محورية لانتشار الهندوسية-البوذية في جنوب شرق آسيا خلال فترة القرن الثالث إلى القرن الثاني عشر، حيث تشير الروايات الإقليمية إلى أن الوادي كان جزءًا من إمبراطورية (سريفيجايا) البائدة، وهي مملكة ملايوية قديمة تمركزت في جزيرة (سومطرة) الإندونيسية، وأثّرت خلال تلك الفترة على ثقافات وديانات العديد من المملكات والسلطنات في جنوب شرق آسيا، أو ما يُعرف قديمًا بأرخبيل الملايو.

وفي الروايات الماليزية يتحدث الباحث في مركز الدراسات الأثرية بجامعة العلوم الماليزية، ناشا رودزيدي، في محاضرة افتراضية حول سيطرة مملكة (قدح توا) القديمة على منطقة وادي بوجانغ منذ القرن الثاني الميلادي، حيث كان أفراد هذه المملكة الملايوية يعبدون أرواح الجبال قبل اعتناقهم واندماجهم الديانة والثقافة الهندوسية-البوذية، وذلك مع إقبال التجار من القارة الهندية، وقبل دخول الإسلام إلى أرخبيل الملايو.

وأشار روديزدي إلى بعض المصادر العربية التي ذكرت وجود مملكة (قدح توا) القديمة وتأثرها بالثقافة الهندية ثم العربية الإسلامية، مثل كتاب «أخبار الصين والهند» لأبي زيد السيرافي، وكتاب «مختصر العجائب» لإبراهيم بن وصيف، وكتاب «معجم البلدان» لياقوت الحموي، وكتاب «نزهة المشتاق» في اختراق الآفاق لمحمد الإدريسي.

موقع تراثي عالمي

يجادل علماء الآثار والانثروبولوجيا في ماليزيا بأن مملكة (قدح توا) هي أقدم بكثير من الحضارتين المسجلتين في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) كأقدم حضارتين في جنوب شرق آسيا، وهما حضارة (بوروبودور) بجزيرة (جاوا) الإندونيسية التي تعود إلى القرن الثامن الميلادي، وحضارة (أنغكور وات) في شمال كمبوديا التي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي. لكن الجانب الماليزي لم يُقدِّم أي إثباتات تاريخية تؤكد ذلك مع استمرار عمليات التنقيب والبحث لاستكشاف مكنون وادي بوجانغ.

بدأت أعمال الحفر والاستكشاف في منطقة وادي بوجانغ خلال فترة الاستعمار الإنجليزي لماليزيا في عام 1864، وتم توثيق 30 موقعًا لمعابد هندوسية-بوذية تدعى (شاندي) خلال الفترة ما بين 1936-1940، ومنها أكبر معبد في الوادي وهو (شاندي باتو باهات).

ومنذ سبعينيات القرن الماضي أجرى علماء الآثار الماليزيين والغربيين بحوثهم ودراساتهم في منطقة الوادي، وأعادوا بجهودهم الشخصية بناء بعض المواقع التراثية، وقاموا بجمع أعداد من القطع الأثرية المكتشفة في متحف أثري تأسس عام 1978.

يحوي هذا المتحف الأثري الخاص بوادي بوجانغ عددًا من القطع الأثرية المنحوتة على الأحجار وأوعية الفخار، إضافة إلى مصبات المياه والدعائم والأعمدة الحجرية، وكذلك الحلي والإكسسوارات والتماثيل البوذية والأيقونات الهندوسية.

ومنذ عام 2017 تكاثفت الجهود في أعمال الاستكشاف والحفريات من قبل علماء الآثار والأنثروبولوجيا الماليزيين على بقايا المعابد ومواقع صهر الحديد والنصب الفخارية في مساحة شاسعة تقدر بـ 224 كيلومترًا مربعًا.

ومع استمرار تلك الاستكشافات، لم تزل العديد من الروابط التاريخية غامضة حول تاريخ وادي بوجانغ، نظرًا لعدم كفاية المراجع التراثية والأدبية والدينية، فيما استند بعض المؤرخين على الروايات الشعبية والتأريخ الشفوي، لا سيما في أدبيات الهند التي أشارت إلى وجود عربات من الجواهر الذهبية في كهوف مخفية بمكان ما في بطون جبل (جيراي) الذي يقع عليه الوادي.

وتسعى وزارة السياحة والثقافة الماليزية منذ عام 2013 إلى الحصول على اعتراف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بوادي بوجانغ كموقع تراثي عالمي، إلا أن أعمال الهدم للتطوير والبناء للتوسع السكني في المنطقة طالت بعض المعابد والمواقع التراثية التي لم تُكتشف بعد، وسط احتجاجات عدد من الأكاديميين والمنظمات الحقوقية لوقف مثل هذ الأعمال، فيما تعهدت الحكومة المحلية في ولاية قدح الماليزية بالحفاظ على ما تبقى من تراث المنطقة، لتصبح وجهة سياحية جاذبة تعزز صناعة السياحة التراثية المحلية والعالمية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.